}

"ليليث": هل نحن بحاجة إلى طوفان جديد؟

أنور محمد 25 سبتمبر 2024
مسرح "ليليث": هل نحن بحاجة إلى طوفان جديد؟
مشهد من المسرحية

 حاول المُخرج المسرحي السوري هاشم غزال في عرض "سيدرا" أو "ليليث" على مسرح دار الثقافة باللاذقية من كتابة المؤرِّخ والشاعر والمسرحي العراقي خزعل الماجدي، الذي أصدرَ ما يقاربُ مئةَ كتابٍ، أن يُوقِعُنا في ليلةٍ ليلاء؛ ليلةٍ صعبةٍ وقاسية مع"ليليث" بالعبرية، و"ليليتو" بالأكادية، وكلاهما من الجذر "ليلَ" الذي يعني الظلام. مع ليلى، وعشتار، وفينوس، وأفروديت، وإيزيس، ليليث الشيطان بلباس ملاك؛ التي تغري وتغوي وتلعب حتى توقع ضحيتها في قاع الجحيم. ليليث التي تقتل، تغتال- تفضِّل الاغتيال وتحرِّض على الجريمة. ليليث التي هي حسب الأسطورة، أوَّلُ امرأةٍ تمرّدت على الأوامر الإلهية لحظةَ خلق الكون، ليليث المرأةُ الفاتنةُ القدِّيسةُ والشهوانيةُ المدمِّرة قاتلة الأطفال. ليليث هذه المخلوقة من (كُنْ) لوحدها، كما آدم من (كُنْ) لوحده، والتي أوَّل ما ظهرت كشخصية؛ ظهرت في ملحمة "جلجامش" السومرية كخصمٍ قوي لا تسمح لـ "إنانا" بقطع الشجر لتصنع سريرًا لها، فَقاوَمَها جلجامش وَطارَدَها، فاختبأت في الخرائب تستدرج الأطفال وتلف شعرها الأسود الفاحم على أعناقهم وهي تهدهدهم لتخنقهم، غير أنَّها في هذا العرض تتحوَّلُ إلى امرأة لسيدرا الأب.

حكايات، طلاسم، وألغاز علقت في الذاكرة البشرية عن امرأة حاولت عبر الأساطير عنها أن تفلت من قبضة الفكر، وتصير مستعصية على الإمساك بها. المُخرج هاشم غزال وفي مشاهِدَ متلاحقة على شكل ثوبٍ من نسيجٍ لوني غنيّ بالإشارات المأساوية وليس ثوبًا من خِرَقٍ ممزَّقة؛ وفي المشهد الأوَّل التمهيدي الذي قام على رقصةٍ مَزَجَ فيها الخيالي بالواقع كون ما سيحدث من جرائم فيها قَتْلٌ/ اغتيالٌ للأب سيدرا- أدَّى دوره الممثِّل مقداد حمودة من مكيدة ليليث- أدَّت دورها الممثِّلة غربا مريشة، جعلنا نرى صورة بصرية (سينوغرافيا) وهي من تصميم المُخرج بغاية الشفافية والصفاء في رصدٍ؛ في رقصةٍ ترصدُ الموت، فنتتبَّع ونترصَّد نموها في المشاهِد التالية.

مخرج العمل هاشم غزال والكاتب خزعل الماجدي


سيدرا
في تسمية المؤلِّف خزعل الماجدي، وليليث في تسمية المُخرج هاشم غزال وهو المشهد الافتتاحي، عن حكاية طوفان سفينة نوح في الأسطورة البابلية. يموت سيدرا الأب بعد أن جمع أولاده الثلاثة وسَرَدَ عليهم حلمًا طلب من كل واحدٍ منهم أن يفسِّره حتى يوزِّع عليهم السلطة والثروة: حامْ، الذي أدَّى دوره علي الجهني، حَامَ ولفَّ ودار وطالبَ والده أن يرفع عنه العقاب فيرفض الأب ويمنحه جنوب الأرض، أما يافث، الذي أدَّى دوره مصعب مزوق، فيمنحه أعالي الأرض وهو أكبر أجزائها، فيما يقسو على هام الذي أدَّى دوره الليث لايقة، والذي يبدو أكثرهم فهمًا للعبة الوجود، وأنَّ الطوفان كان لا بدَّ منه للتخلُّص ولو إلى حين من الشر الذي يحرِّك الصراعات ويُقيم الحروب. حيث تبدأ ليليث لعبتها، وتتَّهم الأولاد كلًّا على حدا بقتله لأبيه، كذلك العم عمرا (أدَّى دوره عبد الوهاب عيان) والكاهن (أدَّى دوره أنطونيو عشي). الأب سيدرا وقد صار جُثَّة لا بدَّ من دفنه، فنرى مشهدًا لجنازتين مع مجموعة من الممثلين: نغم دياب، علي ديوب، سلاف عفيف، ليث إسماعيل، لاريسا أبو شقرا، بشر علي، ليديا أسعد، عبد الستار الجغيني، كاساندرا نصار، حسن حجيكو، هيا علي، حكمت باش بيوك، حيدر مسعود، ومجتبى الساير. وبحساسية خاصة يسيطرون على الخشبة، فيَعْبُرون من سطح العمل، حوارات عادية من لغة الحديث اليومي بين أب وأولاده، إلى العمق لاكتشاف مركز الصراع، في إقامة تقابلات وتعادلات كأنَّ حربًا ستقع، وبدلالات اجتماعية وأصداء عاطفية وبإيقاعاتٍ بصرية.

انتقالٌ سريع، انتقالٌ بسرعة في فضاء الخشبة لصنع المَشَاهِد، فالممثلون/ الراقصون كانوا يتعاملون مع الحبلين المتدليين على يمين ويسار الخشبة، حبلي مشنقة، خيمةً، ومع ستارة القماش الأبيض، ومع الكرسي والمقاعد، وغيرها، كأنَّها قطعٌ من أرواحهم، ذلك لتحقيق لحظتي التأزيم الدرامي والانفراج. بل إنَّهم سيَّروا السفينة- تصميم طلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة اللاذقية، في المشهد الأخير؛ سفينة النجاة من الشر، ومن شرور ليليث في أمواجٍ على جانبيها بشكلٍ مثير. لقد مسرحوا الموج، تحكَّموا في اندفاعه والسفينةُ تشقُّ البحر/ النهر. مشهدٌ راقصٌ بسيط، هابط صاعد، متقدِّم. لقد كان اختيارًا حركيًا من المُخرج ومُصمِّم السينوغرافيا هاشم غزال، وإضاءة غزوان إبراهيم، وصوت نور المصطفى، وأزياء ومكياج نور شيخ خميس، مَنَحَ نصَّ المؤلِّف الماجدي على الخشبة روحًا- كونه نصًّا مُغرقًا في الفكر الذي من المُفترض أن يُليِّنه بالصراع/ الأفعال، وأنَّ صانع الشر/ المأساة ومحرِّكها ليس في النص بل في الأساطير عن "ليليث" الساحرة الفاتنة التي تنشر الدمار والخراب والموت أينما حلَّت. نصٌّ تناول شخصيات تاريخية (نوح وحام ويافث وهام) والخلاف الذي قام بينها، وليس الصراع. نصٌّ لم يُضف فيه المؤلِّف جديدًا لم نكن نعرفه عنهم، وكذلك طريقة إدارة الحوار بينهم الذي كان قريبًا جدًا من لغة الحديث اليومي فلا إيقاعات صوتية ولا بصرية، ولولا طريقة الإخراج والسينوغرافيا الغنية بالحركة والإشارات لَكُنَّا مع عرضٍ لا بنيانات هندسية له ولا بنيانات فيزيائية.

مشهد من المسرحية


لقد كانت رقصات/ حركات -والتي كانت جزءًا لا يمكن نزعه مِنْ بين المَشَاهِد- حقَّقوا فيها شيئًا من ذروات، حتى في مشهديْ تشييع الجنازة، وهم يحملون التابوت. لقد قاموا وبشكلٍ جماعي بأداء مادةٍ حركية اشتبكت مع المادة الكلامية/ الحوارية، فكانت ترجمةً لحاصلِ الشرِّ الذي تنشره ليليث في العرض. ليليث، أو الممثِّلة غربا مريشة، كانت تتحكَّم في أدائها بحركاتٍ مدروسة حتى وهي تهزُّ ورْكَها وجذْعها، أو تداعبُ يدَ أو كتفَ ضحاياها في إثارة للغريزة الجنسية، لكنَّها سرعان ما تفقد سيطرتها في بعض لحظات انفعالها، ويتحوَّل جسدها من مظهره الحركي وتأويلاته، إلى مظهرٍ لغوي حيث تنفعل بالجملة الحوارية وتفقد تماسكها فتتحوَّل إلى امرأة عُصابية.

مسرحية "ليليث" لا تقول بالثورة، ولكنَّها تعرض للعلاقة بين الكائن والعالم، فيصير الفكرُ يتساءل: هل نحن بحاجةٍ إلى طوفان جديد؟ 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.