}

الجواهري... كلاسيكي ضد الكلاسيكية

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 25 أبريل 2024
استعادات الجواهري... كلاسيكي ضد الكلاسيكية
(الجواهري)

 

تحدّى الموتَ واختزلَ الزمانا      فتى لوّى من الزمنِ العنانا

فتـى خبطَ الدُّنى والناسَ طرًا      وآلـى أن يكونَهمـا، فكانـا

أرابَ الجنّ إنسٌ عبقريٌّ          بوادي "عبقرَ" افترشَ الجنانا

تطوفُ الحورُ زِدنَ بما تغنّى      -وهنّ الفاتناتُ- به افتتانا

ضفرنَ جدائلًا إكليلَ غارٍ          ومن طُررٍ حبكنَ الصولجانا

(الجواهري في استذكار المتنبي)

 

(1) للناقد العراقي د. جلال الخياط قولٌ احتفائي ببضع كلمات في غاية التكثيف، وهو أقصر ما قرأناه لناقد في تقييمه النقدي عن شاعر كبير، مفاده أن محمد مهدي الجواهري شاعر عباسي قذفته القرون القديمة إلى القرن العشرين. وهذه شهادة نقدية مؤطرة وكاملة لا تحتاج إلى تأويل وتفكيك ووجهات نظر متعارضة أو موافِقة، أو بحث في قصديتها من معانٍ باطنية. وحينما نعدُّ هذه شهادة مباشرة على ألمعية الجواهري وشعريته المتميزة في القرن العشرين الذي عاشه بتمام سنوات المئة، يعني في ما يعنيه أن أصالة الجواهري ترجع إلى ما قبل الراهن الشعري في معاصرته الأدبية والشعرية وتجلياته المختلفة، لا سيما في حدس اللغة كما أسمّيه، تلك اللغة التي برع الشاعر في تثويرها واستكشاف طاقتها القصوى في عموم قصائده، وقدّم أنموذجًا شعريًا كلاسيكيًا متقدمًا على عصره، بما فيه من إشكاليات سياسية واجتماعية وعسكرية متعددة الجوانب، لا متراجعًا إلى العصر العباسي، بل عودة إلى النبع النقي، في عباسيته المتألقة، الذي كانت فيه اللغة ذات جزالة لفظية، فيها من الفخامة الأسطورية التعبيرية، ما يجعلها صامدة بوجه الأزمان المتعاقبة.

(2) منظومة الجواهري ولغته الشعرية الفخمة بنسختها العباسية، أثرت قصيدته الحسية في شفافيتها الحديثة، لا شك بأنها تمخضت عن عصر مكتنز بالمعارف والعلوم والتجريب والبذخ المعجمي الفائق. ثم الانتماء إلى منظومة الجزالة اللفظية التي شفّت عن عصرٍ عربي زاهر وزاخر بالآداب والأفكار، مثلما كانت الحياة العباسية بثرائها الاجتماعي والمعرفي، ذات امتدادات علمية وفكرية وجمالية كأيقونة جغرافية يقصدها العالَم الشعري والفكري والسياحي والتعليمي. هذا من ناحية الاغتراف اللغوي المشاع للشعراء بلا استثناء، وتوظيف المفردة العربية في سياقاتها الشعرية الدافعة لنمو القصيدة. وهو ما جعل القصيدة الجواهرية تنتمي إلى عصرين، العباسي منه والمعاصر أيضًا. وهذا ما لم يتسنَّ لأي شاعر أن يحظى بهذه الصفة الفريدة.

(3) وطّن الجواهري ذاته الشعرية بفخامتها العربية- العباسية، من دون مصالح شخصية، إلى أهداف معنوية كثيرة، سياسية وحسية واجتماعية ووطنية. فالعصر العلمي- التكنولوجي هو غير العصر العباسي أو الأموي الابتدائي أو حتى الجاهلي الأبعد من هذين العصرين. قد يكون فيه الذاتي؛ عند الجواهري؛ أعلى شأنًا من غيره بالنسبة له، وهذا يتعلق بنرجسية شخصية لا تُعاب كثيرًا على الشاعر، بقدر ما هي اعتداد شخصي في تقديم الأثر الأدبي المتين عبر القصيدة. وهكذا نتطلع إلى عشر كلمات أو أقل اختصر فيها الناقد د. جلال الخياط  قرنًا شعريًا كاملًا، تمثّل في عطاء الجواهري الشعري، من دون الإفاضة الطويلة في مستلزمات البحث الأكاديمي والنقدي ذي الطبيعة المنهجية. وبطبيعة الحال فإن سطر الخياط الوحيد لا يفي بالغرض النقدي تمامًا كما يراه غيره، لكنه سطر وافٍ لتنزيه الجواهري عن شوائب كثيرة، ليس أقلها اللغة الكلاسيكية التي اكتظت بها قصائد الشاعر، ولا الصورة الشعرية المترفة التي عُرف الجواهري بها في مجمل قصائده العمودية، لا سيما العاطفية والغزلية منها:

ألا يا حلوةَ العينين   يا من حلوُها مرّ

ويا مشبوبة الخدين  عندي منهما جمرُ

عبدتُ الحبّ... والشعرَ وكلّ منهما  كفرُ

 بل حتى الرثائية التي تعجّ بالكثير من اللغة الشخصية ذات الوقْع المؤثر. ففي رثاء زوجته قال:

في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ

أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ

قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا

عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا

(4) مع "الجواهري كلاسيكي ضد الكلاسيكية" يمكن أن نجد شيئًا لافتًا في هذا الكتاب بأنه يبدأ بـ المقدمة وينتهي بها عبر 80 صفحة وفي استرسالٍ طويل نسبيًا، من دون فواصل نقدية أو إشارية أو وقفات، لتنويع المقال على وفق مستلزمات قرائية ثقافية وأدبية يلجأ اليها مؤلفو المقالات النقدية في العادة، بما يعني أن الكتاب كله عبارة عن مقال واحد تكرّس عن كلاسيكية الجواهري وامتداداته الشعرية في حاضنة شعرية امتدت إلى قرن كامل من العطاء، وابتعدت عن النظام التأليفي القديم، لكنها لم تستبعده، باعتبار أن اللغة هي التي تشكل وعاء المرحلة الثقافية التي كان الجواهري فيها شاعرها " القديم- المعاصر" الذي أصرّ على أن يقود الكلاسيكية، لكن بطريقته المستحدثة التي قال كثير من النقاد ما قالوه فيها؛ اتفقوا واختلفوا؛ على أن الجواهري هو شاعر، سواء أكتب قصيدته العمودية، أو تفنن في صياغتها الشكلية، بعيدًا عما كان سائدًا في عصور القصيدة الجاهلية والأموية والعباسية.

(5) المؤلف محمد علاء الدين عبد المولى، قدّم مقالًا في كتاب، حاول أن يتفرع به في حدود جدليات الرفض والقبول التي واجهها الجواهري في حياته الشعرية التي امتدّت إلى قرن طويل عاصف بالأحداث السياسية، لا على مستوى العراق حسب، انما على المستوى العربي كاملًا. ومع مفردة "الكلاسيكية" وشروحاتها المعاصرة والقديمة نقديًا، لا بد من أن يُقرَن الشاعر بمن سبقوه في السمو الشعري، وهو لجوء اضطراري لتكييف منهج القراءة على وفق ثنائيات قرائية، فالجواهري يقترن حضوره الشعري بالمتنبي العباسي؛ في اللغة القاموسية الأكثر جزالة على سبيل المثال. لكنهما يفترقان في الطموح الشعري والشخصي، كما يفترقان في رؤية العالم المحيط بهما، فالظروف المتناقضة بينهما جعل من الصعب مقارنة الشاعرين في الوظيفة الشعرية والجمالية. بل وحتى الحياتية.

 للناقد العراقي د. جلال الخياط قولٌ احتفائي ببضع كلمات في غاية التكثيف، مفاده أن الجواهري شاعر عباسي قذفته القرون القديمة إلى القرن العشرين


(6) الجواهري الذي بلغ "حَجَر الحكمة..." يفقد "أهميته عندما نقارنه بالمتنبي" وإلحاقه بالمتنبي يُخرجه من عصره كما يقول المؤلف، وهذه النظرة القارّة التي يعتمدها المؤلف، وهي رؤية نقدية مضطربة، جزّأ فيها الشخصيتين المتناقضتين إلى متنين شعريين يستقل كل متن على وفق الطريقة الضامنة للإبداع الفردي لهما وعلى هذا النحو:

* الجواهري "شاعر مستقل" عاش في عصر يتناقض مع عصر المتنبي في كل شيء.

* المتنبي ينتمي إلى (سرج الحصان) لذلك فإنّ فضاءه الشعري أكثر اتساعًا من فضاء الجواهري الذي عاش في زمن معرفي وعلوم متقدمة، وكانت مكتظة بالسياسات والانقلابات والثورات والحروب.

* كان المتنبي طالبَ أمارة، كما نفهم من سيرته الشخصية.

* ابتعد الجواهري عن طلبه للأمارة والسلطة والوظيفة الرسمية بما يعزز ذاته وشخصيته، بعيدًا عن هيلمان السلطة والسلطان.

* الجواهري شاعر دنيوي حسي، تستفزه الحياة المعاصرة من نساء وجمال وأجساد عارية وسفر إلى العالَم - المتحرر.

* بقي المتنبي هائمًا في صحراء الحياة، باحثًا عن ذات تبتغي وتتطلع إلى السلطة التي لا يمنحها له كافور الإخشيدي ولا سيف الدولة الحمداني، لكنه ترجمها إلى واحاتٍ شعرية خالدة. لذلك فهو "ليس دنيويا... لا وقت لديه للملذات".

* تتناقض الشخصيتان الشعريتان على المستوى الفردي، فإن كان المتنبي، شعريًا، قائمًا على قوة القصيدة وفخامة صورها، وهو اعتراف نقدي قائم له، فإن الجواهري، كما يصفه أدونيس، هو شاعر كلاسيكي (إتّباعي) وهذا يشير بشكل صريح إلى أنه "يعتمد في جهازه اللغوي على الاحالة إلى القاموس..." لكن الاعتراف بالقيمة اللغوية الجواهرية هو أنه- في الجانب المعجمي- "لا يعني انه يقلد القدماء ويحاكي أساليبهم..." بل أن اللغة موجودة وتتطور مع الزمن، فالمعاجم العربية هي مراجع ضرورية حتى لشاعر النثر المعاصر الذي لا تقيده القافية ولا الأوزان الخليلية، بل لا تقيده اللغة القديمة أيضًا. وبالتالي فوصف الجواهري بأنه يمتلك لغة "غير تقليدية" هو حقيقة تكشفها الكثير من قصائده، وأنه لامع في هذه الوصف غير التقليدي أيضًا، فالعصر العباسي وسواه من العصور التي سبقته موثقة لغويًا وشعريًا، وبالتالي يمكن الاطلاع عليها بشكل طبيعي حتى في هذا العصر الذي أدْخَلَنا في زاوية الإلكترونيات المعقدة في مهماتها الاستثنائية.

(7) إنّ اللا تقليدية اللغوية هي التي جعلت الجواهري متميزًا شعريًا، ليس من أجل جزالة اللغة وتأويلاتها المتعددة ومعانيها المعجمية الكثيرة، بل لأن الجواهري خبير في استيعاب اللغة ومضامينها القوية، وبالتالي يسهُل عليه الانتماء إلى الجو الكلاسيكي الذي شاع في العصر العباسي (الكلاسيكية... محاكاة القدماء، مراعاة القواعد- من الكتاب)، لهذا فالمؤلف الذي يؤازر الجواهري في شعريته الأدبية والشخصية يستخلص جملة من المعطيات غير التقليدية في شخصيته الشاعرة، ومن أبرزها تفرده بنسيج لغوي لافت، بسبب خبرته الأدبية الطويلة، مشيرًا إلى تجربته الشعرية التي لا يستهان بها. كما أن استيعاب عناصر الأصول الشعرية والعربية، كطاقة (لم تُستنفدْ بعد) وهي الطاقة التي أوجبت على الشاعر أن يُحكِم بناءه الفني في القصيدة وأن لا تكون سهلة الاختراق.

(8) يرى المؤلف أنّ اللغة الجواهرية متوترة ومنفعلة ونافذة إلى غاياتها، بالوصف السابق من أنها ليست تقليدية. ومع هذا الامتياز، يجد القارئ له تنوعًا في مضامينه الوطنية والعاطفية والحسية، التي كشفت عن ثرائه اللغوي والمعرفي. كما يجد؛ في بعض الأحيان؛ خروجًا غير مألوف لدى القصائد الكلاسيكية عن النظام الشكلي لقصيدة التفعيلة ذات المواصفات المُحكمة. لتكون القصيدة الجواهرية خاصة بنظامه الأسلوبي في شكل القصيدة. إذ أن له (قانون الحرية في بناء الشكل) وهو استدراك شخصي لتنظيم قصيدته على وفق ما يراه مناسبًا لها، بعيدًا عن الشكل الهندسي المتعارف عليه في القصيدة العمودية:

خرجْتْ والنهارُ تنطفئ الشعلةُ منهُ

والليل يُرخي السدولا...

تتهادى مرتاحة البالِ... لا تُعنى:

بأن لم تكنْ حَصًانًا بتولا!!

ومشتْ نحوها تُديفُ بذوبِ العطرِ "جالا"

من فوقها المنديلا

(من قصيدة  أفروديت)

هوامش:

* الجواهري... كلاسيكي ضد الكلاسيكية، تأليف: محمد علاء الدين عبد المولى- طبعة بغداد- دار الشؤون الثقافة العامة- 2021.

* محمد علاء الدين عبد المولى:  شاعر وناقد سوري له العديد من المؤلفات. ففي الشعر له: " يُخيّل لي - دمشق- 2009" و"أربعون الحصار - 2005" و"على ضريح السراب- 2004" وفي النقد له: "في النقد التكاملي- 2015" و"دفاعًا عن الشاعر نزار قباني- 2002".

* د. جلال الخياط : ناقد وأكاديمي عراقي. نال أطروحة الدكتوراه في بريطانيا عن (مفهوم الحداثة في الشعر العراقي) تتلمذ على يد نخبة من المستشرقين أمثال (آرثر آربري) و(سرجنت). من مؤلفاته: "الشعر العراقي الحديث- مرحلة وتطور- 1970" و"التكسب بالشعر 1970" و "الشعر والزمن - 1975"  و"المثال والتحول في شعر المتنبي وحياته - 1977".

* كافور الإخشيدي: ( 905 -  968 م) كان من رقيق الحبشة وأصبح رابع حكام الدولة الإخشيدية في مصر والشام. وهو الحاكم الفعلي لمصر بعد وفاة محمد بن طغج الإخشيد المؤسس الأول للدولة الإخشيدية فى مصر وأصبح سنة 966 م واليًا على مصر، وتوسع إلى بلاد الشام. دام حكمه 23 سنة.

* سيف الدولة الحمداني: هو أبو الحسن علي بن عبد الله التغلبي، وُلد في عام 914م. نشأ في بيئة عسكرية. مؤسس إمارة حلب. كان راعيًا للفنون والعُلماء والأدباء والمفكرين، ففتح لهم بلاطه وخزائنه، حتى كانت له عملة خاصة يسكّها للشعراء من مادحيه، ومنهم المتنبي وابن خالويه والفارابي وابن عمه أبو فراس الحمداني.

* تعريف الأعلام/ الموسوعة العربية – ويكيبيديا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.