}

عشائر بغداد: فوضى بين الدين والسياسة

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 28 مارس 2024
اجتماع عشائر بغداد: فوضى بين الدين والسياسة
(بغداد، 2007، Getty)

 

نقول عشائر بغداد ولا نقول عشائر العراق. وحكمةُ الفرز ضرورية في تناول المجتمع العشائري البغدادي ضمن مساحة العراق الكلية. وعندما نتحدث عن الهوامش المجتمعية التي وجدتْ طريقها بالصعود إلى المتن الوطني العام، فإن القصد هو المكوّنات العشائرية المنتشرة شرقي العاصمة التي انتهزت فرصة انعدام الأمن وانتشار السلاح غير المرخّص ومسلسل الميليشيات ومواكب الدين الطائفي المغذّي لها، حتى باتت سلطة قائمة بذاتها؛ خارج المنظومة الحكومية الرسمية، بل صارت بين ليلة وضحاها، هي السلطة المخيفة في المجتمع، لِما تملكه من أسلحة خفيفة ومتوسطة، ووسائل اتصالات في المركز، ومداهمات لا يمكن تصديقها لو لم تقع فعلًا. تحت باب "الدگّـة العشائرية" - وهي نوع من الإرهاب المجتمعي- إضافة إلى كل هذا ظهر ما يسمى بـ "شيوخ الـ 56" ككنية لشريحة من الجهلة أخذت دور الشيوخ الأصلاء في التوسط وحل المنازعات العشائرية مقابل أجور مادية ليست هيّنة. هذه الإنابة الطوعية سعت إلى تفتيت الوجه الأصيل للشيخ العشائري، مثلما حاولت تقويض سلطته إلى حد كبير..!

(1)

صعود الهامش إلى المتن يتطلب إجراءات استثنائية ومصادفات لا تحدث عادةً بشكل طبيعي، إنما ثمة عوامل مساعدة تنفذ عبر فجوات اجتماعية وسياسية واقتصادية على الأغلب الأعم. وحينما يكون أي مكوّن اجتماعي هامشيًا في نسق الدولة، فإنما ثمة قوانين حكومية رسمية لها السلطة النافذة على الهوامش المجتمعية مهما كان توصيفها وموقعها بين الجماعات البشرية. لهذا نرى في السلطة المتحضرة أن يبقى الهامش في موقعه ودائرته ولا يتخطاها. ولكن يُسمح له أن يكون نسغًا صاعدًا إنْ كان فاعلًا اجتماعيًا إيجابيًا من دون مصالح شخصية ومطالبات غير واقعية.

لنا في العشيرة العراقية؛ بعد 2003؛ أنموذج بيّن في صعود الهامش إلى المتن ضمن نسق المصادفات التي تحدث في اضطراب الأمن وشيوع السلاح وفوضى الحياة اليومية، التي تسببت بها عوامل كثيرة، ليس أقلها الاحتلال الأميركي وتداعياته الكثيرة، وفقدان شروط المواطنة من بابها الاجتماعي الوطني السياسي. لهذا فالعشيرة، كمكوّن اجتماعي، تقع في هذه الفسحة الغريبة بين المتن والهامش، عندما كان صعودها الصاروخي خارج المتعارف عليه من قيم وأخلاق وتربية ومساواة، ووصولها إلى مراكز شبحية في أن تكون هي المتسيدة على واقع السلطة صراحةً.

المفهوم العشائري في بنيته الاجتماعية هو مفهوم بيولوجي في تكوينه الشخصي، قائم على روابط الحسب والنسب والدم النقي والصلة العصبية بين أفرادها. إلا أنّ مثل هذه الكيانات وَجدت، بل أوْجدت لها فسحة واسعة من التحرك السريع خارج الضوابط الرسمية بعد 2003 كما لو تثأر من سلطة مفقودة، وأفراد مجهولين وجماعات هاربة، لهذا في مطالعتنا لموضوعة العشائر العراقية التي استقرت في العاصمة بغداد ما يحيلنا إلى القول إن العشيرة؛ بالإضافة إلى نسقها البيولوجي، هي سلوك جماعي ثقافي مكتسب، يخضع إلى سُنن وأعراف وتقاليد موروثة متراكمة غير قابلة للتجاوز في الظروف كلها. هذه القيم الاعتبارية هي التي تبصم على الهوية الاجتماعية لمجموعات بشرية اختارت أن تعيش تحت نظام وراثي قديم، يتعاقب بين الأجيال من دون تطويره أو تحسين مضامينه التي يتناقض بعضها مع مستجدات التحضر والسلوك المديني الأكثر قدرة على الوصول للمستقبل، لذلك نرى أن الجماعات الموصوفة بـ العشائرية هي أنظمة فطرية ذات سلوكيات متفق عليها اجتماعيًا في الأقل. تعيش الواقع كما هو من دون أن تتدخل في صياغاته وتطويره. وما دامت العشيرة بنية مؤسسة بيولوجيًا في مفهوم روابط الدم النقي، فإنها محكومة بهذه الشروط عبر تاريخ وجودها الاجتماعي في الدفاع عن الجماعة ضد أي غزو داخلي. لهذا فالنزاعات العشائرية على مر وجود الدولة العراقية الحديثة، بقيت شائكة أمام الحكومات المتعاقبة، مما اضطرها إلى أن تكون العشيرة أحد أوتاد الخيمة السياسية منذ العهد الملكي وحتى اليوم، تمهيدًا لامتصاص الشيء الكثير من ظروفها العصبية، وإشراكها في واقع متحضر اسمه السياسة لتكون قريبة على المشهد اليومي من بابه الاجتماعي والاقتصادي والاجتماعي.

(2)

وعندما نفهم بأن العشيرة مؤسسة اجتماعية، فإن تشكيلها النظامي الأول سياسي بامتياز، فلقد أسّسها البريطانيون حينما دخلوا البصرة جنوبي العراق بعد قتال مع الجيش العثماني (من 11 إلى 21 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1914) بهدف دراسة طبيعة المجتمع العراقي في عاداته وولاءاته ووعيه الوطني ومرجعياته الدينية وتراثه الشعبي وطقوسه اليومية وميوله المذهبية. ولم تكن العشيرة بالمفهوم الاجتماعي الذي نعرفه اليوم قائمة قبل دخول القوات البريطانية إلى العراق من البصرة. لكن بعد سنتين من الاحتلال (بدأ مفهوم العشيرة في البصرة جنوبي العراق عام 1916) وإذا ما ارتبط مفهوم (القبيلة) في البادية والصحراء والخيام والإبل والمواشي والربيع والصيف، فإن المفهوم الشخصي للعشيرة العراقية ارتبط بالقرى والأرياف والأبقار والمواشي والأنهر والبساتين؛ وكلاهما؛ العشيرة والقبيلة، إنتاج وضع اجتماعي، تتطلبه الحاجات الجماعية لتعزيز ديمومتها في أسطورة البقاء الجيلي الطويل، ويقينًا أن مفهوم القبيلة هو الأقدم. بينما العشيرة بالمفهوم الاجتماعي منظومة معاصرة، اجتمعت على كيانات رأسية قائدة بعدما كانت متفرقة، جمعها البريطانيون في (قانون عشائري) وكان هذا أول قانون يعطي للعشيرة أدوارًا مركزية بإخراجها من الهامش الاجتماعي المتعصب إلى المتن السياسي المركزي المنفتح، لتشتيت فكرة العصبية القبلية وإدخالها في حاضنة سياسية هي أكبر من وعيها وثقافتها الفطرية.

العشيرة أسست طوال عقود مجتمعًا متوازنًا أصيلًا اكتسب خبرة مضاعفة في ثورة 1920 ممثلة لثورة شعبية متكاملة ضد الاحتلال البريطاني


ولما سنّ البريطانيون عام 1918 ما يسمى بـ "دعوى العشائر" في العاصمة بغداد كانت وراءه مقاصد سياسية، ففي الأقل كانت فكرة الاستحواذ على "شيخ العشيرة" هي التمويه الأول، لإخراجه من دائرة اجتماعية ضيقة إلى فضاء السياسة الأكثر مدى في مناورة غير معلنة، بما في ذلك منح رأس العشيرة سلطة سياسية، بطبيعة الحال هي أكبر من حجمه الفطري الواقعي. وهذه الفكرة بذاتها أدّت - مع الوقت بصلاحيات مبالغ فيها لشيخ العشيرة- إلى انقسام مجتمعي بنشوء الإقطاع؛ أي بانتقال الهامش العشائري إلى المتن السياسي والاجتماعي أيضًا، بتسيّد شيخ العشيرة تحت حماية الدولة وتوجيهاتها، وإعطائه أولويات اقتصادية كبيرة، باغتنام هذا البند، للسيطرة على الفقراء والمهمشين من الفلاحين والكسبة، مما أوجد فاصلة سيكولوجية بينه وبين الآخرين من الذين يشكلون المجتمع بكل طبقاته وفئاته. الأمر الذي أحدث شروخًا بين الأعلى وهو الشيخ، والأدنى وهو الفلاح. ومن يطالع تاريخ الإقطاع العراقي منذ العهد الملكي إلى ثورة 1958 سيجد الفجوات المجتمعية الكبيرة، والنزاعات الطويلة والرضوخ البشري لسلطة الشيخ، ومن ثم التمرّد بأشكاله المتتالية التي أدّت إلى خسائر بشرية واعتبارية في المجتمع تسبب به الشيخ الإقطاعي ومن معه. أي أنّ نشوء الإقطاع بدأ من فكرة سياسية ملتبسة قادها البريطانيون تاريخيًا. فسابقًا كانت التجمعات العشائرية تمتثل إلى جغرافية وجودها الطبيعي بين الأجناس والأعراق والقوميات والديانات تحت أنظمة القوانين الرسمية والسنن الاجتماعية التي تحاذي القوانين الرسمية، ولكن لا تتفوق عليها في الأحوال كلها. بما يشكّل إطارًا بشريًا تاريخيًا- قوميًا- دينيًا في نسيج اجتماعي متداخل في تاريخ نشوء العشائر العراقية، التي لا تبتعد كثيرًا عن التعددية القبلية والدينية. بل تسهم كثيرًا في نسجها اجتماعيًا، تحت باب التعايش الأخلاقي والإنساني، وهذا يفعّل المنظومة الثقافية بين أفرادها، لا سيما العشيرة المتاخمة للمدينة، أو التي هاجرت اليها بناء على ظروف مختلفة. فالمدينة رافدة للوعي ومطوّرة للعقل وسِماتها ليست ثابتة، على عكس القرية العشائرية التي تتحكم فيها منظومات وقوانين شفاهية متوارثة ثابتة في الأغلب الأعم.

لم تكن الجغرافية حائلًا بين المجموعات العشائرية. بل ربما التاريخ هو الذي يحول من دون أن تتمدن العشيرة، فحركة الجغرافية بين الأفراد والمجموعات الصغيرة متنقلة عادةً، والتاريخ الفطري الذي كوّن العشيرة وأسّس كيانها الشخصي، بقي قارًّا من دون أن تكون له يد في تطوير العقل العشائري والحد من تضخم سُننه وقوانينه المتوارثة، وتحجيم أدواره القيادية الجماعية، بل وحتى الفردية منها. فإذا ما كان التاريخ الفطري ينظّم حدود العلاقات الاجتماعية بين أفراد العشيرة، وبين أفراد التكتلات العشائرية الأخرى في التعامل الأخلاقي، فإن الجغرافية ابتعدت تقريبًا عن هذا النسق التاريخي، وأكسبت المهاجرين إليها مرونة في تسويق أفكارها المتحضرة إلى الجماعات العشائرية التي عملت واندمجت مع جماعات المدينة، ولا نشك في أن المدينة الجغرافية انتصرت نسبيًا على أفكار القرية ولو بشكل مؤقت، بسبب تحضرها وعلميتها واختلاط أجناسها ودياناتها، بما كان يشكل صورة موحدة للجماعات الوافدة اليها في هوية كبرى اسمها الوطنية التي تنضم إليها العشائر والقبائل والأديان والقوميات. وتحت هذا الهاجس الأصيل انتظمت العشيرة بأفرادها المتناثرين وظيفيًا إلى قوانين الدولة وسلوكها الطبيعي، وحملوا الكثير مما قدمته المدينة لهم من وعي ظرفي أو دائم، لضبط السلوك الفردي ومن ثم الجماعي، لا لأن المدينة ضد العشائرية وسُننها، بل لأن للتحضر شروطه ومسلكيته وبُعد نظره في إنشاء مجتمعات متوازنة لا تنهض على القوانين الشفاهية، بقدر ما تنهض على شروط القوانين الحكومية لضبط السلوك العام، وضخ المعرفة والثقافة المدينية التي هي خليط من ثقافات محلية دينية وعرقية ومذهبية، بما فيها من طقوس وخرافات وأساطير وحقائق وميثيولوجيات وتلاوين اجتماعية كثيرة.

(3)

بعد 2003 تغيرت الحالة كليًا. اختلط مفهوم العشيرة بالتكتل الطائفي، والديني، والمذهبي والسياسي. ونبت ريش المتن على الهامش في بنية سلوكية غير معتادة على فكرة العشيرة الوطنية التي عرفناها في مناسبات وطنية كثيرة. حتى بدت (العشيرة) الآن أوطانًا صغيرة وكانتونات صعبة المراس، تتفرد بزعاماتها الوضعية في المجتمع العراقي، تارةً تحت غطاء الدين والمذهب، وأخرى تحت يافطات حزبية دينية أيضًا. وفي الحالات كلها حدث هناك تبادل أدوار غير ممكنة، لكنها واقعية، إذ تسربت العشيرة إلى مفاصل المدينة، وأخذت دورها المتحضر، وأملتْ عليها شروطها الشفاهية الشخصية التي كانت منحسرة في ظروف سياسية ماضية، لا سيما في العاصمة بغداد، التي تعاني من هذا التحول المفاجئ بعد 2003 بما يُثقل عليها من إملاءات وصفية مادية ظهرت مع "شيوخ" عشائر يسمونهم شعبيًا (شيوخ الـ 56) وهي كنية استهزاء واستصغار واحتقار أيضًا لأشباه الشيوخ المنتشرين في العاصمة، تحت مظلات التحزب الديني والمذهبي الذي أخذ من جرف الدولة العراقية كثيرًا. ففي القاموس الشعبي المتحرر بعد الاحتلال الأميركي، ظهرت الكثير من المفردات والمصطلحات والعبارات التي تحاول تشتيت الظاهرة السلبية إلى وحدات صغيرة غير مهمة لكي تهزأ منها، ولعل مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في إشاعة مثل هذه الكُنيات الهجينة لتأصيل استهجانها لكل ما يسيء إلى المتن الوطني العام. لذا نجد أن ظاهرة شيوخ الـ 56 ظاهرة مستهجنة في المجتمع العراقي. ولا نُخفي بأنها ساهمت في إعلاء المد العشائري الموصوف بعد 2003 بحيث جعلت منه سلطة أكبر من واقعها، وأكبر من واقع الدولة ومركزيتها. وهي التي ساعدت تلك الهوامش أن تعلو كثيرًا وتتمركز في قلب العاصمة، محاطة بأبجديات حسينية وميليشيات نافذة في الدولة. ومثل هذه النماذج التي استوطنت العاصمة، هم شيوخ المرحلة بلا منازع. مجموعات بشرية عاطلة عن العمل، تنتشر في مقاهي المدينة، ترتدي الزي التقليدي العشائري. لهم القدرة على التفاوض بطلاقة اللسان الذي لا يتوانى عن حفظ أبجديات العشائر المتعارف عليها، والقصص القديمة ذات الحِكَم التربوية في وظيفتها الاجتماعية والأخلاقية. لذا تبدو تسمية عشائر الـ 56 في بغداد تسمية غريبة، وهي كذلك بالفعل. لكن قبل هذا لا بد أن نعرف أن قاموس البذاءة ضمّ الكثير من مصطلحات ما بعد الغزو الأميركي عندما تحررت عقدة اللسان العراقي من حبسها الطويل.

"العشيرة السياسية" عادت إلى المشهد السياسي بعد 2003 عبر الانتخابات المناطقية والمذهبية (Getty)


مثل هؤلاء ركبوا موجة النزاعات العشائرية، لقدرتهم الفطرية على المطاولة، وما يمتلكونه من مَلَكة اللباقة اللسانية وما يحفظونه من آياتٍ قرآنية وما قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مناسبات كثيرة، ولا بد أن يستعينوا ببلاغة الإمام علي بن أبي طالب. بحيث خرقوا الكثير من نظام العشيرة تحت واجهة الدين وأنثروبولوجيا الوقائع التي يربطونها ربطًا مُحكمًا مع أصل النزاع الفردي العشائري أو الجماعي في قصائد وهوسات حسينية لها وقع مؤثر على الجهة العشائرية المقابلة. حتى نقلوا الهامش إلى المركز الديني- الطائفي، وهذا معقود على فهم الآخر الذي يُشابههُ في المكوّن الطائفي، وحتى لو افترق عنه طائفيًا إلى الجانب (المضاد) عقائديًا، فأنه لا أحد يتنكر لما جاء في القرآن الكريم وما قاله الرسول محمد وما تركه الإمام علي من حِكم بليغة، كما لا يتنكر أحد لاستشهاد الإمام الحسين في واقعة الطف المعروفة.

هكذا نرى أن مثل هؤلاء الشيوخ (المستأجرين) من المقاهي أحكموا نسيج دفاعاتهم بشكل خارق، وساهموا في نشر؛ بقصد أو من دونه؛ الفساد الاجتماعي من عشيرة إلى أخرى. وبالضرورة استمكنت الكثير من (عشائر بغداد) نقاط الضعف في العشائر الأخرى التي تنازعها في مشاكل قد تكون مبسطة لا تستوجب إلا الاعتذار الاجتماعي، وقد تصل إلى القتل العمد لأسباب ساذجة لا تستدعي الجريمة في الحالات كلها. وشيوخ الـ 56 يبحثون عن هذه الآثار الجرمية بين العشائر، وجاهزون للاستئجار والمفاوضات والحسم، بتوليهم حل النزاعات أو محاولة حلها بأقل ديّة ممكنة. أي أن هامش الهامش صعد إلى قلب المشكلة بأجور تتصاعد حسب نوع المشكلة وأهميتها. فالهامش يكلف الهامش للمفاوضات مع الهامش بطريقة تسلسلية من دون احترام هيبة العشيرة التي أسست طوال عقود مجتمعًا متوازنًا أصيلًا، اكتسب خبرة مضاعفة في ثورة 1920 ممثلة لثورة شعبية متكاملة ضد الاحتلال البريطاني، قادتها عشائر الفرات الأوسط كما هو معروف. لكن التحولات السياسية الفوضوية أتاحت لهذه المكونات أن تظهر بصورة غير متوازنة، فالفساد السياسي، والوضع الأمني المتدهور، وكثرة ما يسمى برجال الدين جعلت من العشيرة صفيحة تشبه الدرع لتمرير الكثير من الخرافات والأساطير والأكاذيب أيضًا بين أفرادها. لنرى في هذا العصر العراقي الفوضوي أن البازار العشائري أصبح رائجًا في المقاهي الشعبية والمناطق ذات الميدان الاجتماعي التي تتسلح بالطائفة والشعائر والبنادق أيضًا. لهذا اغتربت العشيرة العراقية عن الواقع كثيرًا بزاوية مَيْل حادة بمقياس عراقي شعبي عشائري. عندها أخذت العشيرة دورًا مغايرًا لدورها الوطني، كلما وجدتْ انفلاتات في الحالة الأمنية وضياع الضوابط القانونية في فوضى البلاد الكثيرة. وبالتالي بدلًا من أن تكون درعًا واقيًا للأفراد تحت عُرف اجتماعي معروف، أضحت بلاءً على المجتمع، وصارت العشيرة تبحث عن المشاكل لحصاد ديّة مليونية أول الأمر، ثم تطورت إلى ديّة مليارية. ومثل هذا التفسخ المنظور يبيح لنا أن نرى الوجه الساند للعشائر البغدادية التي تحاول أن تتمدن، لكنها تواجه وصاياها الشفاهية فتقترن بها من جديد إلى حد مُلح، بذائقة الدين ومحتواه المفصّل على نواياها واستثمارها لأية مشكلة ومنازعة.

(4)

الخلاصة: عندما غابت الدولة المركزية بشكل يكاد يكون كليًا شاع ما نسميه بـ "الدين العشائري" لكن بوظيفة مسلحة. وتوسّعت وظيفة العشيرة، بمساندة الأحزاب الدينية التي خلقت بنية لنظام عشائري متداخل بين الوظيفة الدينية والعشائرية، مما أدى إلى تغوّلها. وازدادت النزاعات العشائرية لأتفه الأسباب، طمعًا بالديّة المالية المليارية. وهذا يحيلنا إلى أن الثيوقراطيين الجدد في العراق لم يدركوا أن العالم المدني يتغير ويتوسع ويأتي بنظريات علمية. وهؤلاء كما تبدو التجربة بعد عشرين عامًا، لا علاقة لهم بالعالم الخارجي إلا بحدود ضعيفة. لهذا يرى العراقيون بعد تجربة طويلة بأن ديموقرطية الستلايت هي وصفة تخديرية لا علاقة لها بالمواطنة الحقيقية ولا بالمشروع الوطني المعلن في الدستور العراقي. فالتقاسم المحاصصاتي في السلطتين التشريعية والتنفيذية أدّى إلى عودة الطابع العشائري، وباتت المكونات العشائرية عبارة عن هويات دينية- مذهبية تتصيد في ماء الطائفية. وهو ما أحدث نشازًا اجتماعيًا في البنية الكلية للمجتمع العراقي. كما أن هناك ظهورًا لـ "العشيرة السياسية" التي عادت إلى المشهد السياسي بعد 2003 عبر الانتخابات المناطقية والمذهبية، وبذلك فقدنا الكفاءات العلمية والثقافية، وهذا ساعد على أن يتبوأ الطفيليون والجهلة مواقع مهمة في الدولة.

(5)

كان قانون العشائر العراقية - البريطاني نافذًا وبعد أكثر من نصف قرن، ورد في الدستور العراقي في المادة 45 الفقرة الثانية منه: "تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، ويعزز قيمها الإنسانية النبيلة بما يساهم في تطوير المجتمع ويمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان". فلا تعززت القيم النبيلة، ولا تم احترام القانون، وبات الدين معبرًا للسلوك العدواني، لذلك أصبحت فكرة الوطنية هامشية مع رجال الدين. وهذا ما سمح للعشيرة أن تتهور وتنتفخ، وتأخذ سلوكًا لا يتطابق مع طابعها الوطني القديم. وكثير من الباحثين الاجتماعيين والسياسيين أكدوا على أن الأحزاب الدينية تشكل عائقًا لفكرة دولة المواطنة. فالبطالة التي أعقبها الفقر والعوز المادي، جعل الكثيرين يلتجأون إلى العشيرة كحاضنة اجتماعية، بعد أن عجزت الدولة عن احتواء عشرات الآلاف من الخريجين الجامعيين. فلعب الإعلام المضاد دورًا مركزيًا في تعميق الفشل الحكومي، والتنويه إلى اللجوء إلى الحاضنة العشائرية التي لا تحترم القانون ولا مبادئ الدولة الوطنية التي جاءت بعد التغيير. 

استدراك:

(1) الدگّـة العشائرية: إحدى الظواهر الإرهابية التي اتسعت بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، بقيام عناصر من عشيرة بالهجوم على منزل سكن الخصم من عشيرة أخرى، مطلقين النار ومرددين هوسات تهدد بالقتل، وتُعطى مهلة ثلاثة أيام للخصم، حتى يأتي ويحتكم لديهم ويذعن لشروطهم. وخلاف ذلك تتم مهاجمة الخصم بالأسلحة النارية للأخذ بالثأر. وإثر ذلك كان مجلس القضاء الأعلى قد قرر "أن جرائم التهديد عبر الدكة العشائرية تعد صورة من صور التهديد الإرهابي وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب في البلاد".

(2)  شيوخ الـ 56: العدد 56 يوصف به المحتال في اللهجة العراقية، وهو مصطلح حديث، أصله من إحدى مواد قانون العقوبات المرقمة 456، المتعلقة بالاحتيال. فالـ (56) لقب للمزورين والمحتالين في العراق، وجاء نسبة إلى المادة القانونية في القانون العراقي الخاصة بالنصب والاحتيال على وفق المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.

(3)  في إحدى فقرات الدستور العراقي:" تمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان" وظاهر الأمر غير باطنه. فالعشيرة في بغداد شكّلت مع الميليشيات ما يسمى بالدولة العميقة، وزاد تغولها في المنازعات العشائرية.

(4)  ثورة العشرين: ثورة عشائرية اندلعت في العراق في شهر أيار/ مايو 1920 ضد الاحتلال البريطاني.

(5)  الدستور العراقي.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.