من "معرض الكتاب الدولي" الذي انطلق عام 1985 واستمر ثلاثين دورة، إلى "معرض الكتاب السوري" الذي أقيم عام 2021 بعنوان "كِتَابُنا غَدُنا" وهو الأوَّل، ومن ثمَّ تمَّ تغيير عنوانه إلى "نقرأُ... لنرتقي" في عامي 2022 و 2024. كأنَّ لا غدًا جاء فنقرأ ولا حاضرًا نعيش فنرتقي، بل يتمُّ إبادة الكتاب، في الوقت الذي تقيم فيه وزارة الثقافة السورية المعرض الثالث للكتاب، بإزالة بسطات الكتب التي هي بمثابة معرض دائم، بسطات تنتشر في بعض شوارع دمشق وأهمُّها وأكثرها مقصدًا للقرَّاء من طلاب الجامعة والمثقفين؛ بسطاتُ جسر الرئيس بقرارٍ من محافظة دمشق، وذلك قبل ثلاثة أيام من انتهاء "معرض الكتاب السوري، 8-19 تشرين الأول/ أكتوبر 2024" ذلك بحجَّة تجميل المكان – أيُّ جمالٍ سيُزيّن المكان حين تزيحُ بل تقوم بإبادة الكتاب من على بسطات الشوارع بعد أن أغلقت معظم مكتبات دمشق، مثل مكتبة نوبل والنوري، أبوابها التي كانت ترفدنا بجديد الكتب الأدبية والعلمية والفلسفية من عواصم عربية كبيروت والقاهرة. أيُّ جميلٍ هذا الذي اخترع هذا القرار؟!! وأيُّ عظيمٍ وافَقَهُ فتزيحُ الجمالَ/ الكتابَ الكتابْ، ليملأ الأرصفة ببسطات الخضار والأحذية. هل يُدرك صاحبُ ومخترعُ هذا القرار ما هو حجمُ قوَّة البشاعة والقباحة التي ستخيِّم على المكان بحجَّةِ تجميله - وكأنَّه يجدُ أو يحقِّقُ لذَّةً جمالية لذاته. تُرى إلى أيِّ منظومةٍ عمرانية أو أخلاقية أو فكرية احْتكَمَ صاحب هذا القرار الجائر بحقِّنا وحقِّ الكتاب الذي لم تعد له أمكنة سوى هذا المكان وشبيهه ويجيء متزامنًا مع معرض الكتاب السوري الثالث؟!
أهكذا نُزيحُ الكتاب، نقلعه لنزرع النتانة والقباحة- أيُّ شيطانٍ رجيم دلَّ على اتخاذ هذا القرار الملهاوي المأساوي؟ أما يكفي الاغتراب والاستلاب وتمسيخٌ ذاكرة السوري أمام تحكُّم عملاق/عماليق قرارات تشويه الأمكنة والأزمنة. وهل صارت حيازة الكتاب وثيقة اتِّهامٍ فَنُكَفَّرْ؟
المعرضُ هذا في دورته الثالثة لعام 2024 أقيم في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، بمشاركة 40 دار نشر عامة وخاصة مع ما يُقارب 10 عشرة آلاف عنوان جديد في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والأدبية والعلمية والفلسفية، وأربعين 40 جناحًا؛ اثنا عشر منها للأطفال، واثنا عشر جناحًا للدور الحكومية، وجناح للهيئة العامة السورية للكتاب ضمّ مجموعة واسعة من إصداراتها المتنوعة بـ1500 عنوان بمختلف المجالات الثقافية والفكرية. إضافة إلى الدوريات والسلاسل المختلفة وكتب الأطفال وبنسبة حسم تصل إلى 50 في المئة من سعر الغلاف على جميع إصدارات عام 2020 وما بعد، ويرافق ذلك نشاطات ثقافية وفكرية منها: توقيع كتب من إصدارات الهيئة لعام 2024 وهي "الاقتصاد السياسي والركود التضخمي" للدكتور رسلان خضور، و"الأسطورة وفلسفة الحكم في حياة ملوك الشرق القديم" للدكتور عيد مرعي، و"صلوات للحرية" لعبد الكريم ناصيف، و"وثائق شراكة الخيل وبيعها عند العرب" لكمال الشوفاني، و"نصف شمس صفراء" للدكتور باسل مسالمة، و"في الحرب والسلم" للدكتورة ناديا خوست، وندوة أدبية تتحدث عن أعمال الشاعر صقر عليشي، وندوة للترجمة بعنوان "الترجمة والمثاقفة" بمشاركة 15 باحثًا وباحثة في علوم الترجمة.
يتمُّ إبادة الكتاب- في الوقت الذي تقيم فيه وزارة الثقافة السورية المعرض الثالث للكتاب- بإزالة بسطات الكتب التي هي بمثابة معرض دائم (داماس بوست) |
أمَّا المؤسَّسة العامة للسينما فشاركت بالمعرض من خلال تقديم سبعة أفلام روائية طويلة وهي فيلما "الطريق" و"العاشق" للمخرج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد، و"ماورد" للمخرج أحمد إبراهيم أحمد، و"الظَهرُ إلى الجدار" للمخرج أوس محمد، و"رحلة يوسف" للمخرج جود سعيد، و"عتمة مؤقتة" للمخرج فراس محمد، و"الحكيم" للمخرج باسل الخطيب. وضمّ جناح اتحاد الكتاب العرب في سورية مجموعة واسعة من إصداراته المتنوعة، والباقي لدور النشر الخاصة. ورغم قلَّة الدور المُشاركة فإنَّه معرضٌ يجيء لذرِّ الرماد في العيون. فالسوريون في حالة الحرب ومخلفاتها من فقر وجوعٍ وعوز لم يعد شراء الكتاب وقراءته من اهتماماتهم، حتى إنَّ الكتاب المدرسي - بالسعر المدعوم- لولا أنَّه ضرورة فيقرؤونه للحصول على شهادة تعليم لما اشتروه.
معرض للكتاب وقرار إزالة مكان عرض الكتاب الدائم على أرصفة مدينة دمشق؛ أظنُّها نزعة استعرائية، نظرة لا تقدِّر القيمة العظيمة للكتب- الكتب التي حفظت عقولنا من العفن والخَمَمَان. فنحن إن زرنا معرضًا للكتاب، أو معرض الكتاب الدائم على أرصفة الشوارع كما في القاهرة وبغداد والجزائر وغيرها من العواصم العربية؛ وهي معارض دائمة، فذلك لتحصيل فائدة ثقافية ومتعة جمالية، وليس استهلاكًا لنص مطبوع. أنا شخصيًا أُفضِّل معارض الأرصفة، وأحاول أن أكون من الناجين من مصيدة أصحاب دور النشر الذين بعضهم ينشر الكتب بقصد الاستثمار وليس لترويج الثقافة.
قرار إزالة مكتبات الرصيف أَهيَ مصيدةٌ وصفقة غير بريئة يُريدُ مِنَّا مخترعها أن نؤمن بالسحرة والأشباح؟ ثمَّ؛ ألا يُدرك مثل هذا العبقري أنَّ الكتب في الماضي- الماضي البعيد وذاك القريب- كانت تُعرضُ في مداخل المعامل والمتاجر والأبنية؟ وكانت معارض دائمة وأنَّه كانت في دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية والحسكة مكتباتٌ تؤجِّرُ الكتب، وأنَّه ما تزالُ هناك المكتبات المركزية التي تقرأ فيها ما ترغبُ من الكتب لأنَّك لا تملك ثمن الكتاب، وأنَّ عربات/ سيارات وزارة الثقافة كانت تتجوَّل في الأرياف السورية تُعير الكتب للقرَّاء لنشر الوعي وتعميم وترويج الفعل الثقافي؟