}

ميشيل فوكو: الهمودية في ميزان "الرقابة والمراقبة"

أسعد عرابي 4 يوليه 2024

 

تبتدئ مجاهدات الدفاع عن حقوق الإنسان في فرنسا بإلغاء عقوبة الإعدام التي أقرت قانونيًا ومسلكيًا منذ عام 1981 مـ في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، نتيجة نضال وتشرد أعظم أديب ورسام في فرنسا وهو فيكتور هوغو (واستبداله بحكم السجن مدى الحياة). وقد ظل الأديب الكبير رمز فرنسا مطاردًا من العدالة حتى أواخر حياته بسبب ذلك.

ابتدأ نضاله من كتابة قصة ممنوعة "آخر يوم على محكوم بالإعدام" عام 1829 مـ بدون توقيع، ثم أعاد نشرها باسمه عام 1832 مـ، معقبًا بأنه "حيث تسود عقوبة الإعدام تسيطر الهمجية"، واستند على مقولاته الحقوقيون وجابهوا أكثر هذا الموضوع بمجابهة البرلمان عام 1948 مـ. وأيّده بلا حدود ألبير كامي قائلًا: "إن أي نظام قانوني غير معصوم عن الخطأ القضائي". وهكذا ألغى الرئيس ميتران عقوبة الإعدام عام 1981 مـ، باستبداله بالسجن مدى الحياة (حسب ظرف الإدانة). إن تحدي عقوبة الإعدام يعتبر آخر دفاع عن حقوق الإنسان، وبقي دفاع فوكو عن المصابين عصبيًا الموقوفين. لم تكن بالمناسبة دعوة هوغو خاصة بصوت الأدباء فقد كان مصورًا ورسامًا عبقريًا (بمادة اللافي)، يملك متحفه في باريس أكثر من ألف لوحة، وكانت مجلة "كورييه" اليونسكو خصصت عددًا لرسومه (نافذ). (حصلت على نسخة منه بشق الأنفس).

سلفادور دالي يعتلي درج المترو مع حيوان آكل النمل، وإيف كلاين وحيدًا في معرضه


إذا انتقلنا من مجاهدات فيكتور هوغو الإنسانية إلى سليله الشرعي الفيلسوف ميشيل فوكو  (المولود في آفينيون عن عائلة جلها أطباء عام 1926 مـ، ومتوفى عام 1984 في باريس) يعتبر الأبرز في فترة ما بعد الحداثة، والذي أكمل مسيرة هوغو بالدفاع المستميت عن معتقلي الزنزانات في السجون أو العيادات العقلية. عرف عنه شدة الأسفار ما بين السويد وبولونيا وألمانيا وتونس والاحتكاك الميداني بشتى أصناف المجتمعات بما فيها الهومو والذكورية. بعد عودته إلى فرنسا كان يدرّس الفلسفة (تلميذ موريس مارلوبونتي الفينومينولوجي)، ولكنه ابتداء من عام 1968 مـ كرس نضاله العلمي والأيديولوجي للدفاع عن السجناء، خاصة المصابين عصبيًا (الهموديون مثل المتوحدين ومزدوجي الشخصية، ومثل الممسوسين بنوبات الصرع وغيرها) ممن يعتبر المجتمع حالتهم شذوذًا في السلوك خارجةً عن السويّ وتصل التهمة في أشدّها حدود التعميم الجنوني. لنتذكر بطل رواية "أحدب نوتردام" الموسوم بأنه معتوه مخصص بقرع جرس الكاتدرائية. من هنا كانت أهمية كتاب فوكو: "تاريخ العيادة" عام 1963. تقوم فلسفته على إدانة الجريمة المزدوجة وفق كتابه الأخير 1975 مـ "الرقابة والمعاقبة"، متعقبًا ولادة جنوح السجن، معتبرًا أي مفهوم للإنسان بالمعنى ما بعد الحداثي ما هو إلا اختراعًا حديثًا. من نكوصاته إلى تحليله البسيكولوجي وتشريحه الأثري عضويًا وحسب الجينات الوراثية (وفق خرائطها) إلخ...

استطاع فوكو أن يثبت فلسفيًا وصحيًا أن الفرق بين المصاب والسليم فرق نسبي مجازي بمعنى أدق اجتماعيًا، ما بين الذين يحكم عليهم بزنزانة العزل الطبي في العيادات ليسوا بعيدين في شذوذهم عن الذين يتحركون أحرارًا بملء حريتهم من الأجدب البله إلى المعاق إلى المنغولي وهكذا. لذا يفضّل "تعبير همودي" على جنون تعميمي. خاصة وأنه يرى أن عزلة المنتكس ترسّخ حالة ضعفه التي غالبًا ما تكون سهلة الشفاء وإعادة التأقلم مع المجتمع، خاصة وأن أغلبهم من المدمنين على الكحول أو المخدرات.

فان غوخ يصوّر نفسه وهو يقطع أذنه


من البديهي والشائع أن العقل ينتج العلوم الوضعية بأنواعها، في حين أن الحدس البرغسوني (القلب الذوقي) تفيض عن مكامنه الغامضة بشتى أنواع الإبداعات والعبقريات الفنية. لذلك فإن كل ما هو غير مألوف سلوكيًا أو غير متوقع اجتماعيًا، مباغت أو معاكس للتيار الذوقي العام يخضع لتهمة الشذوذ والالتباس المتعسّف، هو التناقض الذي عانى منه فوكو نفسه: بين الصحو الحدسي الموهوب فنيًا والغيبوبة الانفصامية عن الواقع المحسوس اليومي. والفرق بين ساكن الزنزانة أو العيادة أو السجن؛ والسليم المحمي اجتماعيًا ودستوريًا ليس برأيه حاسمًا، تقع ثورته الحقيقية الإبداعية في هذا المنعطف الخطر…

* * *

كان ميشيل فوكو يتأمل مطولًا لوحات فان غوخ: "دائرة المساجين ساعدته قسوتها على حسم نظرية تبرئته لهم، ولفناننا العبقري عندما قطع أذنه خلال إحدى نوبات الصرع وأهداها لخليلته العاهرة قبل انتحاره شابًا"- يستعيد جورج بازلتز محدثًا هذا المشهد الدرامي بتكبير أذن فان غوخ وعرضها على الجمهور.

يحضرني "برفورمانس" لايف كلاين في معرضه الفارغ من اللوحات والذي دعا إليه معجبيه، وما أن تجمهروا حتى أطلق مقولته: الفنان أهم من اللوحة، وها أنذا إذًا أكفي.

يعتبر سلفادور دالي وشارباه من أطرف النتاج السوريالي خاصة وأنه كان يعتلي درجات المترو مع حيوان آكل النمل المدهش دون تقييده. لعل قلب الأشكال لدى بازلتز وإلغاء مفهوم السماء والأرض أشد غرائبية من زميله الإيطالي.

منيف عجاج والتصوير الهمودي في مشافي الأمراض النفسية وفان غوخ ودورة المساجين اليومية


تصبح بعض الفنون غائمة الحدود مع الانتكاسات الهمودية في حالة جنون الحروب سواء العالمية أم المحلية أم الأهلية. من هذه الأمثلة السورية القريبة نصب النحات الموهوب المقيم في فرنسا خالد ضوا برمز الجلاد المثقب بجسده المشوه وقدميه المبتورتين ملتصقًا بكرسي السلطة. هذا هو شأن خراف ماهر البارودي الذبيحة، والمتحفزة بعيون من الصحو، وكذلك حالات السكونية والصمت لدى المعلم عمران والأمثلة أرحب من الذكر. أما الفنان منيف عجاج (السوري النازح أيضًا) من مواليد 1968 مـ فهو في الأصل أكاديمي متين درس في أكاديمية بيلاروسيا، ثم تحول مع الإحباط والنزوح إلى الاستلهام سواء من فنون المصابين عقليًا أو مرتادي المصحات العصبية النفسية، (ما بين بيمارستان النوري في دمشق إلى مارستان شفوكلير وجون بوست في فرنسا)، ابتدأ بمعرض "ما قبل الفاجعة" عام 2009 مــ بداية عنفه البصري بلون الدم القرمزي، ثم معرضه الشهير عام 2017 في مسلخ للحيوانات، علقت اللوحات على سكك المسالخ. من لوحاته المبكرة المشهورة: "عربي يمضغ وجهه".

فاتتنا الإشارة إلى العديد من الفنانين الذين انتحروا، على غرار فان غوخ، ونيكولا دوستائيل، ولؤي كيالي، وسلادي وسواهم.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.