}

"لا أرض أخرى": في تخليد نضال شعب اغتصبت أرضه

بوعلام رمضاني 11 أغسطس 2024
سينما "لا أرض أخرى": في تخليد نضال شعب اغتصبت أرضه
جاء الفيلم في قالب استثنائي كفكرة لم ولن تموت
"تسقط إسرائيل"، هكذا هتف أحد المتفرجين في نهاية فيلم "لا أرض أخرى" الذي شاهدته في ليلة ماطرة وباردة مؤخرًا بالقاعة السينمائية الباريسية للمركب الثقافي الشهير الذي يخّلد الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو.
وجدت نفسي يتيمًا بين متفرجين فرنسيين وأجانب يتحدثون لغة شكسبيرية تابعوا من خلالها فيلم تاريخي يفّند دعاية بنيامين نتنياهو الكاذبة والمستمرة على قدم وساق حتى لحظة كتابة هذه السطور. بعد أن تناولت وجبة عشاء حزينا في مطعم لبناني جلست معزولًا في قاعة امتلأت عن آخرها بجمهور لم يعد من السهل، بل من شبه المستحيل، التعبير عن تأييده حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة تفاديا لتهمة معاداة السامية الجاهزة في كل الحالات.
ومن بينها، حالة طلبة معهد العلوم السياسية الذي أضحى وكرًا لمعاداة السامية على حد تعبير ضيوف قناة "سي نيوز" التي لا تعد ما يحدث في غزة حدثًا صحافيًا، خلافًا لأحداث اجتماعية تتعلق بالقتل المتعمد وغير المتعمد والقضايا المحلية التي تهم الشعب الفرنسي من منظورها الأيديولوجي الذي لا يفرض حتما التفاتة عابرة ولو رمزية وتمويهية للفيلم الذي شاهدناه. وكما قيل عن مناضلي حزب فرنسا الأبية المتهم بتبرير إرهاب حماس، وعن مناضلته ريما حسن الفلسطينية السمراء التي استدعتها الشرطة للاستنطاق، سيقال الشيء نفسه عن كاتب هذه السطور، وعن الإسرائيلي اليهودي، والفلسطيني العربي، اللذين تحالفا في تجربة فنية غير مسبوقة للتنديد بظلم استعماري يبرره تطرف ديني صهيوني لا يندد به الكثير من المثقفين العرب الطلائعيين بنفس درجة تنديدهم بتطرف حماس.
شعب فلسطيني يتعرض لظلم وبطش استعمار استيطاني وعنصري منذ 75 عامًا، وصموده أمام كل محاولات التهجير بروح نضالية أسطورية، هي الرسالة التي أراد أن يؤكدها تحالف يهودي فلسطيني استثنائي بفضل الفلسطينيين باسل عدرا، الناشط السياسي والمحامي، وحمدان بلال، الناشط الآخر، ويوفال أبراهام (إبراهيم)، الصحافي الإسرائيلي، وراحيل سزور الإسرائيلية مثله، والتي قامت بتصوير حالات التدمير والتهجير والهدم المنتظم لبيوت سكان قرية مسافر يطا. كاتب هذه السطور الذي مثّل الصحافة العربية مكفهر الوجه والروح في يوم كئيب كالأيام السابقة واللاحقة لإبادة غزة المستمرة، اضطر لأن يصّفق أكثر من مرة تاركا دموعه تنزل بحرقة وحرية مطلقتين وغير اختيارتين على لحيته الفوضوية. لم يهتف المتفرجون في نهاية الفيلم "تسقط إسرائيل" داعمين هتاف متفرج واحد متمرد احتراما لتوجيهات ناعمة (كما أتصور وافترض) خوفا من إلصاق تهمة معاداة السامية بهم، كما حدث مع الطلبة اليهود وغير اليهود الذين ندّدوا بإلإبادة الإسرائيلية لغزة في معهد العلوم السياسية الشهير كما ذكرنا سلفا، وكما أكد ذلك الأستاذ والكاتب سلام الكواكبي في مقال ثاقب بموقع "المدن" مؤخرا. في فيلم قام بأداء دوريه الرئيسيين ناشط مضطهد في قرية أجداد أجداده (باسل) وآخر إسرائيلي (أبراهام) ينعم بحرية كاملة محرمة على صديقه الفلسطيني، أضحى حضورهما جنبا لجنب أمرا وجوديا بديعا إنسانيا وسياسيا وفنيا واجتماعيا. جاء الفيلم في قالب استثنائي كفكرة لم تمت ولن تموت، وكتنفيذ يبعث على الأمل الممكن ليس في المدى القصير حتما، وهو الأمل الذي سيصبح حقيقة ملموسة آجلا بعد استقلال فلسطين، إذا ما استندنا إلى ما تمثله رمزية رسالة فيلم ليس ككل الأفلام التي قدمت عن نضال الشعب الفلسطيني في سياق الإبادة التي يتعرض لها باسم محاربة تطرف حماس الإسلامي التي لا تمثل الفلسطينيين في نظر الكثير من المثقفين الغربيين والعرب، والذين لا يقولون إن نتنياهو التوراتي الروح والنزعة لا يمثل كل الإسرائيليين.

فيلم "الشعب العنقاء" 

فيلم "لا أرض أخرى" وثيقة سينمائية أقرب منها إلى الملحمة من العمل الفني العابر والمستهلك، ودلالة ناطقة بحقيقة الصمود الفلسطيني الأسطوري الأعزل الذي ينبعث من الرماد كالعنقاء مقاوما الموت بأبشع الصور، ويفعل الشعب البطل ذلك معزولا عربيا ودوليا متحديا دعاية وزيف طروحات برنار هنري ليفي الذي أصدر مؤخرا كتابه "عزلة إسرائيل" مثيرا شفقة وسخرية الأصحاء عقليا والمجانين على السواء.




ساهم في إخراج الفيلم إلى جانب عدرا وأبراهام، حمدان بلال الفلسطيني، وراشيل سزور اليهودية، في إطار فني غير مسبوق بحكم إقدام فريق تجانس إنسانيا وفكريا وإخراجيا في أول ظهور له. الفيلم يفنّد بشكل قاطع خطاب نتنياهو التوراتي والحضاري في الوقت نفسه، وأغلبيته الحاكمة المستمرة في إبادة غزة باسم محاربة إرهاب إسلامييها الوحشيين. 

برلين وضجة تهمة معاداة السامية

الفيلم الوثائقي الطويل الذي لا يعده الإعلام الفرنسي حدثا ثقافيا كبيرا ولا يهم القنوات الفرنسية الخاصة الداعمة لإسرائيل المظلومة وحدها تاريخيا، بُرمج في إطار الدورة السادسة والأربعين للمهرجان الفرنسي الدولي لسينما الواقع ( 22 ـ 31 مارس/ آذار)، و"كان من الضروري أن يعرض بباريس، بعد أن صنع الحدث  ببرلين"، على حد تعبير المسؤول الفرنسي عن برمجته في المركب الثقافي الشهير "جورج بومبيدو".

يوفال أبراهام


ذات المسؤول، تأسف في مداخلة رحب بها بالجمهورـ مستعينا بشابة قامت بترجمة كلامه إلى لغة شكسبيرـ على عدم استطاعة المخرجين عدرا وأبراهام من السفر إلى باريس بسبب عدم حصول الأول على التأشيرة في الوقت المحدد، ورفض الثاني التنقل إلى باريس في غياب صديقه ورفيق دربه في الفيلم، وفي الحياة الشخصية والنضالية من أجل فلسطين حرة وغير مستعبدة.





تبلغ مدة عرض فيلم "لا أرض أخرى" 95 دقيقة، وهو إنتاج مشترك بين فلسطين والنرويج، وأدرج عرضه لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي الرابع والستين ضمن فقرة بانوراما الأفلام الوثائقية يوم السادس عشر من شهر فبراير/ شباط ـ قبل برمجته في مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية يوم الخامس عشر من مارس/ آذار. الفيلم الذي خرج من مهرجان برلين العالمي (برليناله) بجائزتي الجمهور البانورامية لأفضل فيلم وثائقي و"برليناله للأفلام الوثائقية"، وأنتجته شركتا "ياباي ميديا" و"مضاد أفلام"، تسبب في ضجة بعد أن اتهم كاي فينجر، عمدة برلين، وعدد كبير من السياسيين الألمان، الطاقم الإخراجي الفلسطيني الإسرائيلي للفيلم بمعاداة السامية مؤكدا في الوقت نفسه عبر تغريدة "أن المانيا تقف بقوة إلى جانب إسرائيل ". ردا على عمدة برلين، طالب الطاقم الإخراجي الفلسطيني الإسرائيلي الدولة الألمانية في بيان صدر في موقع انستغرام المهرجان بالتوقف عن تزويد إسرائيل بالأسلحة، كما صرّح المخرج والصحافي يوفال أبراهام في حديث لصحيفة "الغارديان" قائلا: "اتهامي كابن لناجين من الهولوكوست (المحرقة اليهودية) بمعاداة السامية بعد مطالبتي على الأراضي الألمانية بوقف إطلاق النار، ليس أمرا مشينا فحسب، بل يعّرض حياة اليهود للخطر أيضا". للصحيفة البريطانية نفسها أردف يقول: "اضطرت عائلتي لأن تخلي بيتها في القدس بعد أن جاء يمينيون متطرفون يببحثون عني"، وعبّر عن قلقه على حياة صديقه باسل عدرا بعد عودته إلى الضفة الغربية.

باسل كشاهد على التهجير القسري منذ الصبا

إذا كان الفيلم لا يضيف شيئًا جديدًا للمشاهد العربي بحكم نومه واستيقاظه على وحشية استعمار إسرائيلي استيطاني غير جديد وغير مدهش منذ نكبة 1948، وحتى ساعة إبادة غزة، فإن تحالف وتعاون مخرج وصحافي وناشط ومترجم إسرائيلي ومحام وناشط فلسطيني بعد السابع من أكتوبر لتأكيد الإبادة غير الجديدة بالصوت والصورة، يعد أقوى رد فني ورمزي على جهابذة المتاجرة بالهولوكوست، والتلويح بورقة معاداة السامية ضد كل من يفضح مناوراتهم ومبرراتهم المشينة، ونفيهم للحقيقة التاريخية التي تم تصويرها بهواتف نقالة. إن من يحاول البحث عن نقاط الضعف في فيلم "لا أرض أخرى" فنيا (وهي موجودة كما توجد في أي عمل فني بنسب متفاوتة حتى عند استعمال أحدث وسائل التصوير) ـ قبل تأكيد خطورته على الكيان الصهيوني المغتصب في السياق الفلسطيني الراهن ـ يعتبر في تقديرنا عدوا مبدئيا لرسالة سياسية وإنسانية فرضها سياق إبادة تصبح فيه الجودة الفنية حاجة كمالية، والباحث عن مواطن الضعف الفني في فيلم وثائقي لحظة التعتيم عليه إعلاميا. المتوقف بتمعن عند مقاربة الفيلم استنادا لسيناريو محبوك وذكي ساهم في كتابته أعضاء الطاقم الإخراجي الفلسطيني الإسرائيلي، لا يملك إلا أن يشيد بالمزاوجة "البريختية" (نسبة إلى المسرحي الألماني الشهير برتولد بريخت) بين الشكل والمضمون اعتمادا على تبعيد يضمن عدم وقوع المشاهد في الوطأة العاطفية الخالصة، ودفعه في أحضان متابعة عقلية وواعية بعيدا عن تداعيات الرسالة الفجة والمباشرة الناطقة بنضالية خطابية غارقة في النُواح الأيديولوجي. وتم تحقيق ذلك بدرجة كبيرة، حينما حضر التنكيت في حوار الناشطين المتحالفين (متى تتزوج؟... يوفال متحدثا مبتسما إلى باسل ومثيرا ضحك المتفرجين)، وبين الفلسطينيين أنفسهم بشكل وظيفي صبّ في صلب الكفاح الطويل الذي ما زال ينتظر أحرار فلسطين.
لقد ضحك الجمهور (لأن شر البلية يضحك أيضا)، حينما أثار أحد الفلسطينيين يهودية أبراهام حليف باسل الفلسطيني، كما أثارها فلسطينيون بسطاء من القرية المستباحة مبتسمين وصامدين بخرافية لا نظير لها أمام عساكر الجيش "الأكثر أخلاقية في العالم" كما يقولون، والخلاّق في البطش بكل من تخول له نفسه مجابهتهم من النساء والأطفال والشبان والكهول والشيوخ. الجيش "الأخلاقي" يهدم البيوت الفلسطينية بقرار قضائي، مستخدما جرافات أصبحت تدفن الشبان المسالمين وغير "الإرهابيين"، كما أكدت ذلك الصور التي شاهدها العالم مؤخرا. 

باسل عدرا أثناء عرض الفيلم في مهرجان برلين عام 2024


الجيش نفسه يدفن المنبع المائي بالإسمنت المقوى، ويقطع الأنابيب البلاستيكية مهددا النساء اللاتي يعترضن طريق عساكره، ويقتل من "يبالغ في احتجاجه"، وهو نفسه الجيش "الأخلاقي" الذي يترك الأطفال يموتون جوعا لحظة كتابة هذه السطور باسم محاربة حماس.

مدرسة التلميذة الشقراء الجميلة تهدم أيضا

باسل الشخصية الرئيسية التي دار حولها الفيلم باعتباره الشاهد على وحشية الجيش الإسرائيلي ـ إلى جانب حليفه وصديقه أبراهام الصحافي الذي أرخ للمأساة الفلسطينية بمقالاته التي يحرص على متابعة تأثيرها ـ كان محور الأحداث المأساوية التي عاشها منذ أن كان عمره لا يتجاوز خمسة أعوام. إنه المحور المرجعي المرادف لرمزية نضال شعب متشبث بأرض أجداده أكثر من أي وقت مضى رغم عقود التهجير الماضي والمشاريع المستقبلية للمؤمنين ليس بتحرير غزة فقط من "وحوشها الإسلاميين" فحسب، بل من كل الفلسطينيين الرافضين لاحتلالها من غير الإسلاميين حتى وإن لم يسكنوا الكهوف كما بينتها كاميرات الفريق السينمائي الفلسطيني الإسرائيلي. لم يسلم في فيلم "لا أرض أخرى" البشر والحجر والماء والحيوانات الأليفة وغير الأليفة من همجية جيش يهدم مدارس تلاميذ وتلميذات في سن الزهور، مثل الطفلة الشقراء الجميلة التي بقيت تلعب وتضحك وترقص رغم عدم توقف البطش الإسرائيلي على مدار الفصول. التهجير القسري والوحشي الذي تعرضّ له سكان قرى مسافر يطا الواقعة في تلال جنوب الخليل بالضفة الغربية بين 2019 و2023 كما تجسّد ذلك في الفيلم "المعجزة"، ليس سوى نموذج صغير من واقع التهجير التاريخي الشامل الذي ما زال يتجّدد أكثر من أي وقت مضى حتى لحظة كتابة هذه السطور في غزة. فيلم خرج إلى العالم بأسره عشية استعداد نتنياهو للقيام بتهجير جديد أفظع من الذي عرفته قرى مسافر يطا بفضل فريق سينمائي فلسطيني إسرائيلي قام بتوظيفه يهود سلميون يناضلون مع فلسطينيين سلميين ضد يهود آخرين غارقين في صهيونية استعمارية وعنصرية وحشية. لقد نجح بنجاته من الخطابية السياسية العتيقة، وتبنيه معالجة فنية تضمن التسلية والدعابة والتنفيس، من خلال حوار مؤثث إنسانيا وفكريا ودراميا، وتمثيل صادق ومتقن في أول تجربة إخراجية جماعية، وفريدة من نوعها على كافة الأصعدة.
هل سيعرض الفيلم في البلدان العربية والإسلامية التي قامت بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب أم سيمنع بضغط من الجهات الصهيونية التي تختصر الإرهاب الوحشي في مرتكبي هجوم السابع من أكتوبر فقط؟ وهل هو أكثر بشاعة إنسانيا وأخلاقيا مما أخرجه لنا ناشط إسرائيلي حر طليق في القدس وفي غيرها من المدن مع صديقه باسل، مواطن الدرجة الثانية في كل فلسطين وليس في قريته فقط، والذي يهان ويضرب ويعتقل، وقد يقتل بأرض ليس له سواها؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.