}

"هوارية" أو عجب كُتّاب الإقصاء والتغييب المتبادلين

بوعلام رمضاني 31 يوليه 2024
ماذا لو نضع "الضجة" التي أثارتها رواية "هوارية" للكاتبة والمترجمة إنعام بيوض في إطار أشمل يتجاوز المستويات الأدبية والنقدية والأخلاقية التي تعدّ إيجابية في تقديري. لماذا؟ ببساطة، لأن هذه الضجة، التي كانت منتظرة بالشكل الذي تجّلّت به، لمن يقارب مفهوم الثقافة بعمق وتبصر، لم تبرز بـ"القوة الضعيفة" غير المسبوقة إلا لتأكيد حضور "ثقافي" زائف يجعل من معظم ممثّلي الأيديولوجيات المتصارعة رموز فساد أخلاقي بالمفهوم الواسع للكلمتين رغم زعمهم محاربته انطلاقًا من منظورين فكريين يرادفان الإقصاء والتغييب حتى إشعار جديد. هنا محاولة منبوذ قديم وعتيق يصعب تصنيفه في زمن أيديولوجي وديني متأزم يتعايش فيه جهابذة الهوية والحرية على مرأى ومسمع سلطة تستفيد من شعاراتهم المتضاربة بفضل تلاعبها ومراهنتها على تدجين كل أنواع وأدعياء المعارضة.

أولًا، ليس من الطبيعي، وليس من الممكن علميًا ومنهجيًا، أن يسقط من السماء أو يطلع من الأرض فجأة صراع أيديولوجي دون التخوين والقذف والتلفيق والإساءة الشخصية والانتهازية والازدواجية المعيارية في مجتمع لم يعرف معنى الصراع الأيديولوجي الحقيقي الذي يتطلّب حتمًا تربية اجتماعية تقوم على تعدّدية دنيوية ودينية يحتضنها الوطن الواحد الذي لم يتحرّر بشكل نضالي خرافي ليقع في مخالب نزعات "استعمارية" يفترض أن يستفاد من تداعياتها القاتلة. في عزّ ثورتنا ضد الاستعمار، ومنذ الاستقلال، لم نعرف دورًا تعدّديًا للمثقفين (إلا في حالات نادرة)، في مجتمع عجّت به الخطابة السياسية الأحادية التوجه، تفسّر غيابهم الدائم الذي فرضته أحادية بالترهيب والترغيب من خلال كتّاب وإعلاميين ما زالوا أوفياء للتغييب والإقصاء المتبادلين في حلّة مثقفين عضويين يتفاوتون في درجة الولاء السياسي الأعمى بصفة مباشرة وغير مباشرة، كما أبرزته ضجة رواية "هوارية" المؤكدة لديمومة وجودية وجدلية تضرب بجذورها في الماضي البعيد والمتوسط والقريب. الأسماء التي عرفها كاتب هذه السطور من الراحلين والأحياء الذين يرزقون من الأطراف المتصارعة كما بينّت ضجة "هوارية"، تؤكد أن معظم الكتاب والإعلاميين الذين تحدّثوا "بقوة ضعيفة" عن الهوية والأخلاق والحرية رافضين أو مؤيّدين لرواية "هوارية"، هم من أعداء الحرية والهوية في الوقت نفسه باسم الوطنية والإسلام والعلمانية التنويرية، وهم أنفسهم الذين يسطعون بغيابهم وتغييبهم في سياقات وطنية وعربية وعالمية مصيرية تقوم على تدجينهم داخليًا وخارجيًا تحقيقًا لمصالح جهوية وقبلية وشخصية انتهازية باسم تفضيل الجهة التي تمثّل أخفّ الضررين، ولعلّ التعود على مشاهدة إبادة غزة قبل النوم والصحو بدون تحليل موقف الظالم والمظلوم خير وأفظع دليل. كيف لهؤلاء البروز اليوم فجأة في سياق الغياب والإقصاء التاريخيين دفاعًا عن الحرية والهوية في الوقت نفسه بروح رجالية طاغية ضد أو مع أقلية نسوية متنورّة ومستلبة، وعاهرة، على حد تعبير بعض ممثّلي أحد طرفي الصراع الناطق باستقطاب فكري ضيق لا مكان فيه لأمثال كاتب هذه السطور الذي يعرف الظاهر والخفي في حياتهم الأيديولوجية والشخصية المزدوجة المعايير؟ كاتب منبوذ، كما أسلفت الذكر، وغير وطني حتمًا بكتبه التي دافع فيها عن ثوابت وطنية وإنسانية تتجاوز أيديولوجية عشائر الإقصاء والإلغاء بشعارات يريدون أن تكون تمثيلًا لحرب داحس والغبراء في صيف 2024.

ثانيًا، المتصارعون أيديولوجيًا حول الهوية والحرية ليسوا متجانسين أخلاقيًا كمواقف وسلوكات رغم تواجدهم في الخندق الأيديولوجي الواحد وطنيًا وجهويًا ودينيًا وتنويريًا، ومن الخطأ وضعهم في سلة واحدة. الأسماء التي أعرفها شخصيًا ومهنيًا، كثيرة في خندقي حرّاس الأصالة والهوية بثوابتها الثلاثة الحداثة والحرية والمدنية أو الأقلية الثقافية في منظور الأغلبية الثقافية الهوياتية، وهي ليست أسيرة تبعية سياسية صلبة أو ناعمة كالناشرة آسيا علي موسى التي رفضت طلب محاورتها بلطف لافت أكثر من مرة للسبب الذي دفعها إلى الانسحاب من النشر كما أعتقد، وربما بسبب معرفتها الكاملة بمسار صحافي "غير وطني" في نظر أعدائها، وهو الصحافي الذي لا يجامل حينما يتعلق الأمر بمصلحة الوطن الأبقى والعابر لكل أنواع السلط والحكام. حتى لا نسقط في فخ التشخيص الذي لا يزيد ولا ينقص من جوهر أطروحة التغييب والإقصاء المتجذّرين في الخندقين بفنّيات وأساليب تتفاوت فيها نسب الموهبة والإبداع، نفضّل الإستعانة بحقائق تجمع المتصارعين البعيدين عن مفهوم المثقف الناقد لكل أنواع الإعوجاجات الفوقية والتحتية بروح أخلاقية تخدم الصالح العام غير الأيديولوجي والنخبوي، حتمًا كما هي حالهم. الأسماء الكثيرة التي أخرجت السيوف الصلبة والناعمة ترويجًا أو تشهيرًا بأسماء مكوّني الجائزة الروائية (الروائية آسيا جبار والناشرة آسيا علي موسى وإنعام بيوض الفائزة بالرواية الصادرة عن دار ميم)، ليسوا كلهم ملتزمين أخلاقيًا رغم تناحرهم الأيديولوجي، ووقفوا مع الباطل ضد الحق في أكثر من مناسبة في مسارهم الغنيّ بالجبن والولاءات الجهوية والسياسية والانتهازية الشخصية والانتفاع المادي، وهؤلاء الذين هبّوا في حلّة مثقفين يحرسون الهوية والحرية، سكتوا وما زالوا ساكتين على تغييبهم في عزّ تحوّلات وتحدّيات ومصاعب ومخاطر بحاجة إلى تنويرهم بثوابت متضاربة المنبع والأبعاد والخلفيات والجذور.


التنوير (بمفهومه اللغوي وليس الأيديولوجي الضيق) المحسوب على حرّاس الثوابت الوطنية والإنسانية، ليس تنويرًا إذا أصبح مناقضًا للتروّي والاتزّان والقذف والتناقض المبدئي، ومرادفًا للتخوين والترهيب والاضطهاد لحظة التعبير عن الاختلاف عند مقاربة مفاهيم غير متفق حولها دينيًا وأيديولوجيًا، ليس عربيًا وإسلاميًا فقط، والتكفير المجاني الصادر عن حرّاس الهوية الرافضة لحضور فكري غير فكرها، حقيقة رفعت اللثام في ظل ضجة "هوارية" عن ثقافة التغيبب والإقصاء التاريخيين. للأسف الشديد، الأسماء القليلة النادرة التي جسّدت حمولتها الفكرية والأخلاقية في واقع ممارستها الأيديولوجية برزانة ونكران للذات وخرقًا للمصالح الشخصية وتذويبًا للنعرات الجهوية، تكاد لا تظهر، ولولا وسائل "عمنا مارك"، لما سمع أحد بمواقفها التي دفعت ثمنها غاليًا، وحدث أن راحت ضحية الفساد السياسي والتهميش والعزل رغم تنافرها السياسي وخدمتها الوطن باستقلالية وكفاءة لافتتين. التنوير الذي ارتبط بجهة جزائرية وعربية ما، في سياق اقتداء فكري في غير محلّه باسم الحرية والعدل والإنسانية، لم يعد صالحًا كمفهوم مع ثبوت عجز الكثير من ممثليه على الجهر بتاريخ حقائق سياسية لم تتوقف فيها الظلامية والروح الفكرية المغلقة على تيارات دينية رجعية فقط. انطلاقًا من هذا المعطى التاريخي، يتساوى الكثير من حرّاس الهوية والحرية في تقديري الشخصي في سياق دفاعهم أو تهجمهم على الثلاثي النسائي الصانع "لضجة" رواية "هوارية"، ما دام الكثير منهم يبدعون في الولاء الأعمى ظاهريًا والمحسوب هوياتيًا وأيديولوجيًا في عمق واقع الممارسة والعلاقات مع متنفذين غير مثقفين، ويعادون الحرية والتنوع الفكري، ويخلطون بين هذا وذاك بروح إعدام ناتجة عن تطرّف لغوي وديني وفكري في الحالتين المتنافرتين، والخارجة جوهريًا من رحم ثقافة تغييب وإقصاء متبادلين. شخصيًا، أجد نفسي في تأزّم وجودي غير مسبوق (وهو التأزم الذي يبدو للبعض صحيًا)، بسبب رفضي القاطع والمبدئي لاختياري جهة ما من الأطراف التي شاركت في ضجة رواية "هوارية" استنادًا لمعطيات تحليلي الذي يتجاوز الانتماء الأيديولوجي الضيّق باسم الوطنية والتديّن واللاتديّن، والمنافي لشعاراته في واقع المواقف والممارسة. إن العبد المتديّن وغير المتديّن التابع وطنيًا أو عربيًا أو عالميًا بأشكال متنوعة وصلبة وناعمة، لا يمكن أن يدافع عن وجوده بالهوية وبالحرية المزعومتين. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.