}

بونار واليابان: بانوراما مقارنة

أسعد عرابي 18 أغسطس 2024
تشكيل بونار واليابان: بانوراما مقارنة
المعلم هيروشيج:استامب يمثل أميرًا مع امرأة في حديقة مزهرة(1853م)

تحت هذا العنوان البسيط يقع أهم معرض أقيم عام 2024 في فرنسا، برأيي. جهد جهيد استهلك سنوات من جمع لوحات الفنان الأكبر بيير بونار (1867 ــ 1949) من شتى المواقع والمتاحف (خاصة متحفه الخاص في مدينة كاني) وأورسي والمجموعات الخاصة، تعرض وتلتقي جميعها لأول مرة، بما فيها مجموعته الخاصة من الاستامب الياباني الذي تأثر به، يتجاوز عدده المئة، بما فيه مطبوعة المعلم هوكوساي (1760 ــ 1849) الشائعة عالميًا، "الموجة الكبرى" المنجزة عام 1830 م بقياس 37.7 × 25.5 سم.

المعلم هوكوساي: الموجة الكبيرة  1832م


معرض بانورامي مقارن توزع على سبع قاعات رحبة في متحف كومون في المدينة الفنية في الجنوب "إكس إن بروفانس"، اكتسبت فنيتها من مواطنها بول سيزان (وتصاويره لجبلها سان فيكتوار عشرات المرات). يقال بأنه معرض يغطي فصل الصيف بكامله. ابتدأ منذ الشهر السابق مستمرًا حتى تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2024. نظم العرض بطريقة وقائعية متدرجة، ابتدأت من مفاجأة عرض المعلم بونار في صالون المستقلين بارافانًا رباعيًا متصل اللوحات على الطريقة اليابانية وذلك عام 890م، واستمر هذا التأثير على تصويره وفكره باعتباره طريقًا للحداثة والاستقلال عن الانطباعية، مثل هنري تولوز لوتريك ومجموعته التي أسسها عام 1888م، والمؤلفة من فويار (سبق المعرض الراهن نظير المبسط فويار واليابان السنة الفائتة)، وسوريزييه، وموريس دوني، وفيلاتون، تحت اسم المتنبئين (أنبياء الحداثة).




الواقع أن التأثير الفني للاستامب الياباني على المحترف الفرنسي الحداثي ابتدأ منذ القرن الثامن عشر، وحتى ستينيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وشاعت عقيدة النسخ، وأن أحادية النسخة لا تضمن الأصالة.

بيير بونار: نساء في الحديقة، غواش على ورق ملصق على قماش 1890-1891م بارافان رباعي. اللوحات على الطريقة اليابانية قياس كل لوحة 48X160,5


إن الموضوعات المتسلسلة في عرض القاعات السبع تساعد على تشخيص جوانب تأثر بيير بونار بالاستامب الياباني، وخاصة نسخه الورقية وفق مقتنياته المعروضة جميعها، كموروث ثمين، بما فيها موجة هوكوساي وأعمال هيروشيج، وسواهما من المطبوعات المستقلة (بتقنية الليتوغراف)، وسأعرض عليكم عناوين قاعات هذه المراحل المتتالية قبل شرحها:

1 ــ الثورة البصرية.
2 ــ الفكر التشكيلي في الثقافة اليابانية العامة.
3 ــ الاستامب الياباني (المحفورات الطباعية).
4 ــ السينيتيك الطباعي الحركي.
5 ــ المشاهد الداخلية العائلية الحميمة.
6 ــ توقف الزمن بعد جريانه.
7 ــ ساعة النمر، بمعنى السكون الذي يبشر بهيجان العالم العائم.
اختلطت بالعرض، إذًا، لوحات بونار التي تعرض لأول مرة على الجمهور العريض (غير معروفة)، ومجموعته من الاستامب الياباني للمقارنة المباشرة.

بيير بونار: المائدة البيضاء، ألوان زيتية على قماش 1925م. قياس 109X100 سم


ترجع التقاليد المثبتة في التظاهرة إلى عصر المعلمين الطباعيين ما قبل القرن الثامن عشر هيروشيج وهوكوساي (تجاوز تأثيرهما بونار وجماعته "الأنبياء" منذ فنسنت فان غوخ، وهنري تولوز لوتريك)، وسواء اعترفت اليابان وكوريا بالتأثير الطاوي ــ الصيني منذ عصر مينغ، أو لم تعترف، فإن خصائص أفضلية الفراغ والمنظور العمودي (المعاكس لمنظور ألبرتي لعصر النهضة الإيطالية) تثبت هذا التواصل رغم تمايز الفكر الياباني. جميل أن نعود إلى عبقري السينما المخرج الياباني كوروساوا في فيلمه "حلم" لنتخيل جسر فان غوخ يعود إلى يابانيته في العاصمة الإمبراطورية كيوتو.
إذا عدنا إلى العلاقة الثنائية المقارنة في المعرض: "بونار واليابان"، وجدنا أن الصالة الأولى تميز مفهوم عنوانها: الثورة البصرية التي استعارها بونار مبشرًا بحداثة القرن العشرين من خلال المنظور الياباني الذي يعتمد على التسطيح وثنائية الحجم وأفضلية الفراغ على الامتلاء، وعلاقة أرابسك التخطيط العام بموروث الكتابة. أما القاعة الثانية فتمثل التأثير الفكري الأعمق لبصمات الفلسفة اليابانية، مثل تأمل تحولات العالم والطبيعة، وحتى المجريات اليومية. كان بونار منذ 1890 من أكثر فناني عصره استلهامًا من القواعد الفنية البوذية للاستامب الياباني؛ نراجع خاصة رسومهم التحضيرية الحرة، وألوانهم الفياضة، وتجليات تكويناتهم التي تعتمد على توقف الزمن بعد جريانه الدوري، وهو ما ينطبق على طرفي المقارنة في دواخل المبيتات الحميمة، سواء تقاليد بنات الهوى (الشيفا)، أو تعقب زوجته في تعري الحمام، أو صالة الطعام، والعلاقة مع الحيوانات التي تشيع الأنس العاطفي، خاصة الكلاب والقطط، التي تؤنس مشاهد العزلة داخل المنزل، مثلها مثل النوافذ المشرعة على الطبيعة، هي التي تجعل الخارج ينتمي إلى ذاكرة الداخل، ويتجلى هذا أكثر من رسومه التحضيرية والكتابية التي يسجل فيها أحوال الطقس، من رطوبة وعواصف وسحب وأنواء أخرى فصلية، خاصة الصيفية، مما يصادق افتراش زمان العرض سياحيًا على امتداد فترة الصيف في منطقة جنوبية متوسطية مثل إكس إن بروفانس.
ـوإذا كانت صفة ديكوراتيف سلبية قبل تجربة بونار فقد أصبحت واحدة من جوانب أصالة الحداثة المستقبلية على غرار نظام البارافانات التي تجزئ الفراغ الداخلي وترسخ من ستر ألغازه الحميمة.
معرض ينتظره كثير، مما يفسر كثافة السفر السياحي المنظم إلى منطقة "سيزان ــ بونار". أما كتاب المعرض ــ الكاتالوغ، فقد أشرفت على روعته محافظة متحف أورسي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.