}

الكتابة والفراغ: في توليد معنى متجدّد

فدوى العبود فدوى العبود 31 مايو 2024
آراء الكتابة والفراغ: في توليد معنى متجدّد
الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو (Getty)
في مؤلفه المؤثر "ست نزهات في غابة السرد" يميز الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو بين السرد والواقع الفعلي، مشدّدًا على العلاقة بين الكونين؛ وهو يقدم إحدى خُلاصاته: "قد يكون الكون السرديّ، أقل أو أكثر بقليل من الكون الواقعي"؛ فالصِلة بينهما تتحدّد من طرف القارئ الذي لا يقلّ أهمية عن المؤلف، وتبدو العلاقة بحسب فهم إيكو في هذا الكتاب عملية تنظيم: الأول، للثاني.
لكن هل هو حقًّا تنظيم؟
إنّ تتبُّع البدايات يعكس الرغبة الإنسانيّة في توسيع العالم؛ وتلافي محدوديّة وقصور الواقعيّ. وفي رؤية أخرى: تبدو الكتابة أسلوبَ مقاومةٍ جذّاب ومؤثّر لواقع تُربِكنا مفرداته، كالموت والحب والفقد. ومن دونِ شك، فإن تحلّق مجموعة من الأشخاص حول نارٍ مُشتعلة يُغري بالحكي. ودائمًا هنالكَ راوٍ واحد، وكثير من المستمعين.
من هذه البذرة نشأت الحكاية، ولكن، وفي مرحلةٍ لاحقة، ومع تطوّر علم النفس، والفن، والسينما وأساليبها، من تقطيع وتقديم وتأخير ومشهديّة؛ سَينهلُ الخيال من منابع جديدة، وستظهر الكتابة كخطوة متقدمة في رؤية العالم. لكنَّ الأخيرةَ ستحافظ بوعي، أو من دونه، على الرؤية التقليدية للعالم (كامتلاء)، لذا ستعمد لتثبيت أوتاده المتصدِّعة عبر اللغة.
لقد تحوّل الحكواتيّ إلى مؤلف للنص، ودخلت تقنيات وأساليب جديدة في الكتابة؛ لكنّ ذلك لم يكن كافيًا لخلقِ رؤيةٍ متحررةٍ من يقينيّات الفكر السببيّ ونظرته للعالم. سيعكس القصُّ في هذه المرحلة رغبةَ الإنسان بإضفاء التنظيم على الحياة، والخوف من تفتيت أي عنصر في هذا النظام الوجوديّ. وتعجز هذه الرؤية التقليدية للعالم عن الإمساك بالصدع، لأنّ الإضافة الحقيقية للفن والأدب ماثلة في ألاّ يخون خيارات الحياة. فمن يستطيع أن يزعم أن حكايةً في حياته قد اكتملت يومًا؟ أليس العالم هدمًا وبناءً مستمرين، فتنتهي لحظة زمنية لتبدأ غيرها، ألا نهرب للحب لنخفف سلطة الموت، ونلوذ بالفن لنغطي على الفراغ في أعماقنا، فكيف للكتابة أن تكون امتلاءً وحسب!
في هذا النوع تفتن الكتابة باللانهاية والتكرار، ولن يتأخر باشلار في جعله نقطة وجود جديد متسائلًا: "فلماذا المضي للبحث بعيدًا عن العدم. ولماذا التفتيش عنه في الأشياء؟ إنّه فينا، منتشرًا على امتداد أيامنا، كاسرًا في كل لحظة حبنا، إيماننا، مشيئتنا، وفكرنا". فالحياة هي المتغير الذي نحاول عبر اللغة أن نمنحه صلابة وديمومة، وعلى العكس تؤثث هذه الكتابة نفسها فوق الوحدة والخواء، إنها قوّة المحو.
وهو ليس غيابًا للوجود، بل حالة من حالاته، وينطبق على هذا النوع من الكتابة وصف إيتالو كالفينو في إطار تنظيره حول روايته "لو أن مسافرًا في ليلة شتاء"، يقول مخاطبًا قارئه الصبور: "وهكذا تنظر إلى هذه القصة، بكل إحكامها المضفور بالأحاسيس، وهي تتصدع فجأة بوهادٍ بلا قرار، كأن الادعاء بتصوير حياة نابضة ينجلي عن خواء في أساسه، وأنت تحاول القفز فوق الفجوة"؛ والفجوة هي ما لا يمكن أن نراه أو نسمعه، لكن هذا لا يعني أنه غير موجود. فهل يعني العجز عن رؤيته إلغاء حقه في الوجود؟
تعكس أسلوبية الكاتبة نتالي ساروت العبارة التي تقول بأننا لا نبدأ من الوجود، بل نكتب "بحركة موت". وتمثل رائدة الرواية الجديدة في كتابها "انفعالات" هذه الفكرة، معبَّرًا عنها في حركات بلا معنى، وكتابة مقطعة ومتشظيّة.
إن أسلوبيّة ساروت تظهر في قطع التدفق الحيويّ للغة من خلال العبارة المبتورة، وعبر النقاط، فالفراغ مشعورًا به بين حركة وأخرى من وضعيات شخصياتها. وفي القصة "رقم 1" تتسمر الشخصيات أمام واجهة ألعاب لتعكس حركاتها انفعالات لا مرئية تثير مخيلة القارئ، ليتلمس ما وراء هذه الحركات، فالسلوك هنا ليس بحدّ ذاته سوى دلالة على فجوة ما.




وفي القصة رقم 2، تصور الثرثرة بين الأم والطاهية، ليكشف القارئ عن الفزع الذي يهيمن على فراغ الذات، وأن انفعالات ساروت هي الكشف عن الضجر تحت مظاهر الحياة، بالتركيز على أشدّ حركات الجسد دقة. بينما وفي القصة رقم 6، تصور سطوة الأشياء التي تتملكنا حين تتبادل الأدوار فنصبح سجناء لها.
إنه المضمر في النص، وتباعد الأحرف والنقاط بين الجمل والكلمات والمساحةً البيضاء المتشكلة بين قول وقول؛ وهو ما لا يمكن اجتيازه، فنعبِّر عنه بالنقاط لضرورة جماليّة وفكريّة في الكتابة، ولإظهار المخفي زورًا، أو طوعًا، وبينما يبدو أن الجسد في وضعية ثابتة خالٍ من أي حدث، فإن ساروت تسبرُ هذا الثبات في الحركة العفوية، وما تتضمنه من معنى.
ويمكننا العثور على (المعادل الفنيّ)، أو المقابلات الشعرية، في أمثلة متعددة منها كتاب "الكاتب والآخر" لــ كارلوس ليسكانو، فالكتابة لديه تبدأ من (استحالة الأخيرة)، وهي لحظة تؤرق الكاتب، لكنه لا يدونها، مع ليسكانو يتحول الخواء إلى فعل جوهري، حيث يملأ لحظات الجدب الجافة، ويشرِّح توترات الذات القلقة، ويمزق سكون العدم، يحدثنا عن ليال من الانتظار للاّشيء، وفي الشذرة الثانية يصارحنا: "ثمة صعوبة في أن أكتب مسجون. لا أعرف كيف أخرج من التكرار".
وفي موضع آخر من الشذرة ذاتها يسميّه: "القلق المطلق داخل غياب الحركة"، الأدب عنده لا يخلُص لشيء "وإن ظننت أنك قد خلصت إلى شيء حاول أن تمحوه على الفور"، وهو يرصد هذه الأيام الجرداء من دون كتابة، ويصف الخواء الذي يحيط بحياته بشاعرية: "ها أنا أسقط في الفخ: امتداد مقفر، صمتٌ لأيام وأيام". وكلما تقدمت عملية الكتابة يتابع الإيغال في اللاّشيء، الماثل في الشك والتيه وعدم الإيمان بالذات، والذي يتفاقم في لحظات الإحباط القصوى "إن أفضل ما يمكنك القيام به هو أن تغلق فمك، وتبحث عن شغل عادي، وتتوقف عن الاعتقاد بأن لديك ما تقوله، لأن القول لم يواتك يومًا".
وبهذا يشيّد ليسكانو بنيانه الجماليّ على الشك، وفي مسوغات كل كلام، وكأن النص دعوة للصمت. ويصف بدقة هذا الفراغ الذي يتأتى من غياب الرغبة والأمان والقلق والغربة، وهي مناطق جرداء، ومنه يبني نصه الجمالي واللغوي متسائلا كل ثانيتن: عن الجدوى!
هذا السؤال، باعتباره ينتمي للمساحة المُغفَلة، ما كان له يومًا أن يدخل التدوين، وبهذا فإنه في التصور الأول له هو نفي المعنى، وهو يشير أيضًا إلى اللامرئي بأثره الفاعل والخفي في الوجود. وهو ليس إلا تعبيرًا عن الرفض. وفي الضجر والسأم، وهو وجود أصيل ومواجهة شجاعة لما يقلقنا، يكمن فراغ ليسكانو، في النقطة الفاصلة بين أناه وبين الآخر الذي يتغذى عليه، مدعيًّا أن الآخر هو من ابتكره، فالسجن والنفي، وهي ما تتغذى عليه الكتابة في تجربته التي يمثلها بوضوح عمله الآخر "عربة المجانين" تجعله، وعوضًا عن أن يدخل نسق الحياة: يتفكر فيه.
تهدف القصة التقليدية إلى طمأنةِ قارئها على عالم المعاني، لكن قوة الكتابة هي اختبار لهذا اليقين، وتوليد فهم جديد، وإن كان تاريخ الإنسان بناءً للأخير، أملًا بإضفاء النظام على ما يفتقر إليه، فإن "كتابة الفراغ" ليست إلا هدمًا لتوليد معنى متجدّد.
إنها كتابة الصمت الذي يتضمن أكثر مما يقوله الكلام. والكتابة قد تبدأ من امتلاء، لكن سؤال المعنى، لا تكريسه، يطرحه الإنسان على نفسه كونه يتعلق غالبًا بجوهر الكتابة!
ولطالما كان السلب واللا أكثرَ فاعلية من قول نعم، والمسافة بين الكاتب وعمله تعني ذلك التأرجح بين الثقة والشك؛ بالطبع يمكننا تخيل العالم بطريقة أكثر فاعلية، ويمكن تصوره كامتلاء، لكن ذلك يعادل الكذب على النفس "لأن وعيك بأنك تكذب على نفسك لا يجعل الأشياء محتملةً أكثر".
من هذه الأرض البور ولدت التفاهة، وأبدعت أعظم اللوحات، وحدثت أبشع الجرائم، ومنها يولد فنان، أو ديكتاتور.
ومن الشعور بعجز الميتافيزيقا وخوائها ولد تطلّع نيتشه إلى فلسفة المعيش واليومي، ومن الغثيان والفجوة بين الإنسان وشعوره أبدع جان بول سارتر "الوجود والعدم"، و"تعالي الأنا موجود"، وتطلعات الكينونة لحريتها، ذلك أنه وحين يكشف الإنسان قسوة الواقعي، وهشاشة المثالي، فلن يرغب سوى في أن يعيش يومه، وبالعكس فحين يفلت منا الحيويّ تبني الأوهام لها جدارًا صلبًا على تنويعاته المغرية (الحب ــ السماء ــ الأمل ــ الوهم ــ المستقبل). وفي كل حال يصعب الحكم (أحيانًا تحمي الميتافيزيقا الإنسان من الشعور المروّع بالفراغ، وكثيرًا ما ترميه فيه).
إن وصف كل ما نريد قوله يختصره التميز الأساسيّ عند هيدغر بين الوجود الأصيل والوجود الزائف، أو اللاّحقيقة. واكتشافه لا يعني أننا نستطيع العيش من دونه، فمن يقدر على الاستمرار من دون المعنى يعتقد هولاندر أنه "لا عيب في ذلك، لكون خلقَ المعنى من التجربة صفةٌ إنسانية فطرية، والاعتراض عليها بمثابة أن تطلب إلى النحل أن يكف عن التلقيح".

إحالات:
ــ كارلوس، ليسكانو، الكاتب والآخر، ترجمة: نهى أبو عرقوب.
ــ نتالي، ساروت، انفعالات، ترجمة: فتحي العشري.
ــ ديفيد، هولاندر، القصص مقابل الأفكار، ترجمة: منى الرفاعي، مكتبة تكوين.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.