لا يترك مفاضلة في أعمال معرضه الذي افتتحه قبل أيام العين مصطفى حمارنة في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة (مبنى 1)، والمتواصل حتى 25 الشهر الحالي (تموز/ يوليو 2024)، من دون تدخلات اللون من أكْليريك وغيره، لا يتركها من دون أن يقول كلمته فيها، فهو لا يسعى، كما يقول في تصريح لـ"ضفة ثالثة"، في أعماله البصريّة إلى "تقليد الأثر في محيطه البيئي، أو محاكاةِ ارتساماتهِ وترسّباته على هذا النحوِ أو ذاك"، بقدر ما يسعى إلى "بناء أثرٍ على أَثَر"، فالفن بالنسبة له، ليس سوى ذلك "الإنشاء الذي لا يكفّ عن تشييدِ بنيانهِ من تراكماتِ الأثرِ وتعيّناته، لينتج أثرًا مستقلًا في حضورِهِ وفي تعبيراتِه".
بعيدًا عن نظرية الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي (1866- 1944) حول الفن "غير الاستحضاريّ" فإن كثيرًا من أعمال مفاضلة في معرضه الجديد، وعموم أعماله على امتداد مسيرته الممتدة على مساحة 40 عامًا ماضية من الرسم والتخطيط والكتابة النقدية والسعي لِمغايرةٍ قاسيةٍ حاسمةٍ حياتيًا وإبداعيًا، تُحيل، إن أمّعنا التأمّل المترافق مع النّظر، إلى فكرةٍ ما، إلى تقاطعٍ ما، إلى معنى ما، إنسانيًا وجماليًا ووجوديًا وحتى أخلاقيًا إن شئتُم. تستحضرُ قيمةً، وتجلبُ نحوَ مجسّات الوعي ومُدركات التفاعل، دلالةً وتجاورًا لا ريب فيهما. في هذا السياق، لم أتردّدْ (أنا شخصيًا) أن أرى في غير عملٍ له، بعضًا من سعي أهل غزّة لإعادةِ تدويرِ المُمكنات حولَهم، بعضًا من توظيفهِم متبقيّات حياتهم لِمواصلة ما تبَقّى من أيام هذه الحياة، بعضًا من طريقة تعاملهم مع المُتاح والمتْروك والمنسيّ و(الغَفل) من عروقِ الأرض؛ أرضهِم الجريحة، وقد باحت بِإصرارِها على التجدّد، وأَقامت بينَها وبينَ أهلِها حوارَ الإنتاجيّةِ الكفيلةِ باستثمارِ الخرابِ لِصالح البناءِ والإِباء والجَمال.
هذا ما يمكن أن نلمحه في عمله المعنوَن "انعكاس... صوت وصدى" الذي أنتجه بعرضِ متريْن وطولِ 60 سنتمترًا من خشبٍ وأكليريك، حيث الثقوبُ مدنٌ، والأَماني دوائر، والحوافّ مقضومةٌ، والمَدى أسود. وما يمكن أن نلتقطه، كذلك، من سلسلة الأعمال التي حمل المعرض عنوانَها "أثرٌ على أثرٍ" حيث بُقَعُ الصّدى في الأعمال الأربعة المُنتجةِ بموادّ مختلفة بأطوالٍ كبيرةٍ تقترب من فكرة الجداريات (ما بين متريْن وثلاثة أمتار)، وترسّبات اللون، خصوصًا الأزرق منه في علاقاتِه مع أثرِ الزّمن من حتٍّ وقِدمٍ وكآبةِ الدلالات، وتناوباتُ المحوِ والانْبثاق، وما يغوصُ الفنان عبْرها من أعماقٍ وأنْفاق، تتقاطعُ جميعُها مع سؤالِ المعنى في حوارِه مع المبنى، ليقول الفعل الإبداعيّ ما يودّ أن يقوله حول حربٍ تُخاض، أو صمودٍ يُقاد، أو رموزٍ تعيدُ تعريفَ نفسِها، أو وجودٍ على محكِّ ثنائيةِ فناءٍ/ بَقاء.
ونسأل: هل العملُ الفنيُّ بتجرّداتِهِ، أو في واقعيّتِهِ، أو رومانسيّتِهِ، أو حتى في تأزّماتِهِ، في نهاية المطاف، سوى مساحةٌ بصريّةٌ مفتوحةٌ على الاحتمالات جميعها، والتأويلات على تنوّعها، والمدركات الحسيّة على تبايناتِها من متلقٍ إلى آخَر؟
يقول غسان مفاضلة في سياق توضيحه فكرة معرضه الجديد وعنوانِه: "إن "أثرٌ على أثر" هو العنوان الذي تتحرّك معه جلّ أعمال معرضي بصبغتِها الإنشائيّة والاختزاليّة. ورغم التقاطع الشكليّ لأعمال المعرض مع سياقات التشكيل المعاصر، إلا أنها تذهب من حيث الجوهر، باتجاه اختبار إمكاناتِ تحويلِ الأثرِ بجانبيهِ الماديّ والمعنويّ، إلى مساحةٍ بصريّةٍ مفتوحةٍ على المُدركات الحسيّة والتخيليّة".
وفي سياق المُفاضلةِ بين المُصادفة والقصديّة (يتحدّث الفنان والأكاديمي والناقد التشكيلي د. خالد الحمزة عن المُصادفة التي قد تقود غسّان إلى مغامرةِ إنتاجِ عملٍ فنيٍّ جديد)، فإن القصديّة لا يمكن غفْلها، أو إعدامها، إنها القصديةُ التي تكبر مع تَنامي العمل بين يديّ الفنان، والدليل ما يبوح به غسّان نفسه: "ورغم ما يحيط بمفهوم الأثر من إبهامٍ والْتباس (سواء أشار إلى ما يمكث في المكان، أم دلّ على حركة الصيرورةِ الإبداعيّةِ عند نشأتِها) إلا أنه يبقى بالنسبة لي، يحوّم حول تلك التُّخوم المتحركةِ التي يمتزج على وقعِها الحضور مع الغياب، ويذوب الواقع مع الحلم والمِخيال. وانطلاقًا من الكيفية التي يتم التعامل بها مع (الأثر) بوصفه مرجعًا للتعبير في محيطه الواقعي، ونتيجةً له في الفن، أخذتْ أعمالي الإنشائية (Installation works) بالتشكّل وفق ترسّبات الأثر وخصائصهِ التي تنطوي عليها المادة، وضمن النَّسق الذي تستدعيه مقتضيات الإنشاء والتعبير".
ها هي القصدية، إذًا، تنبتُ من الترسّبات نفسها، ومّما تنطوي عليه من نسقٍ، وما تستلْزمه مقتضياتُ الإنشاءِ والتّعبير.
يقول مفاضلة: "ومع النِّسق الإنشائيّ ذاته، بدأت تتكشّف لي مساحات مفتوحة وإمكانات غير متناهية يحفلُ بها وجود المادة في محيطها البيئي، بحيث يمكن إعادة انتاجها ضمن مقاربات بصريّة تتّسم بالفَرادة والاسْتقلال. مقارباتٌ تُدْرِجُ الفوضى في سياق المعنى، لتصبحَ معه المادة، بعد أن كان وجودُها مبهمًا و"غَفْلًا" في بيئتها الأولى، عنصرًا أساسيًا وفعّالًا في الحضور والتّعبير مع بيئتِها ونِظامها الجديديْن".
مداراتٌ مدهشةٌ من اللون والتشكيلِ والبِناء، أو إعادة البناء... مُنَمْنَماتٌ كبرى... منحوتاتٌ عن أوديب في عمّان، وعن نسرٍ محلّقٍ في فضاءاتِ المكان... جسدٌ مرّةً على شكل منحوتةٍ... وأُخرى داخل إطار لوحةٍ غير تقليديةٍ... مصنوعةٍ من الخشبِ الغارقِ في سماء الأزرق... ومن الزّنك والحديد وألوان الأكليريك... نهرٌ من الحديد والخشب السابح في مياه اللوثةِ الأولى... لعلّه نهر الأردن كما يحمل اسم اللوحة... أو لعلّه نهرُ الطريق إلى وطنٍ خلفَ سياجِ الفوضى... أو لعلّه نهرُ التعميدِ المتجدّد الجديد... أعمال انتقاها الفنان بالتنسيقِ مع الجهة المنظّمة بعنايةِ الدلالات جميعها، بما في ذلك دلالات ما بعد السابع من أكتوبر... لإنجازِ معرضٍ منفردٍ في متحفٍ لَمْ يُقِم منذ أعوامٍ كثيراتٍ معرضًا منفردًا، تكريمًا لخصوصيةِ الجهدِ المبذولِ على مدى سنوات من غسّان مفاضلة لإنجاز هذه الأعمال الإنشائية التي يحتاج إنشاؤها، إضافةً إلى الفكر الإبداعيّ، والجذْوة الجماليةِ المتّقدة، إلى عفيّة الجسد، وحيويّة الطاقة، وصبرِ المثابرة، وعِناد الإرادةِ المُحدّقةِ حولَها.
أعمالٌ تطرحُ أسئلةً. وأمّا إجاباتها ففي كلِّ شبرٍ حولنا... في كلِّ نَذْرٍ تركناه على قارعةِ الطريق..
وحدةٌ وتنوّعٌ تختزلُ كثيرٌ من الأعمال أحلى معانيهِما... معراجٌ نحوَ سماءٍ لا تشبه سماءَ هذه الأيام... علاقاتٌ جدليّةٌ تديرُ الظهر لِمثاليةِ هيجل نحو ماديّة ماركس وأنْجلز، حيث المادة في أعمال مفاضلة صنعت كلَّ شيء، أو حرّضت على صناعةِ كلِّ شيء.
حوارٌ معجونٌ بالعناصرِ بين الفعل والتلقّي، بين الأثرِ وكيف يراه كلُّ واحدٍ منّا... بين أن ننتصر لِما يبقى وينفع النّاس، وبين أن نجعلَ من مكبِّ النّفايات مشوارَنا اليوميّ.
بقي أن نقول إن لغسّان مفاضلة، إضافة إلى هذا السطوع الإنشائيّ، كثيرٌ من الأعمال النُّصبيّة (نسبة إلى النُّصب)، وبما يمكن التعامل معها بوصفها أعمالًا "نصبيةً إنشائيةً نحتيةً بانوراميةً مِعمارية"، كما ذكرتُ في مادة سابقة لي نشرها موقع "ضفة ثالثة" بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 2020، تحت عنوان "غسّان مفاضلة: هندسة العمارة تتكاملُ مع الجمال"، حيث لا يخفى فيها "الارْتسام المعماريّ" ولا "اخْتزال المرئيّات"، وحيثُ تمورُ إعادة الإنتاج "بالحركة والإِيقاع وتبدّلات الضوء والظّلال".
وإضافة إلى تصميمهِ وتنفيذِهِ العديد من الأعمال النحتيّة الميدانية والجداريات الفنيّة والأعمال الإنشائيّة، فَإنّ مفاضلة متخصصٌ بالكتابةِ في النقد الفنّيّ في الصحافة الثقافية المحلية والعربية منذ عام 1988، كما أصدر كتابًا نقديًا حمل عنوان "خزائن المرئي: مشهد نقدي في الفن العربي المعاصر"، وشارك في العديد من المعارض الفنية المحلية والعربية والدولية.