}

في يوم الأب: "حين تتكلم المرآة"

فدوى العبود فدوى العبود 30 يونيو 2024
هنا/الآن في يوم الأب: "حين تتكلم المرآة"
(Getty)
يحتفل العالم في حزيران/ يونيو من كل عام بيوم الأب، وأغلب ما يكتب في هذا اليوم يُضمِرُ بوعي، أو من دونه، ما يبدو أقرب لاعتذارٍ سيقرؤه الجميع باستثناء ذلك الذي يسكن الخيال الطفوليّ، منقذًا وحاميًا وساحرًا يأمر الشمس بالنهوض، وفي المراهقة لا تتفتح الذات إلاّ عبر نفيه من هذا المسكن؛ وكأن توكيد الأنا لا يتم إلا عبر القتل، حيث لا ينمو زهر إلاّ على أنقاض آخر. ويا للمفارقة، وبسلطة الزمن ذاته يعود ساحرًا، ويحدث هذا عادة حين يدرك الرجل وهو يتأمل جسده أنه أخذ بالتحول إلى والده (إنّها اللحظة التي تتكلم فيها المرآة).
ومن أسطورة أوديب إلى هاملت شكسبير، ثمة مغزى لا يمكن تجاهله: الأب حقيقة معرفيّة راسخة حتى في غيابه، بل يمكن الادعاء ــ وهذا قابل للنقاش ــ أن النتاج الفلسفي والفنيّ ينمو قرب الينابيع التي تغذيها العلاقة به. وبهذا يمكن فهم التمرد، أو العزلة، والنزعات الفكريّة بدءًا منه.

"فتّش عن الأب"
تعد رواية بول أوستر "اختراع العزلة" من الأعمال المؤثرة، فمن خلال تحليل طباع رجل أراد للعادة أن تطمسه، يحاول أوستر فتح ثغرة في وجود الأب الذي ظل عصيًّا على طفله. وإذا كان ذلك متعذرًا في حياته فإن مماته حفزّ الابن على الاقتراب من الرجل، عبر التنقيب في ثيابه وأغراضه؛ ليكشف عن جرحٍ خاص في عمق هذا الوجود، فالخفّة والتفاهة التي ميزت علاقة والده بالعالم والناس؛ لم تكن سوى حيلة لإخفاء هذا الجرح عبر إغلاق نوافذ الذات كلها وتحصينها بكل ما لا يخطر على بال، ما يزرع في أوستر/ الابن شعورًا طاغيًا باللاّجدوى، إنّ فقدان الذات في حالته كان إراديًّا، وهذا الفقد هو ما سيحدّد ملامح كتابة أوستر، ويصبح لازمةً تصبغ أعماله كلها.



وفي مؤلّفه "الكلمات"، يكشف جان بول سارتر عن تكوّن بذرة ما في فلسفته الوجوديّة وواسطة عقدها: "الحرية".
لقد فقد والده "جان باتيست" في سِن مبكرة، وترعرع في منزل جدّه من أمه كارل شفايتزر، أستاذ اللغة الألمانية في جامعة السوربون، والذي عامله ووالدته بطريقة قاسيّة. كان سارتر طفلًا قصير القامة أحوَلَ العينين، ومع شعوره بأن وجوده فائض عن الحاجة كتب: "لحاجتي أن أبرر وجودي جعلتُ من الأدبِ مُطلقًا، وكان لا بدّ لي من ثلاثين سنة كي أتخلص من هذه الحالة الذهنية، وكانت وفاة جان باتيست أكبر حدث في حياتي، إذا أعادَ أميّ إلى أغلالها، ومنحني الحريّة".
يحللّ سارتر هذه العلاقة بالأب، ويشعر أن موته حرّره وجنّبه أن يرقد عليه بكل ثقله "لكنه بالصدفة مات صغير السن فشعرت بأني مذنب". لكن إلام يؤدي الشعور بالذنب؟
إلى الغثيان أو ما يطلق عليه (دوار الحريّة)، فقد وصل هذا اليتيم الواعي ــ كما يحبُّ أن يصف نفسه ــ إلى أقصاها. أي الحرية المدوِّخة، نتيجة لانسحاب والده عبر الموت إلى جناحه الذهبيّ في السماء.




إذًا، جعلت جريمة القتل الطوعيّ الطفل مهجوسًا بحريته لأنـَّه "والحقيقة أن انسحاب أبي السريع وهبني أوديبًا غاية في النقصان لا أنا عليا". إذًا، لم يكن أوديب يشعر بالنقص في حالة سارتر، رغم أنه انتهى للشعور بالذنب. لذلك غالى في حريته كما في رفضه. فالطفل الذي وضع في الرابعة من عمره "الملح فوق المربى"؛ رفض الحتميّة بجميع تجلياتها في علم النفس التحليلي، أو الطبيعي، حدّ ذهابه لتأسيس علم نفس وجوديّ، وبما أننا لا نختار الأب ولا الميلاد، فإن الاختيار في حالة سارتر يأتي لاحقًا بحرية مطلقة، وبوعي يحمل في ذاته عدمه. وقد وصف ف. هينمان" ذلك بقوله: "إن سارتر يريد الحرية. رائع! لكنه يريد الكثير جدًا، فهو يريد أن يكون حرًا حرية كاملة ومطلقة في جميع مجالات كينونته، في انفعالاته وعواطفه وكذلك في إرادته".
وفي المنحى ذاته، يمكن للمتأمل في أعمال فرانز كافكا، والتي تهيمن عليها (فكرة انتهاك الخصوصّية الفرديّة)، أن يرى فيها انعكاسًا للعلاقة المضطربة مع والده، الذي انتهك العالم الداخلي للابن وجعله يشعر بالعار لضعفه الجسديّ؛ والذي يمكن العثور عليه رمزيًا (الرجلان اللذان يقفان فوق سرير نومه في رواية "المحاكمة"؛ والآخران اللذان يراقبانه وهو يمارس الحب مع فريدا في رواية "القصر"). فسخرية والده الدائمة من بنيته الجسديّة والنفسيّة، اخترقت روح الابن؛ وعبر اللامعقوليّة اخترق الأخير معقوليّة الحياة، لذلك ترك الرجل، الذي رأى العالم بسبب والده مستوطنة عقاب، بطله مستسلمًا للرجلين اللذين سيجرّانه من قميص نومه لذبحه فوق صخرة.
وعلى طول الخط تتابع رواية "ألعاب العمر المتقدم" للكاتب المكسيكي لويس لانديرو، الذي كان شابًا صغيرًا (إسبانيا 1959) حين أخذوهم مع مروّضي الوحوش ورجال السيرك إلى طريق المطار لاستقبال الرئيس الأميركي آيزنهاور، كان الجنرال فرانكو يرتدي قفازات بيضاء، ويحييّ بوهن وبيدٍ متيبّسة، وكان آيزنهاور يرد على الحشود بنزع قبعته وإعادة وضعها على رأسه.
يكتب لانديرو: (رويت المشهد لأبي: الذي لم يملّ من سماع الوصف "ــ أروِ لي ذلك مرة أخرى، ماذا كان يفعل المروّض، كيف كان آيزنهاور يحرك قبعته؟"). هذه العلاقة بينهما، ستؤسس لرواية هي الأهم في زمنها، ومنها ولد خيل بطل الرواية التي تحكي علاقة أولياس الموظَّف في قبوِ شركةٍ للأنبذة والزيتون، مع خيِل مندوب الشّركة في الأرياف وعبر اتصالات أسبوعيّة تتم كل يوم اثنين، يرغب الأخير بأن يسمع عن الحداثة والفن من أولياس، الذي أمضى حياته لتحقيق حلم يقظة خيل، والأخير يطالب بكشف حساب عن التقدم الذي وصلت له المدينة. إلى أن تنتهي الرواية بلقاء خيل وأولياس في ريف بعيد.



مستعيدًا ملحمة أوديب التي تقوم على فكرة العودة إلى المكان الأول، يرسم الأدب مصائر شخصياته وأحداثه، ليكشف عن العلاقة بالأب، سواء عبر الالتقاء معه، أو الافتراق عنه.
وفي رواية الكاتب المكسيكي خوان رولفو "بيدرو بارامو"، تكون العودة إلى كومالا، رغم أنها مدينة أموات لا تسكنها سوى الأصداء والأشباح بعد أن أبيدت، مجرد عودة للقاء الأب. صحيح أنها تبدو كعملية ثأر، أو دين حفّزته أمه لاسترداده من الأخير "خذ منه غاليًا ثمن الهجران الذي تركنا فيه"، ولكن الحقيقة أنها رحلة لن يعود منها الشاب، والذي سيدفن قرب والده.
هذا الحضور للأب في الرواية والفلسفة، سواء كان ضمنيًّا، أو صريحًا، بالقبول، أو الرفض، لا يمكن تجاهله. ورغم أن الحياة الذاتية للإنسان تبدأ بمحاولة الابتعاد عن خطواته، ولكن مع التقدم في العمر نشبهه أكثر فأكثر، بل إننا وبمقدار ما نبتعد عنه ونخلق مطلقنا، وبمقدار ما نسخر من أوهامه نبتدع أوهامنا الخاصّة. ويمكننا أن نعثر عليه في كل سطر نكتبه، من دون أن نضطر إلى سمل أعيننا، بحيث يمكننا القول: يلدنا آباؤنا مرتين: مرة بمنحنا الحياة، ومرة بموتهم، في الأولى نكون أطفالًا، وفي الثانية نهرم. وسندرك متأخرين أننا كنا نجترّ العشب ذاته الذي مرّ في فم الآباء.



يكتب سارتر: لكل إنسان مكانه الطبيعي. لا الكبرياء، ولا القيمة، هما اللتان تحددان ارتفاعه: "إن الطفولة هي التي تقرر"، فكل عمل أدبي هو انعطافة باتجاه الأب الذي يطلب إلينا أن نسير باستقامة، راغبًا أن يجنّبنا الحفر والمكائد التي نُصبت على جانبي الطريق، ليحمينا من قسوة التجربة. لكن هذه المصائد تغرينا للارتماء فيها.
نتظاهر بالإصغاء إلى كلماته التي يلقيها علينا بزهو، نراه أشبه ببطل بلزاك بالتازار كلايس*، الذي يبدد كل إرثه خلال بحثه عن المطلق من دون نتيجة؛ أو "شيخ همنغواي" وهو يصل مع الهيكل العظمي الضخم للسمكة، نسخر منه ونشكّ في قواه العقلية؛ فالرغبة بقتله لا تتأتى فقط من كونه الرجل الذي ينافسنا على حب الأم، بل من شعور عميق أن أحدهم: يريد أن يلقي علينا خطبة كبيرة عن الحياة.
نرفض التشبّه به، بعد أن كنّا نطلب تسريحة الشعر نفسها، ولكن ومع الوقت سنجد أنفسنا نتابع جرّ الهيكل العظمي بقاربنا الذي اعتقدنا مرة أنه أبحر بعيدًا عن الأب؛ حدّ أن موجنا لن يتلاقى بموجه؛ وأننا بصدد إلقاء العظة ذاتها.
في نهاية ألعاب العمر المتقدم، يعترف لويس لانديرو: "حسنًا، أظن أن أبي هو خيل في العمق".

إحالات:
ــ بول أوستر، اختراع العزلة، ترجمة أحمد العلي ــ دار أثر 2016.
ــ جان بول سارتر، الكلمات، ترجمة: خليل صابات ــ دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة 1993.
ــ لويس لانديرو، ألعاب العمر المتقدم، ترجمة، صالح علماني، دار جامعة حمد بن خليفة، 2017.
* بالتازار كلايس- بطل البحث عن المطلق ــ بلزاك.

*كاتبة سورية.                                          

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.