}

قرطاج التي أسستها عليسة من جلد ثور

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 11 نوفمبر 2021
أمكنة قرطاج التي أسستها عليسة من جلد ثور
"موت ديدون" (عليسة) للفنان البلجيكي جوزيف ستالارت (1825-1903)



نحن الآن بين رماد التاريخ ورماد الأسطورة. فكلاهما يتحدثان عن الماضي البعيد، ويتدخلان معه، حتى ليبدوا وكأنهما الحقيقة الأخيرة التي يتوجب علينا تصديقها والامتثال لها. ومع هذين الرمادين، يمكن أن نضيف لحاضر المدينة أسطورة الصمت الذي يغلّف قرطاج الساكنة على ساحل البحر من أولها إلى آخِرِها. فهي مدينة صامتة كمن هي راقدة تحت الرماد. هادئة لا تسمع فيها إلا وشيش الأمواج غير البعيدة، وحفيف أشجار الكينا والأوكالبتوس والفل والياسمين، التي تحرّك أغصانها العصافير، وسكينة البيوت المستريحة على تاريخها الشخصي، أسفل سماء كثيرة الزرقة وتحت الغيوم وتحت المطر. ويبدو أن الأساطير تُصنع في غفلةٍ من الصمت في بعض الأحيان، عندما لا تكون هناك كتابة ولغة وأوراق ومدوّنو أثر واقعي وتوثيق، فمن الأساطير ينسج التاريخ جداوله، لتجري في عروق البحر، بين المستكشفين والرحّالة وفضوليي المغامرات الجغرافية. لذلك نجد ضخامة الخرافة في إنشاء الأسطورة، حتى لو كانت تعكس الجوانب الميثولوجية للمجتمع القرطاجي في عصوره الفينيقية والبونيّة والرومانية والعربية. فالرمزية المتوارثة مطلوبة للخيال الاجتماعي الذي يسهم في تأكيد صورة البطولة، أو القيمة المعنوية لإنشاء مدينة مثل قرطاج. لا سيما وأن مؤسستها امرأة، خلافًا للأساطير الذكورية التي اعتدناها في الكثير من الحضارات. وهذا أحد أسباب شهرة المدينة، فمن التاريخ الطويل تولد الكثير من الأساطير التي تتدرج وتتضخم مع الزمن، حتى تصل مثقلة بالإيهامات والغموض والخيال الكبير. لذا نرى دائمًا أن الأساطير ذات جهاز متمكن من الحفاظ على سيرته، فهو جهاز خيالي فائق، لا نملك إزاءه الا أن نكون محايدين، ننظر إليه على أنه ثمرة من ثمار سلطة الدين على سبيل المثال. إذ تولد الأساطير تحت هذه الفقرة المتكررة في التاريخ كونه حدثًا يقرر نتائج معينة، لكن (الأسطورة ليست حدثًا تاريخيًا) بتعبير أليكسي لوسيف. وقد تبدو في سياقها (أعجوبة) أو حدثًا وهميًا تضخّم في خيال الرواة حتى تجاوز الواقع. فنجد الأسطورة ذاتها تتكرر بسياقات متعددة، حسب البيئة التي تنشأ فيها تنمو وتكبر ومن ثم تتعاضد. وإذا كان للدين ارتباط قوي مع الأسطورة وخيالها الجامح، فمن الطبيعي أن تتعدد مناخات الأسطورة ودوافعها وظروفها ومراحلها الزمنية. وبالتالي فهي في كثير من الأحيان خارجة من متن الواقع. لكنها ليست الواقع على ما يبدو. بل هي تكثيف له. وخيال ناشط يحيط بالواقع، ويتجذر فيه على نحو ما. لتبدو الوقائع كما لو أنها حدثت بالفعل، لتضفي جماليات تالية على كل ما حدث وما لم يحدث. فالحي البونيقي وحمامات أنطونيوس والمسرح الروماني وكنيسة داموس والمعابد المختلفة، هي آثار حية باقية إلى اليوم في قرطاج. وإن اسمًا مثل (عليسة) تتداوله مرويات التاريخ الرومانية والفينيقية. فهو خيال، وواقع، وأسطورة انقسمت على نفسها في نهاية الأمر، فبقي الاسم في أسطورته وخياله وواقعيته المحتملة.

منذ عام 1979 تمت إضافة قرطاج إلى قائمة التراث العالمي الخاصّ باليونسكو كونها مدينة تاريخية عريقة، كانت قد ازدهرت في العصور القديمة على الساحل الأفريقي الشمالي، مع تعاقب الحضارات عليها: الفينيقيّة، والبونيّة، والرومانيّة، وأخيرًا الحضارة العربية. ومع تعاقب تلك الحضارات المتباينة في التأثير التجاري، كانت تزدهر تجاريًا وأدبيًا وفنيًا، حتى وصلت إلى ما وصلت اليه مع الحضارة الإسلامية، فتخلت عن اسمها الفينيقي "قَرْت حَدَشت" (أي المدينة الجديدة) وتوجهت إلى انقسامات المستقبل، وتباين سلطته الذكورية، لتبقى اليوم، مدينة أثريّة لها أهمية تاريخية كبيرة، بعدما كانت جزءًا حيويًا من الإمبراطورية الرومانية، ويُعد القدِّيس أوغسطينوس من أشهر مَن سكنها. وهكذا نجدها مدينة تنازعتها الأسطورة مع التاريخ، الحقيقة والخيال والخرافة، تنازعًا قد يكون متكافئًا إلى حد متقارب. فتركت لنا الأثر العليسي بتوقيع امرأة عبرت الزمن الطويل، حتى وصلت الينا. تلك المرأة اسمها عليسة، التي خلقتها الأسطورة وضخمتها الخرافة، ولا نعرف عن الواقع إلا النزر اليسير مما تركه مدونو الأثر الروماني من شعراء وقصاصين ورسامين ورحّالة جغرافية.

القصيدة التي كتبها الشاعر فيرجيل (القرن الأول ق. م) عن عشق الأمير الفينيقي عيني Enee  لعليسة



أساطير حول الأميرة عليسة

تتضامن الأسطورة مع التاريخ، لتكشف أن قرطاج أسستها الفينيقية عليسة/ أليسا/ أليسار/إيليسا ديدون/ الملكة التائهة عام 814 ق.م. وهذه شخصية ليست افتراضية على كل حال، ما دام اسمها يتكرر في التاريخ الأسطوري على مراحل متعددة من الحضارات التي توالت على قرطاج، بل شغلت المصادر الشعرية والموسيقية والتاريخية بحضورها الملهِم، ومن الصعب تجاوزها، كونها محور التأسيس المديني لقرطاج، وقد خصّتها بعض الأعمال الأدبية والموسيقية التشكيلية منذ فرجيل في الأنياذة التي قضى فيها أحد عشر عامًا وهو يكتبها. مما ألهم معاصريه وغيرهم في الكتابات التراجيدية الكبرى في مجالات الإبداع كافة، لا سيما في الأوبرا والموسيقى، كأوبرا (ديدو وإينيس) للإنكليزي هنري بورسال (1866)، وتراجيديا جودال وأوبرا كافلي، وملحمة "الطرواديون في قرطاج" للموسيقار الفرنسي برليوز، حتى زحف هذا التأثير إلى القرن السادس عشر مع الفنون التشكيلية التي خلدت قرطاج وعليسة معًا. في حين أن الأساطير التي دارت حول وجود الأميرة عليسة تكاد تتشابه في مفصلية أهميتها التاريخية القرطاجية، لذلك تم رصد أسطورة واحدة، توزعت على "قصص" و"حكايات" وأنغام قديمة لم تستطع تجاوز وجودها الحقيقي أو الأسطوري. إذ (لا توجد نسخة موحدة وحصرية عن الأسطورة)، إذ يؤكد المؤرخ جوستين أن الأميرة عليسة/ وهي زوجة كاهن الإله ملقرت ويقال إنه خالها/ جاءت هاربة مع أصحابها وكهنتها وسادة قومها من مدينة صور بلبنان، وقد لقبها الأفارقة بـ بديدون وهو الاسم الذي خلّده الشاعر فرجيل (القرن الأول ق. م). ويُستحسن أن نرافق رحلة الأميرة الهاربة من صور اللبنانية في هذه النقاط:

أولًا: أورثها والدها الملك ماتان (Matan) ملك مدينة صور الفينيقية مُلكه من بعده، مع أخيها الشاب بيجماليون. غير أنّ أخاها تمكّن من احتكار المُلك وطمع في ثروة زوجها عاشر باص فقتله.

ثانيًا: وجدت عليسة نفسها في خطر أخيها الطامع بالمُلك والإرث، فأمرت أتباعها، بنقل الأكياس المليئة بالكنوز إلى عنابر السفن، وتوجهت مع العديد من وجهاء المدينة وكهنة المعبد الذين كانوا على علم بمخطط ملكتهم، ومن الرافضين لحكم بجماليون.

ثالثًا: توجهت مراكبها إلى قبرص للتزود بالمؤن. وعند وصولها إلى الجزيرة ومرورهم بالقرب من معبد فينوس (آلهة الحب) أمرت عليسة بخطف ثمانين من الفتيات العذارى اللاتي كن في خدمة المعبد، من أجل الاقتران من الرجال الذين رافقوها.

رابعًا: نزلت على ساحل أفريقيا، وفاوضت حاكم البلاد الأمازيغي لمنحها أرضا تبني عليها مدينتها. فرفض الملك أن يمنحها أكثر من مساحة جلد ثور.

خامسًا: ومن هذه المساحة الصغيرة جدًا (من هذا التداخل الأسطوري) تحركت حاسة الذكاء عند الأميرة الهاربة، عندما قامت بقص جلد الثور إلى خيوط دقيقة طويلة، وسّعت بها الأرض وأحاطت بها الهضبة التي تعرف حتى الآن بهضبة برصا.

سادسًا: طلب الملك الأمازيغي الزواج منها، لكنها رفضت العرض، ثم آثرت الانتحار. فأعدت محرقة ألقت بنفسها فيها محافظة بذلك في الوقت نفسه على عهدها لزوجها عاشر باص وعلى المدينة التي أسستها.

سابعًا: وتتابع الأسطورة نسقها الحكائي المُضاف: لحق بالأميرة أمير سوري فينيقي يدعى عيني Enee بعد حريق مدينة طروادة، وهناك عشق الأميرة الفينيقية عليسة، ولظروفٍ غير مفهومة أجبر على الهرب إلى إيطاليا، وحسب ما جاء في الملحمة الشعرية الإيناييد للشاعر اللاتيني بوبيليوس فيرجيليوس مارو صديق أوكتاف أن عيني أحبَّ ديدون- عليسة وتزوجها، إلا أنه أجبر على هجرها بناءً على أوامر الإله زيوس- جوبيتر ولهذا قتلته.

ثامنًا: وصلت أسطورة قديمة من الإغريق عن تيمايوس الصّقلّي. هي ذاتها التي رواها جوستين وأكد عليها.

ومع كل التنويعات الأسطورية والحكائية حول الأميرة - الملكة عليسة، تبقى هذه الأسطورة هي الأكمل من وجهة نظر المؤرخ جوستين. وهي الأكثر إجرائية في حكاية الأميرة الهاربة، التي تمكنت من تأسيس مدينة تاريخية عابرة للزمن في الحضارات الكثيرة التي تعاقبت وتتالت عليها. وإن المراحل التاريخية التي قطعتها ليست هيّنة بقياسات الزمن الطويل الذي كان يجري معها ومع المدينة. فمن قرطاج المسيحية في حكم قسطنطين الأول (312 ميلادي) إلى قرطاج الوندالية (439 ميلادي) إلى قرطاج البيزنطية (534 ميلادي) إلى قرطاج الإسلامية (670 ميلادي) حتى أصبحت منذ بداية القرن العشرين مقرًا لإقامة الأمين باي، آخر بايات تونس.  

هضبة برصا حيث بنت عليسة مدينتها



بقايا قرطاج اليوم

مع الصمت الذي يغلّف المدينة والهدوء الساحر الذي تتمثل به وبين خضرة أشجارها الطويلة، العالية، ثمة بقايا تركها الزمن أمام البحر. وهي آخر ما يمكن للزائر أن يراه في كل مرة. فالأعمدة الغليظة المتروكة على الساحل، تحكي آثارًا موغلة في القدم. وآلة المنجنيق وكراتها الصخرية الصلبة، تشهد على معارك بحرية قديمة لصد الغزاة عبر البحر المتوسط. فكل شيء هنا، في قرطاج، أثر لأسطورة مدينة كانت تريد أن تبقى في تشابك الزمن فبقت. وإنْ فقدت الكثير من ازدهارها الماضي، لكنها بقيت سردية تاريخية لا يمكن أن تزول، حيث تعاقبت السلطات على متونها وهوامشها، فأسست في القرن الثامن عشر متحف قرطاج، الذي يقع فوق هضبة برصا، وأبقت الحي البونيقي، مفتوحًا للهواء الطلق، وهذا الحي يحتوي على المنازل والدكاكين والشوارع. وقد تعرض الحي للدمار والحرق في العام 146 قبل ميلاد المسيح، وقد تمت تهيئة هذا الحي في عهد حنبعل (في أوائل القرن الثاني ق م). إلا أنه استطاع الحفاظ على نفسه. أما حمّامات أنطونيوس، وهي ثالث أكبر حمامات على مستوى العالم كله، فتعرضت للتخريب والتدمير أثناء الغزو الوندالي للمدينة، وبقيت هي الأخرى محافظة على نفسها من الاندثار الكلي، حيث غمرت بالتراب طول القرون المتعاقبة، مع حي المنازل الرومانية، بالإضافة إلى الصهاريج المعلقة والمدرج وحي ماغون الذي يمثل تجمعًا سكنيًا يعود إلى القرن الخامس ق م. والمتحف المسيحي والمعلم الدائري والموانئ البونيقية،  في حين بقي المسرح الروماني منتصبًا على قمة هضبة بيرسا، ممثلًا لثلاث فترات كبـرى: الفينيقيـة البونيـة، الرومانية الأفريقية، العربية الإسلامية.

أما المعابد التي كانت تشير إلى نوع الديانات المتتالية التي حكمت قرطاج، فهناك معبد قرطاج على شاطئ صلامبو، الذي حافظ على قداسته وتكدست فوقه طبقات متتالية من الأنصاب والأواني المحتوية على عظام الأطفال المقدّمين قرابين للآلهة. ويرجع تاريخ معبد سوسة إلى القرنين السادس والسابع (ق. م) ومعبد آشمون هو آخر معقل دفاعي لجأ اليه من بقي من القرطاجيين عندما حاصر شيبيون الأفريقي المدينة.


هوامش وإحالات

1-   فلسفة الأسطورة – أليكسي لوسيف – ترجمة د. منذر حلوم - دار الحوار- سوريا - 2000

2-   القديس أغسطينوس: أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية. مؤلفاته - بما فيها الاعترافات، التي تعدّ أول سيرة ذاتية في الغرب - لا تزال مقروءة في شتى أنحاء العالم.

3-   ڤرجيل: أمير الشعر اللاتيني في عصر روما الذهبي، وقد بقي تأثيره في الشعر الأوروبي مستمرًا حتى منتصف القرن التاسع عشر.

4-    جوستين: لا يوجد شيء معروف عن تاريخ جوستين الشخصي بخلاف عمله في كتاب تروجوس. وقد استُخدم الكتاب كثيرًا في العصور الوسطى.

5-    تاريخ الأسطورة- كارين أرمسترونغ- الدار العربية للعلوم- ناشرون -بيروت – 2008

6-   الإله ملقرت: بمعنى ملك المدينة (ملك القرية) من الحضارة الفينيقية، هو وصي الرب إلى صور وصيدا المحمية حيث يطلق عليه سيد صور.

7-   شيبون: قنصل وقائد روماني اشتهر بانتصاره على حنبعل في معركة زاما ويعد واحدًا من خيرة القادة العسكريين في التاريخ.  

8-    تاريخ قرطاج- مادلين هورس ميادان- ترجمة إبراهيم بالش، منشورات عويدات، بيروت باريس، 1971.

9-   قرطاج البونية تاريخ حضارة- الشاذلي بورونية ومحمد طاهر، مكتبة النشر الجامعي، مركز النشر الجامعي 1999

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.