}

الاحتفاء بالذكرى المائة والخمسين لولادة "الانطباعية"

أسعد عرابي 24 يوليه 2024
تشكيل الاحتفاء بالذكرى المائة والخمسين لولادة "الانطباعية"
"رقص في مدينة بوجيفال"، أوغست رنوار، 1883

 

لعلها أكبر تظاهرة فنية، بانورامية، تجري على كامل خريطة فرنسا، وذلك ما بين أواخر آذار/ مارس وأواخر أيلول/ سبتمبر من العام الراهن، إحياءً للذكرى المائة والخمسين عامًا على ولادة التيار الانعطافي الشامل لـ"الانطباعية"؛ هي التي قادت إلى انقلابات الحداثة والمعاصرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من العشرين. وبالتحديد منذ معرض ثلاثين من أشهر معلمي هذا التيار عام 1874 مـ. تتالت إثرها بقية المعارض الثمانية في باريس وبالتحديد في قصر أشهر مصوّر فوتوغرافي ثري وهو نادار.

تتوزع مجموعات العروض الانطباعية على ثلاثين متحفًا لمدن فرنسية متباعدة، تمثل محطات هذا التيار الشمولي، أما المعرض المركزي فقد احتلت لوحاته المائة والثلاثين قاعات أبرز متحف في العاصمة وهو "أورسي". هي اللوحات التي تستعيد رمزيًا محتويات المعرض الأول المذكور.

يشتمل هذا المعرض مثلًا على لوحة كلود مونيه (مؤسس التيار الانطباعي من خلال لوحته الشهيرة) أعطاها اسم "الانطباعية" من (مصطلح السخرية النقدية) إلى المجموعة من خلال لوحته الشهيرة: "انطباع انعكاس الشمس"، هي التي صورها مونيه في شواطئ لندن عام 1872 مـ، مما يكشف إعجابه بالعبقري الإنكليزي تورنير المختص بحرائق السفن في البحار. درج مونيه على السفر إلى لوحاته أسبوعيًا إلى لندن لتأملها ونبش أسرارها التقنية.

تزامن مع تاريخ المعرض الأول تأسيس نابوليون الثالث "لصالون المرفوضين" (الموازي والمعارض للصالون الرسمي الذي كانت تسيطر عليه لجان أكاديمية نافذة ومتزمتة)، وذلك بإلحاح من الفنانين الذين درجت اللجنة المتعسفة على منع عرض لوحات هؤلاء المحدثين المخالفين للذائقة الكلاسيكية السائدة، وعلى رأسهم مجموعة "الانطباعيين" خاصة. وهكذا على سبيل المثال وليس الحصر قبلت في الصالون الثوري الجديد لوحة بول سيزان لأول مرة، وكان زميله في الدراسة إميل زولا انتقد بتجريح قاس فن سيزان لعدم قبول لوحاته لعدة مرات في الصالون الرسمي البائد. وبدأت القطيعة بينهما، مما أخر تذوق سيزان عدة عقود قبل أن تنتج عبقريته أبرز تيار حداثي وهو "التكعيبية" على يد بابلو بيكاسو وجورج براك، علمًا بأن سيزان كان يرفض الانخراط في معاهد الفن التقليدية، مقتصرًا على دراساته الميدانية للوحات مختارة من متحف اللوفر مثل اكتشافه للطبيعة الصامتة واختراعه للتحجيم وفق الأصول الهندسية من الأعمدة الكورنثية والأيونية التي كان يصورها العبقري الفرنسي بوسان في روما بعد قرنين من عصر النهضة.

* * *

"شروق الشمس"، 1872، كلود مونيه


إذا كان كلود مونيه (مؤسس جماعة الانطباعيين) ولد في باريس عام 1840 مـ فإن عائلته لم تبق فيها إلا بعض الوقت، فقد استقرت في مدينة الهافر الميناء البحري الشمالي بشكل نهائي.
ولا ننس المصور الانطباعي أوجين بودان، فنان المدينة الذي سبق مونيه وعرض معهم لفترة وظل يعتبر نفسه مخترع هذا التيار، إضافة إلى سابقه سارولا الإيطالي المقيم في الولايات المتحدة. وتوفي مونيه في محترفه في مدينة جفرني عام 1926 مـ.

من الخطأ إذًا اعتبار كلود مونيه باريسيًا. لكنه جعل من هذا الاتجاه تقاليد علمية صلبة بتأثره المباشر بالفيزياء البصرية التي كان يقودها شفرول من أجل تطور صناعة السجاد وأوراق الجدران. لذلك كان مونيه يدعو للخروج من عتمة المراسم التقليدية التي انتهت مع زيارة دوكروا للمغرب العربي والأندلس، دعوه إذًا للتصوير في الهواء الطلق وتعقب انعكاسات الشمس على الوجوه والألبسة والطبيعة. فيما عدد لا يتجاوز الخمسين لم يلتزم البقية بتبشيرات مونيه، إدغار ديغا استبدل الفناء الطبيعي بتصوير كواليس مسارح رقص الباليه، بول غوغان خرج عن المجموعة ليؤلف جماعة بونت آفين في النورماندي مع سوريزييه وفالاتون وسواهما. يقول : إن الانطباعية تحوم حول العين (لاستبدال صفيحة الألوان بالمزج الأوبتيك الوهمي على الشبكية) وليس في المركز الخفي للفكر. (وإنه حتى نصور شجرة علينا أن نحمل من الباليتا أجمل الألوان ما عدا الأخضر). يؤيده سوريزييه بقوله: "إن اللوحة مجرد علاقات لونية منسقة حسب حساسية المصور"، وهكذا ولد "التجريد الغنائي" في باريس.

فان غوخ تأثر بالفن الياباني مستخدمًا موجات هيروشيج وهوكوساي. بول غوغان هاجر إلى الحضارة البولينيزية في تاهيتي وسواها. مع خروج تنقيطية (تجزيئية جورج سورا) عن الانطباعية ووفاته مبكرًا، قاد بول سينياك المنظّر الأكبر لتأليف كتابه الأبرز بعد فاساري وهو: "من دولاكروا وحتى ما بعد الانطباعية" يذكر منهم الأنبياء وبيير بونار ثم الأورفية (دولونوي وزوجته).

* * *

لكن مونيه كان أصلب من هذه الانتقادات واستمر في أبحاثه البليغة الأثر على تاريخ الفن.

يوافق مونيه ملاحظات الفيزياء البصرية في الكتاب بأن العين هي التي تخلط الألوان الأحادية وليس مختبر الباليتا الكيميائية، فإذا وضعنا على اللوحة لمسة أزرق بجانب الأصفر رأتهما العين بلون أخضر وكذلك الأحمر بجانب الأزرق ينتج البنفسجي والأحمر بجانب الأصفر يوهم بالبرتقالي وهكذا. في واحدة من المواقع الرئيسية للعروض وهي "كاتدرائية روان" تتجمع اللوحات المتوفرة من تجربة بالغة الأهمية كما يلي. نشر حول الكاتدرائية 14 حاملًا ولوحة وأدوات تصوير، وأصبح يلتقط برهافة فائقة كل نصف ساعة هوية الألوان المعكوسة على الواجهة ـ بانتقاله كل نصف ساعة تبين له أن تبدل نواظم المقام اللوني يملك بعده الزماني في ذلك اليوم، وكان التاجر الأميركي المختص به والذي سرب لوحاته فيما بعد إلى متحفي المتروبوليتان واشنطن وكاليفورنيا، اشترى في حينها كامل المجموعة بالسعر الذي حدّده مونيه، الواقع أن محرضات شراء المليارديرية للوحات الانطباعية كان فعالًا حتى أصبح موروث الانطباعية في أميركا أكبر منه في فرنسا، لذا كرّس متحف أورسي مبلغًا خياليًا ليسترجع قسمًا مهمًا منها. وعندما توفي كلود مونيه في جفرني (حيث قصر مرسمه الموروث) أقيم على تماس منه معرض الانطباعيين الأميركان لثقتهم بشدة تأثير فنه على مدرسة نيويورك (التعبيرية التجريدية)، من الجيل الأول، جاكسون بولوك وحتى الجيل الثاني، سام فرانسيس وأندي وارهول، مصور مجاميع النجوم مثل مارلين مونرو وألفيس بريسلي، ولولا التاجر دوران رويل الذي اختص بعبقريته لبقي في الطريق معدمًا، كان يمده بالمال ويشتري منه وأصلح له المرسم واشترى له الجسر الياباني... ألا يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن الشراكة الأنجلوساكسونية والفرنكوفونية بعد الإسبانية والإيطالية؟

لذلك سينتقل المهرجان بكامله بعد انتهائه إلى متحف الفن الحديث في واشنطن.

من لوحات المعرض:

"فيللا بورديغيرا، 1884 و"العاصفة"، 1886 لكلود مونيه



"طبيعة صامتة"، 1877-1879، بول سيزان/ إدوارد مانيه يصوّر كلود مونيه وهو يرسم على مركبه عام 1874






الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.