}

سيدي بو سعيد.. بين الأزرق والأبيض يمرُّ تاريخ المدينة

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 14 أكتوبر 2021
أمكنة سيدي بو سعيد.. بين الأزرق والأبيض يمرُّ تاريخ المدينة
(الصورة بعدسة الكاتب)

 

يا تونس الخضراء جئتك عاشقًا

وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ

إني الدمشقي الذي احترفَ الهوى

فاخضوضرتْ لغنائه الأعشابُ

(نزار قباني)

ذهب نزار قباني إلى المتن الأساسي الأخضر، من دون أن يعتمد على الهامش الأزرق. فربما يخشى من جماله الغامض ويتردد، كما تتردد القصيدة في انطلاقتها لبلوغ الهدف. ومثله فعل محمود درويش ذات يوم، عندما استحوذت تونس عليه، وملأ اخضرارُها أوراقَه المتنقلة معه، فأعجزته القصيدة البحرية، وألوانها المستحدثة من التقاء الماء بالسماء. لكنّ البارون رودولف ديرلانجي، وهو رجلٌ غريب، فرنسي- ألماني- إنكليزي، رسام وموسيقي، باحث ورحّالة، لم يُغرهِ متن المدينة كثيرًا، بل سحبته سنّارة الهامش، كما تُسحَب السمكة من البحر. فأقام على صخرة "سيدي بو سعيد" الشاخصة، ورمّم دارًا قديمة، فجعلها قصرًا ما يزال حتى اليوم قائمًا. وهو المكان الذي ألف فيه كتابًا مصدريًا عن الموسيقى العربية بستة أجزاء كبيرة، أهمها عن الفارابي وكتابه "كتاب الموسيقى الكبير" قضى فيها عمرًا طويلًا، يحلّل الأنغام والأوزان وجماليات الشجن العربي ويدرس التآليف العربية في الشأن الموسيقي، حتى ترك سِفْرًا كبيرًا ثقيلًا بالمعرفة والجمال.

ومع هذا وذاك ثمة بو سعيد الباجي، صوفي المكان وربيب الروحانية السماوية، يتوسط المدينة منذ قرنٍ من الزمان، ضريحًا مبخّرًا بالتلاوات والأذكار، في حضورٍ محلي لا يمكن أن يُنسى، فإنه البقاء الأبدي في سيرة الزمان والمكان، كما شاء له القدر أن يبقى هكذا.

بين قباني الدمشقي، ودرويش الفلسطيني، والبارون مزدوج الجنسيات، والباجي التونسي، أكثر من صلة نفسية، يجمعها المكان الفريد، حتى وإن تباعد وابتعد بينهم، لكنه يلتقي على تخوم الجغرافية السيكولوجية في روح القصيدة، وإلهامات الرسم، وشجن الموسيقى، وروح التصوف، يجمع الأقلام، والأوراق، والألوان، والبخور، والأنغام في سفينة واحدة، عند أروقة المكان، فهذه المدينة الصغيرة، المتشبثة بالساحل ورائحته، جمعت وتجمع في مستقبلها، رحّالة الأثر والحرف، والصورة، والفكرة، والجمال، فأنْ ترقد على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ستتشبع بالندى والرطوبة ونسيم الليل، على مدار المواسم المتعاقبة، وتمتلئ ذاكرتك، بالبرودة، والموج الناعم، والفنارات الليلية، والسفن المسافرة، والطيور السعيدة بترحالها بين السماء والغيوم. ولكن حين ترقد على كتف صخرة نازلة إلى البحر أمام مراكب الصيادين، والمراكب المهاجرة بين البحر والبحر، ستحيط بك أساطير الأضرحة الصوفية، وقصائد العشاق المرتجلة، وأنفاس السياح المبَخّرة بياسمين المكان، وخفق الأشجار وتصويت العصافير المندسّة في غابات المكان الصغيرة. وإذا لاح لك في الأفق المائي برقٌ سعيد، فاعلمْ أنك في حضرة طيف تونسي ذي مقام رفيع. لهذا فإن تونس الخضراء، تتوزع على أمكنة بيضاء وأطياف زرقاء ومساحات لونية فذة، وفضاءات صافية تتاخم البحر وتلوّنه، وتندمج فيه إلى حد الذوبان. ومنها سيدي بو سعيد، هذا الأثر الجمالي المكتظ بالجمال والروعة والفن واللونين: الأزرق والأبيض اللذين يفترقان ويلتقيان على الحيطان والشبابيك والسطوح والغرف والحدائق. وقبل هذا في عيون الزائرين.





كما يقول باشلار

من كل هذا ثمة كتلة صخرية، إغريقية، عشبية، صنوبرية، تينية شوكية. نحتها الزمن الإغريقي الطويل. فانسدلت على البحر والتصقت به. اسمها: سيدي بو سعيد. أيقونة السياحة التونسية وفنارها المشع على حافات تونس في الضاحية الشمالية من العاصمة، متوسّطة أيقونات أخرى لا تقل عنها جمالًا ورفعةً وتاريخًا: حلق الوادي/ الكرم / قرطاج/ المرسى/ وقُمّرت. ولأنها تقع على أعالي منحدر صخريّ نازل إلى البحر بقوة واندفاع، فإنها تطل على مدينة قرطاج والخليج التونسي، إطلالةً تاريخية لم تتغير منذ العصر الفينيقي. وتكتسب أهميتها السياحية من حوار المدن التاريخية وملاصقتها الساحلية الحميمة، لهذا ترى السياح من كل بقاع العالم، يحرصون على لقائها على مدار السنة، ويفعل مثلهم الشعراء والروائيون والفنانون والمعماريون والدبلوماسيون والهواة والرواة وأفندية الأسفار، الذين يجدون في هذا الهامش، متنًا فذًا يضاهي المتون التاريخية في جمالها وحيويتها.

محمود درويش هاله المنظر البحري العجائبي، فانسحب إلى قوقعة العاصمة، بعدما وجده شاخصًا مثل قصيدة صعبة المنال، فجمع إلهامه التونسي، وقال في لحظة عشق: "كيف نشفى من حب تونس الذي فينا مجرى النفس" ولم يقل في البحر التونسي شيئًا، فهو عميق ومبحر ولا نهائي، شأنه شأن الأمكنة الصعبة، ذات الوظيفة المزدوجة بين الواقع والخيال وسنرى سيدي بو سعيد، تقع بين هذين الخطين: الخط الصخري الحاد والخط البحري المنسفح في أطيافها السياحية المفعّلة، تحت هوامش الأفضية الثقافية والحلمية والأسطورية والسطوح المنحدرة وأقنعتها الشفافة ذات الوظيفة المغرية. حتى أن الظاهراتي باشلار، وفي سفره الطويل مع المكان، وبعد أن كتب عن البيت والقبو والأركان والأعشاش، لم يكتب عن البحر. ولم يبحر فيه، فترك قارب الكتابة، وتنازل عنها لصالح الأشياء الأكثر ألفة وحميمية، كما يراها أثناء الخيال والواقع. لذا فإننا في دوامة السفر، ومع الأمكنة الفريدة، نستطيع أن نقرأها ونكتبها أيضًا. ونشحذ الخيال، حتى نكثّف الواقع البحري الأسطوري، قريبين من سقف السماء، فقرب السقف تكون أفكارنا نقية، كما يقول باشلار (1).





من ذاكرة المكان

  • أذكر تمامًا أن أحد السياح الكنديين، وقد استحوذ عليه المنظر الفاتن، عندما وقف على صخرة المكان العالية صاح: لا أرى شيئًا.. ماذا يحدث! وكانت عيناه تجمعان الشمس، والبحر، والسفن، وأشجار التين الشوكي، والأبواب الزرق والنوافذ البيض، وببغاء مدربة، تردد ما يقوله السياح، بأكثر من لغة ولهجة محلية. وكان الكندي المندفع، قد أفرد يديه كجناحين، كأنه يريد أن يطير من ذلك العلو الصخري. كما فعلت كيت وينسلت في فيلم تايتانيك. ولعله طار في نهاية الدهشة، أو غطس في عمق المكان، ولم ينتشله أحد من سطوة الفضاء وأسطورته الجميلة حتى هذه اللحظة.
  • يتكرر الأمر مع سائح أفريقي. كان يدس في فمه مبسمَ ناي طويلًا كثيرَ الثقوب، مثل قصبة من العصر الحجري، وقد رفع وجهه وعنقه الأملس إلى السماء، وأخذت ثقوب الناي تردد أصداء أغنية عن الموهيكانز(2) بشجن أكثر من حزين. كما لو أنه يتذكر فاجعة الهنود الحمر في تلك الأصداء التي رددتها أشجار المدينة، وكررتها، وأعادتها بالشجن ذاته، فيما بقي أصدقاؤه الأفارقة يترنحون مثل السكارى، ويستقدمون تلك المآثر التي يتوارثونها جيلًا بعد جيل. كان الأفريقي وقتها، كما بدا لنا، منوطًا برسالة شبحية غامضة، هي أن يوصل رسالة الهنود الحمر المعذبين على الأرض إلى العالم الآخر، المترامي عبر البحار والآفاق المائية المبحرة مع الزمن القديم.
  • سائحة إيطالية، غنت لفيروز ببراعة: بحبك يا لبنان.. ولم تخذلها لغتها أن تستوعب المعاني الفيروزية الرومانسية المدفونة، بين كلمات الحرب الأهلية ذات سنوات مريرة، والتي كانت تتصادى في الفضاء، مع صويحباتها الإيطاليات، وكان سقف العالم يهبط كثيرًا، يلامس قبعتها الزرقاء. ذلك السقف الذي وصفه باشلار، بأن تكون الأفكار تحته نقية. فيما كانت قبعتها الزرقاء تتراقص وتذرف الدموع على رأسها. وكانت لبنان أو فيروز، تصدح بحب البلاد والعباد.
  • عاشقان تونسيان فتحا بابَ قفصٍ في جُنينة خضراء ملبّدة بالياسمين والصنوبر، وأطلقا مجموعة صغيرة من الحَمام الأبيض، لمناسبة خطوبتهما. وكان وجهاهما المندفعان وراء الطيور المحلقة، يشيان بسعادة قصوى، لا مثيل لها. وهما ينظران إلى حرية الحّمام المُحرر في فضاء الزيتون التونسي. لقد كانا سعيدين وعاشقين، لم يريا في المكان غير الحمام الأبيض الذي دار ثلاث دورات عليهما قبل أن تلتقطه الغيوم.
  • أزواج سعداء بحياة زرقاء. عشاق حالمون ببياض المستقبل. سياح تعدّدت لهجاتهم، وألسنتهم، وقبعاتهم، وأزياؤهم، وحقائبهم الصغيرة. فنانون استفزهم تكرار الأزرق المائي، مثلما استفزهم الأبيض الياسميني الساطع. وقصّاصون وجدوا على جذوع الأشجار حروفًا متروكة لعشاق سبقوهم من العهد الفينيقي وحتى اليوم. وموسيقيون أنصتوا لحفيف الموج في سكون الظهيرة، على هامش الفضاء الثقافي والأقنعة الشعرية والسطوح المختفية تحت السماء، حيث يتحول المكان إلى بؤرة حب، يتشارك الجميع به، قبل أن ينزلوا إلى شوارع، وأزقة ضيقة، نازلة إلى البحر تلفظ بقايا السفر، وتنحسر وتفضي إلى البحر والسفن المركونة لصيد الصباح المبكر.




الخياط المتصوف أبو سعيد الباجي

لم يكن أحدٌ من أهل المدينة يتخيل شكل المستقبل، ولا لونه ولا طبيعته. ولم يكن القرطاجيون الفينيقيون على مبعدة منهم، فجبل المرسى/ المنار عين واسعة في القرن السابع قبل الميلاد، ومرقاب راصد للأعداء البحريين، فكانتا (قرطاج وسيدي بو سعيد) مثل العين والجفن تحت رموش الليل والنهار، مدينة تقابل مدينة. صخرة نازلة إلى البحر، تدفع الموج عن صخرة تُكاتفها، ومع أن الزمن المتعاقب في أساطير المدن الساحلية، يرويه البحّارة أحيانًا بصورة غير مكتملة. والتاريخ لا يكتمل إلا بشهوده الأخيار والأبرار. وما يؤسطره الناس عبر الزمن، قبل المعرفة. حتى قبل القراءة والكتابة، لكنهم حينما عرفوها وتعلموها وورثوها، تفهموا كيف لهم أن يحتفظوا بالأثر وجماله وعنوانه. وكيف لهم أن يقيّمونه، حتى لو كان شخصًا فردًا يجمع المدينة تحت عباءته وشاشيته الحمراء، فمنذ نهاية القرن الماضي، وبعدما شاع بينهم التصوف والزهد في شخصية ولي صالح اسمه أبو سعيد خلف ابن يحيي التميمي الباجي (1156 - 1230) الذي تنقّل بين الخياطة كمهنة تقية غائلة العوز والحاجة، وبين التصوف الروحاني، بما يمثله من فردانية وعزلة اجتماعية، حتى غزلَ الدينَ بروح رياضية في أعماقه النقية. وظلت ماكينة التدين تديم فيه روح العلاقة بينه وبين الناس، والمكان، والبحر، في تمارين روحية وتأملات في الخلق وجمال الكون. كل هذا كان في المنطقة المسماة بـ السباسب، المحاطة ببحر وجبال أربعة هي: جبل فائض من الشرق، ولسودة من الشمال، وقار حديد من الجنوب، وجبل الكبار من الغرب. 

هذا هو "سيدي بو سعيد" اسم شهرته المحلية مذ كان تلميذًا للشيخ شعيب أبو مدين (3) بعد أن درس في جامع الزيتونة، في قلب المدينة القديمة في العاصمة. فترك الخياطة وصار زاهدًا ومتصوفًا. في عصر، انتشرت الصوفية في شمال أفريقيا، ومن العصر الفينيقي حتى العصر البوسعيدي، تكون هذه الشريحة البحرية تحمل اسم الولي سيدي بو سعيد، اعتبارًا من عام 1893 وتتحول بالتدريج من مزارات للأولياء المحيطين به، إلى مدينة ذات أسواق تقليدية شعبية، بمشغولات يدوية، ومرافق سياحية متعددة، وأطعمة بحرية ومحلية، وأكثرها شهرة الحوت البحري (السمك). وبقي الضريح والأضرحة المجاورة والمحيطة به ماثلة على صخرة المكان والزمان، تشير وتدل على روح المكان والمدينة الملازمة للساحل والبحر.

سلاسة الاسم أعطت للمكان روحًا أخرى، ليس الاسم بهذا الوضوح، إنما لصاحب الاسم، الزاهد، المتصوف، المتدين، الروحاني، الذي اجتمع الناس حول اسمه تبركًا ووصلًا وتقوى إلى الله والسماء، حتى بداية القرن الثامن عشر، عندما بنى حسين باي(4) جامع الزاوية الذي يشمل ضريح أبي سعيد. ومنذ ذلك الوقت، كثرت المباني، وتكاثرت الأسر حول المقام المبارك. في المكان ذي الطقس الساحلي الطيب، تحت راية احتفالات صوفية فيها من الورع الديني، ما جمع الكثير من الأسر التونسية التي انطوت تحت هذه الراية. وأهم الاحتفالات الباقية إلى اليوم موكب (الخرجة) (5) الديني الذي يعود لثلاثة قرون مضت، بمصاحبة البخور ونغمات البندير والغناء الصوفي. لكن ما يجب معرفته في هذا الاسترسال، أن المدينة في بداية تأسيسها (1901) كانت تُعرف بـ الصداقية، ولا يمكن إنكار دورها في حدثين مهمين، الأول مقاومتها للاستعمار الفرنسي، والآخر منها انطلقت شرارة الربيع العربي عام 2010. ومع التاريخ المتداخل والتوثيق المتأخر أيضًا وقبل صوفية سيدي أبو سعيد، يُحكى أن عددًا من الحضارات مرت من هنا، فتدوين التاريخ لا يزال يرمم الثغرات إن حصلت، ويضيف إليها مما يجب إضافته، لكمال الصورة وإطارها. ليتغير فيها ما ينبغي أن يتغير في سلالات الجمال والبناء والمعرفة، كالحضارة البربرية والحضارة الرومانية، حتى خفقت سيوف عقبة بن نافع، وهو في طريقه لفتح القيروان. وإلى القرن الحادي عشر الميلادي نزلت بها قبيلة بني هلال (6) فيما يُعرف بالهجرة الهلالية، أو التغريبة الهلالية.





سيدي بو سعيد.. اللون الثالث الذي لا يظهر

ما يلفت الأنظار والانتباه أن هذه المدينة مصطبغة بلونين: الأبيض والأزرق. أبوابها. شبابيكها. جدرانها. فضاؤها. زجاجها. حتى لتشعر، بأنك في مزرعة قطن خالطتها زرقة السماء الهابطة، ولا بد أن يكون هناك لون ثالث، تحتفظ به المدينة سرًا، وقد لا يظهر إلى الآخرين. لهذا كان الفن المعماري العربي الإسلامي شاخصًا مع هذين اللونين، بالبيوت المزينة بالنقوش والزخارف والمسامير ذات الرؤوس المدوّرة، ثابتة، تقود إلى كل مكان حتى تنزل إلى البحر. وتخلّف وراءها البيوت القليلة، تلك البيوت التي لها شكل إغريقي، يتمثل من عدة غرف مجمعة حول صحن مركزي تحيط به أروقة، مزينة بالنافورات المائية. وقد قيل بأن بيوتها تشبه بتفاصيلها الجزر اليونانية، لكن بلونين لا يفترقان، وهذه تسمية تزيد من المكان شغفًا، لذلك، لو استعرنا من الأدب مواصفات أخرى، سنقول إن سيدي بو سعيد نص مكاني محتمل. ذو لون غير ظاهر على الأغلب الأعم. فهو لون يختفي بين الأزرق والأبيض. وهما لونا السماء والبحر. فالنص الذي يكتسب لونين واضحين، ولونًا غير مرئي، هو النص الشاق الذي يغري بالبحث عنه، حتى لو كان نصًا قصيرًا، لا يسترسل كثيرًا في مد الحروف والجُّمل والسطور والأوراق. فالكتلة اللونية المنقسمة على نفسها بين السماء والماء، تغري الفن كما يبدو، أكثر من الشعر. فالنص المؤطر ينفتح على الخيال والجمال وحسب، غير أن الشاعر، مثل محمود درويش، ولما أعياه البحر والمكان والزمان الأسطوري، هرب إلى الحاضنة الأولى: تونس، وقال ما قال فيها، كنوع من صيانة القصيدة التي تقتفي الأثر الأكبر، وتخشى من الهوامش المغذّية للنص.

ومثل هذه تربك الروح الشاعرة، وتخفي في الأعماق شذراتها وبريقها، وأحسب أن درويش خشي من ضياع الهامش لو كتبه، لذلك احتفظ به مشعًا في داخله، حتى مات ولم يكتبه. فسيدي بو سعيد، هامش يتاخم العاصمة الخضراء. لكنه متنٌ في مكانه وصيرورته التاريخية، يوم كانت "عليسة"(7) قد هربت من "صُور" وأسّست قرطاج وذاع اسمها عبر البحار والغيوم، حتى اقتحم أصابع الشاعر اللاتيني فرجيل في الانياذة.

وهكذا نرى أن الهوامش تصنع التاريخ في كثير من الأحيان. والشعراء يعرفون مقدار هذه القوة، الفاصلة، في تاريخ القصيدة الشخصي، والنص السيد- بو سعيدي، يخرج من الإطار النفسي أحيانًا، ويصوّر البحر والبحّارة، ويكتب على محار السواحل أغنية الملكة عليسة ويرسلها إلى قرطاج القريبة من أنفاس المكان. فالبحر واحد في مدّه وجزره، وإن اختلفت عليه السفن الراحلة. حتى الأساطير تختلف في المكان الواحد، وإن تغذّت من الرواة ذاتهم، والأسفار ذاتها.




دار العنابي والقهوة العالية والنجمة الزهراء

ليست هناك متروكات تاريخية كبيرة في هذا المكان الصاعد والمنحدِر في آنٍ واحد. لكنه في الأحوال كلها يشي بالفرادة والتاريخ البعيد، في نسيج صوفي، شعبي، روحاني، شاعري، حوّله الزمن إلى لُقية سياحية، اندغمت فيها حداثة العصر في الرؤيا البَصرية التي عرفت جزءًا من الماضي التقليدي، لمكان آسر في طبيعته ووجوده الحضاري القديم. فثمة شواخص ليست كثيرة هنا، لكنها أدلة عابرة على تاريخية سيدي بو سعيد، فدار العنابي هي منزل للمفتي محمد العنابي، منذ القرن الثامن عشر، بخمسين غرفة متراصفة، ليس استخدامها واضحًا في تلك الفترة، لكن على الأرجح أنها كانت مدرسة دينية، سكنية، لطلاب العلم والعلوم الفقهية. غير أنها اليوم تحاول إعادة التذكير بالحياة التونسية القديمة. عبر المجسمات الشمعية والقطع المنزلية التقليدية، بديكوراتها الأصلية وتصاميمها المعمارية ذات الطابع الأندلسي الخشبي الذي يؤسس هذا البيت - المتحف، بأثاثه القديم الذي بقي صامدًا حتى هذا العصر. وأبوابه المتعددة ذات المسامير السوداء والزخارف والأرضيات الرخامية. وكل هذا يشير إلى ديكورات وصناعات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ويبدو أن اسم "القهوة العالية" جاء من تدرجها من الأعلى إلى الأسفل، في إطلالة شعبية، لا يتنازل عن المرور بها سياح الجغرافية المتجولون في العالم. فهذا الموقع الصاعد والنازل في الوقت ذاته، يقرّب البحر والسفن والصيادين، مثلما يقرّب المدرجات والأسطح والنوافذ والأبواب المتداخلة بلونيها التاريخيين. وأخذت تسميتها معكوسة بالضبط، فهي نازلة إلى الأسفل، كمنحدر يلتوي ويميل، لكنه يتساقط مع المدرجات الهابطة. وليست صاعدة في تقنيتها الطبيعية. لكنها صاعدة لمن هو في الأسفل. وبالتالي فهي تأخذ المسارين المتعاكسين، بطريقة ظريفة. لهذا فإن هواة التصوير يستطيعون تعيين زوايا الالتقاط بطريقة مستريحة جدًا.

ولا تبعد "النجمة الزهراء" كثيرًا عن هذا المنحدر، فهي قصر جميل ما يزال يحتفظ بتاريخيته، كشاخص من شواخص المكان البحري، ومعْلَم من معالمه التراثية المعمارية. إذ تجمع هندسته بين خصائص المعمار التونسي والزخرفة الأندلسية. وقد رممه البارون ديرلانجي(8) Baron Rodolphe d’Erlanger بين سنتي 1912 و1922 وهذا الرجل رسام وموسيقي وباحث. ألّف موسوعة كبيرة عن الموسيقى العربية بستة أجزاء، باحثًا في مقاماتها وأنغامها وأوزانها الإيقاعية وصيغها وقوالبها الموسيقية، في مصنّف غير مسبوق في تاريخ الموسيقى العربية، مأخوذًا بسحرها النغمي التراثي، مثلما سحره المكان الفاتن الذي استقر به عام 1910.

ديرلانجي (1872- 1932) اختار "النجمة الزهراء" بيتًا لإقامته قرب مقام الولي بو سعيد، ليعيش في مرحلة تجريبية عبر إقامته الطويلة هنا، فيغيّر رؤاه وأفكاره عن الشرق، حتى طالت حياته التي شغلها بالموسيقى والبحث عن جمالياتها، ومن ثم الرسم الذي منحه فيوضًا من المعارف عن الشرق العربي.


إحالات:

(1) جماليات المكان، غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا، مجد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت - ط6 2006 ص 98.

(2) الموهيكانز: الهنود الحمر. أسماء تطلق على عرقيات السكان الأصليين للأميركيتين قبل عصر كريستوفر كولمبس.

(3) أبو مدين التلمساني "شيخ الشيوخ" و"معلم المعلمين". فقيه ومتصوف وشاعر أندلسي، يعد مؤسس إحدى أهم مدارس التصوف في بلاد المغرب العربي والأندلس.

(4) حسين باي: ثامن بايات تونس (1824 - 1835).

(5) الخرجة: احتفال شعبي باللباس التقليدي التونسي القديم. يصادف سنويًا في 16 من آذار/مارس. تتزين به الشابات بلباس حريري اسمه " السفساري" فيما يرتدي الشباب الجبّة والبرنس والبلغة والشاشية.

(6) بنو هلال: قبيلة عربية هاجرت من الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا. وكان الوجود الهلالي عقوبة من قبل الخليفة الفاطمي المستنصر بالله لأمير بني زيري المعز بن باديس بعد تمرد هذا الأخير على الخلافة الفاطمية. وتعد هجرة بني هلال من أشهر الهجرات العربية، ويصفها ابن خلدون بانتقال العرب إلى أفريقيا.  وكان لهذه الهجرة نتاج أدبي ضخم، عرف بتغريبة بني هلال، وهي ملحمة طويلة تغطي هذه الهجرة.

(7) عليسة: ابنة ملك صُور وأخت بيجماليون. وكانت زوجة خالها الكاهن الصوري الأعظم "عاشر باص" وتعرف أيضًا باسم أليسا أو أليسار. أسّست قرطاج وكانت ملكتها الأولى. اشتهرت بعد ذكرها في الإنياذة التي كتبها فرجيل.

(8) رودولف ديرلانجي: كان مأسورًا بالشرق والبلاد العربية منذ صغره. سافر عدة مرات إلى تونس ومصر في مطلع القرن التاسع عشر من أجل الرسم، وهو فنان أكثر منه باحث. توفي بسبب مرضه في السل في سيدي بوسعيد عن عمر يناهز الستين عامًا ودُفن فيها.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.