ما بين الثالث من نيسان/ أبريل وحتى السادس من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الراهن 2024 مـ يتحفنا متحف "جاك شيراك" (أبرز متاحف باريس ولنا عودة لأهميته) بمعرض استثنائي يمثّل نصف قرن من تنقيباته حول "معبد مايور" المركزي في عاصمة الإمبراطورية العريقة في المكسيك التي ازدهرت ما بين عامي 1325 و1521 مـ والتي كانت مدفونة تحت الأرض، أي قبل اجتياح الاستعمار الإسباني للحضارة والثقافة المحلية وديموغرافية الاقتصاد وعبوديته ابتداء من عام 1519 مـ وحتى وعورة الاستقلال العسير.
يتمركز الاكتشاف (خلال نصف قرن) حول قطعة المذبح الحجرية الأحادية التي تمثل "إلهة القمر"، لكن أهمية الاكتشاف تتشرذم من خلال 204 قطع تقدمة لاهوتية شخصية تبرعية: إهداء قدسي ثقافي لهذا المعبد المبجّل. إنها قطع نحتية نفيسة بشتى المواد، ترسم تمايز هذه الثقافة الأصيلة، وطرازها الميتافيزيقي الفريد والشطحي الروحاني، متمثلًا في قوة تعبيرية الكهنة والشخوص وتشريحها السحري الحميم. لذلك لم تكتمل التظاهرة إلا بالتعاون مع المركز الأنثروبولوجي والتاريخي المكسيكي.
يمثّل المعرض حدثًا ثقافيًا بليغ التأثير الانعطافي، وقد صحّح الكثير من المفاهيم الأركيولوجية الخاطئة، على رأسها التبعية الملفقة لهذا المعبد لحضارة الإنكا، وعدم استقلاله الروحي والثقافي بصفته جزءا من الوحدة الموروثة للمكسيك (أو الميزوأميركية) لذلك علينا: مراجعة أهمية دور "متحف جاك شيراك".
الصورة إلى اليمين من معرض "النذور والآلهة المكسيكية، حضارة المايور"، وجرة من السيراميك تمثّل وجه إله المطر تلالوك |
يعتبر المتحف الأشد نخبوية ثقافية في فرنسا وأوروبا قاطبة والأشد إيكولوجية ممجّدة للطبيعة. فقد كلّف الرئيس أشهر مهندس معماري بدراساته (وهو مهندس بناء معهد العالم العربي جان نوفيل) مشاركًا لأهم مهندس نباتات: عرشت مزروعاته على السطح الرئيسي والجدران، وخاصة الحديقة (جزء لا يتجزأ من التصميم)، هو ما أكسبه الصفة الإيكولوجية المناصرة للطبيعة. عُرف فريقه بعدد من العباقرة، أحدهم صمّم الجدار الجنوبي للمعهد وهو عبارة عن نواظم من عدسات الكاميرات العملاقة التي تفتح آليًا مع الضوء الطبيعي، واكتشف آخر عنصر (المفردة Le module) في المتحف الجديد عام 2006 مـ وهي عبارة عن أحد المستودعات الأثرية لكنوز ثلاثمائة ألف قطعة نفيسة من الحضارات العريقة، خاصة حضارة الهنود الحمر وسواها في القارتين الأميركية والأسترالية. كان شيراك من أشد الرؤساء الذين تتالوا على حكم فرنسا ثقافة، ويملك أكبر مجموعة من ميراث اكسسوارات الهنود الحمر. تبرّع بها للمتحف، وقد أنشأت الولايات المتحدة متحفًا نظيرًا في واشنطن لم يرق إلى مستوى خصوبته وغناه وتنوعه. سمّاه شيراك، بادئ ذي بدء، "الفنون الأولى"، هي المرة الأولى التي تعترف بها السلطة الفرنسية بحضارات أسبق من الثقافة الأوروبية ابتداء من المصرية والرافدية الشرق أوسطية والبولينيزية والإنكا والأزتيك والآسيوية (الهندية والكونفوشيوسية والأندنوسية) وسواها. ومُنع، منذ ذلك الحين، المصطلح الأكاديمي الشائع في الدراسات العنصرية الفنون البدائية أو الساذجة أو السخرية خاصة مع الأقنعة الإفريقية والشامانية في فنون الألسكا، وغيرها.
وتأكيدًا لهذه السياسة المعادية لعبودية الاستعمار، أغلق شيراك متحف "غابات فانسين للمحيط الهادئ وشمال أفريقيا"، وفرّغه من محتوياته، كما هو الأمر مع متحف الإنسان (سنعثر في المتحف الثوري التحرري الانعطافي الجديد فيما يحتويه على نماذج من البسط والسجاجيد الشعبية السورية). أشاع خصوم شيراك تسمية متحف برونلي باسم "رصيف نهر السين" المحاذي، لكنه مع وفاته عام 2019 مـ غلب اسمه على متحفه، وأصبح "متحف جاك شيراك". هو ما يفسّر سياسته المخالفة لحرب العراق وتأكيده على البعد الحضاري الرافدي في هذه البلاد، هو الموقف العريق لشارل ديغول، ووزير ثقافته أندريه مالرو وتكليف الأخير لأندريه بارو الأقل تعصبًا بدراسات حضارات الشرق الأوسط، وتأسيس دار نشر خاصة (La méthamorphose des formes) .
من اليمين: أحد الآلهة يربط بين قدسية السماء وما تحت الآرض؛ إناء طقوسي مقدسي؛ تقدمة احتفالية تمثّل أحد الآلهة |
أنشأتُ بدوري عددًا من الدراسات الجادّة المستقاة من هذه المكتبة الثرية في جريدة "الحياة" اللندنية قبل إغلاقها. تبيّن لي فيما بعد أنها تُرجمت جميعها إلى الفرنسية وحفظت في أرشيف متحف اللوفر، مما أهّلني لشرف المشاركة كمختص بالمؤتمر الصحافي يوم الافتتاح لشرح فلسفة هذا المتحف قبل خطاب الرئيس. هو الفردوس الشمولي الجديد الذي يساوي بين الثقافات والحضارات لأول مرة. يتوج المعرض الراهن عنوان خصب رائد: معطيات وأبعاد وروحانية آلهة معبد مايور (جذر المكسيك). وبسبب هذا البعد الفكري الصريح فقد احتشدت على هامش التظاهرة كثافة الندوات والمطبوعات والزيارات المنظمة، والحملة الإعلامية المختصة والنخبوية.