تتحدث مراكش الحمراء في القصيدة الشعرية بلغة بصرية تطفح بالأمل والفرح والسعادة والرغبة في تشكيل حلم إنساني كسبيل للعودة إلى الوجدان والعاطفة الجياشة المحيلة مباشرة على ضمان الاستمرار في الحب والجمال والتعبير الفني. مراكش القادرة، كمدينة ساحرة، على تحرير النفس البشرية من الأسر والسجن الانفرادي الذي قد يجد الشاعر نفسه داخله. تتكلم مراكش عن ذاتها كمدينة خالدة في عقول أهلها، ومشاعر زوارها الذين يشعرون بفخر واعتزاز كبيرين يعبران عن مكنونات النفس التواقة إلى العيش في السحر والافتتان والجاذبية.
كل الذين كتبوا عن مراكش شعرًا تغنوا بتفاصيل الحياة البسيطة فيها، وعوالم أحيائها الغامضة وأسرارها التاريخية، وتعبيرات البسطاء فيها الذين خلدوها بحكاياتهم وأشعارهم وأزجالهم وأحاسيسهم الخالدة جيلًا بعد جيل. وكل الذين أخذوا المشعل ممن تركوا بصماتهم فيها منذ القديم يحاولون تكريس ذلك، وإعادة إحياء أسطورة المدينة الحمراء التي أنطقت الأسوار القديمة والساحات الفسيحة، وكلمت العقول المتحجرة وأخرجتها من صمتها المطبق، ودفعتها إلى الحديث والتعبير عن مشاعرها، وكل ما يرتبط بها، كأنه يكتشفها لأول مرة.
تمنح مراكش كثيرًا لأهلها ولزوارها من دون أن تنتظر منة، أو اعترافًا بالجميل؛ لأنها بكل بساطة مدينة معطاء، تعطي من دون مقابل، وتحب من دون تبادل. تفيض أحياء مراكش بالعفوية والجمال، لاحتواء الإنسان وآماله، في مجموعة من الأسرار الدالة على العشق والحب التي يخفيها الحلم في بوتقة جمالية. ففي ساحة "جامع الفنا"، ساحة السحر والفن والجمال والتراث والبوح الحر، يجد الزائر نفسه في عوالم فسيحة من الإبداع وفنون القول. فالمسرح يرتقي إبداعًا وتجسيدًا وتمثيلًا، والحكاية التاريخية والدينية تشتهر على ألسنة رجال مغمورين يحاولون جاهدين إعادة إحياء تراث الأمة العربية والإسلامية من جديد من دون مقابل، اللهم إلا ما تجود به أيدي الكرم والسخاء من الزوار، والشعر يعلو عنان السماء بحناجر شعراء بسطاء أغفلتهم آلات التصوير وميكروفونات الإذاعات والقنوات الباحثة عن الربح لا عن التثقيف والتوعية.
كل قصيدة كتبت عن مراكش نحتتها أذهان شعراء عشقوها وهاموا في جمالها وأسرارها العظيمة التي تحتوي على كتب وآثار من الماضي العريق المليء بالمفاجآت والتفاصيل الغامضة عن تفاعل الإنسان والحضارة والقيم والعادات والتقاليد. وكل قصيدة قيلتْ في مراكش كانت بمثابة إقرار بريادتها وسيادتها على باقي المدن، وتفوقها في الجمال والتميز والفرادة، بل إن كل قصيدة شعرية عبرتْ عنها كمدينة للأحلام والبحث عن الذات كانت حريصة أن تبرزها كمدينة للسحر والطرافة والنور واللون والبلاغة والسلم والأمان والطمأنينة النفسية والسخاء والرؤيا والخشوع والخضوع والنماء والماء.
شكلت مدينة مراكش منذ القديم لدى الشعراء المغاربة، وغير المغاربة الذين زاروها، أو سمعوا عنها، أو حتى قرؤوا حولها وعنها في الكتب والمجلات والصحف، صورة فاتنة للمدن التاريخية التي خلدت دولًا عظيمة في تاريخ المغرب، واحتضنت إمبراطوريات عبرت عن عظمة أهلها وسكانها الفرسان وأمراء الحروب الذين جعلوا منها عاصمة قوية في كل العصور التاريخية التي مضت. ولقد جاء في رحلة ابن بطوطة أن ابن جزّي قد استحضر قولًا لأبي عبد الله محمد بن عبد الملك الأوسي (قاضي المدينة آنذاك) في مدينة مراكش واصفًا إياها:
للهِ مراكشَ الغرَّاءَ منْ بلَدٍ
وحبَّذَا أهلها السادَات منْ سكنِ
إنْ حلها نازِحُ الأوْطانِ مغتَرِب
أسلَوْه بالأنْسِ عنْ أهْلٍ وعنْ وطَنِ
بيْن الحدِيثِ بها أوِ العيَانِ لها
ينْشَأُ التّحاسُدُ بيْنَ العَيْنِ والأُذُنِ.
ومن الشعراء الذين تغنوا بمراكش الحمراء، نجد الشاعر محمد المدني الحمراوي الذي عبر عن مشاعره الصادقة من المدينة الحمراء مراكش، حيث وجد نفسه منشرحًا بانتمائه إليها وتواجده بين أحضانها، متعلقًا بها وبأحيائها المتعددة كأنه عاشق من زمن الحب العذري، لا يستطيع الابتعاد عنها أو مغادرتها إلى مكان آخر. كما وصف آيات الجمال الطبيعي فيها والذي تزدان به المدينة في حدائقها الغناء ومناظرها الطبيعية الخلابة المعبرة عن موقعها الجغرافي الجميل، وصور مظاهر التميز العمراني فيها، سواء كان تراثيًا، أم كان حديثًا، ويقول في قصيدة "مراكش الحمراء"، التي تجسد مشهدًا واضحًا من حديقة المنارة التي تشرف بصهريجها وأشجارها على قمم الأطلس الكبير من بعيد:
مُراكُــــــش فــــيكِ مسَـــــرّتِي
ولديْكِ أحْلامُ المُنى تتحَقَّقُ
فإِذا حلَلْتُكِ فالحياةُ بهيجَةٌ
وإِذا نَزحْتُ فَمُهْجتِي تتَحرَّقُ
الحُسْنُ فيكِ تكَاملَتْ آياتُهُ
والفضْلُ فيكِ مخَيِّمٌ ومُحلِّقُ
في كلِّ ناحيَةٍ مرُوجٌ تخْتفِي
فيها زهُورٌ كالعيُونِ يُحدِّقُ.
سيرة المدينة عند المبدعين
ارتبط كثير من الأدباء المغاربة والأجانب، سواء كانوا عربًا أم غير عرب، بمراكش، فكتبوا عنها، وأبدعوا فيها قصائد جميلة خالدة، كما ألفوا نصوصًا وقصصًا وحكايات عن سحرها وجمالها وأهلها الطيبين الكرماء الضاحكين دائمًا، والساخرين من كل شيء من دون الشعور بنقص أو دونية؛ حيث أغرت أدونيس بروعتها، وفاجأت سعدي يوسف بجمال هندستها المعمارية وأهلها الراقين، واستهوت كلود أولييه بتفاصيل بيوتها وحواريها وأحيائها الضيقة المنسقة، وفرضت على خوان غويتيسولو ربط علاقة حميمية معها، خاصة مع ساحتها الخالدة "جامع الفنا" التي عاش فيها أحلى أيام حياته وسنين عمره منصهرًا مع إيقاعاتها وتخيلات الفنانين الشعبيين فيها التي تتجاوز حدود المسموح به في الكلام والقول والإبداع. وبشكل عام، يمكن القول إن المدينة شكلت بالنسبة لغويتيسولو أسلوبًا في حياته وكتاباته، وتكريمًا لروح المكان وأهله، فهو الذي سبق له أن قال إن مدينة "مراكش صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتي، بعد أن شكل انجذابي إلى المغرب ومعايشتي اليومية لأمكنته وتنوعه الهائل، انعطافة أساسية في حياتي ومساري الأدبي، الشيء الذي ساعدني على تجاوز الحدود القائمة بين الكتابة والتراث الشفوي، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس الشائعة في الساحات والحواري، كما مكنني من تشكيل رؤية جديدة للإبداع ودوره في بناء الجسور بين الثقافات".
تمتاز مدينة مراكش بأبوابها العتيقة (20 بابًا) التي يعود تاريخ إنشائها، إلى جانب أبراجها (حوالي 200 برج)، وسورها التاريخي، إلى القرن الثاني عشر، بهدف تحصينها ووقايتها من الغزو والهجوم من الأعداء؛ أما حدائقها الراقية والجميلة التي تعبر عن طبيعة مراكش الخلابة، وعن موقعها الجغرافي بين سلاسل جبلية شاهقة، مثل: حدائق المنارة، وحديقة ماجوريل، وحدائق أكدال، فهي تشكيل طبيعي يستقبل السكان والزوار على مدار السنة للتمتع بجمالها وهندستها البشرية الإبداعية.
ومن الشعراء الإسبان الذين كتبوا عن مراكش الحمراء، نجد الشاعر أنطونيو راميريث ألمانثا/ Antonio Ramírez Almanza، الذي أحبها بكل جوارحه حتى عدها مسقط قلبه، وكتب عنها ديوانًا شعريًا عنونه "قصائد مراكش"، معتبرًا إياها مدينة العجائب، حيث إنها تمنح نفسها للآخرين الذين يزورونها ويحبون التسكع بين أحيائها وحواريها الضيقة في المدينة القديمة. لقد منحت نفسها إليه، وأقامت فيه إقامة دائمة، حيث يقول:
ذاكَ خضَّبَ بالأزرقِ
جفنيْكِ
وبينما كان يَمَسُّكِ كان يجرح
عابري السُّوقِ.
شاعر الحمراء
عُرف الشاعر المغربي محمد بن إبراهيم بشاعر الحمراء، حين سمى نفسه أثناء إلقائه لقصيدته "من المغرب الأقصى أتتْكَ تحية" في مكة عندما زار الأرض المقدسة وبقاعها عام 1937م، حيث يقول:
منَ المَغْربِ الأقْصَى أَتَتْك تَحِيةٌ
يبلغُها عنْ أهْله شاعِرُ الحمْرَا.
ولقد تميز الشاعر بين أقرانه من الشعراء المغاربة في عصره وما بعده، لتركه مدونة شعرية متميزة استطاع من خلالها أن يجعل من نفسه شاعرًا يمثل نمطًا مختلفًا عن الآخرين من الشعراء في عصره؛ مثيرًا لحفيظة قرائه ونقاده الذين ربطوه بمدينته الأثيرة وملكوه ناصية الشعر المغربي آنذاك. يقول في قصيدة "بمقدمك الحمراء قد عبقت عطرَا"، وهو يمدح "الباشا التهامي"، الذي زار المدينة في موكبه العظيم:
بِمقدمِكَ الحمراءُ قد عَبقت عِطراً
وتاهت ونالت كلَّ مَرتبةٍ كُبرى
نعم عادَ لِلحمراءِ بعدَ غِيابِه
فَتيهِي على الأقطارِ يا بَلدةَ الحَمرا
نعم عادَ مَحفوفًا بكلِّ عِنايةٍ
ولن تعدمَ الحسناءُ تَقليدَها الدُّرَّا
ألا أيها الباشا التهاميُ ذو العُلى
ومِن بينِ أربابِ الصُّدورِ غَدا الصَّدرا.
إن المدح عندما يرتبط بشخص يشرف مدينة ومكانًا أثيرًا عند الشاعر، يكون مدحًا ملؤه الشعور بالفخر والاعتزاز بالمكان والممدوح معًا. وهنا ترتقي مكانة الشاعر معهما لتصير في مرتبة عالية تخلق لدى المتلقي نوعًا من التأثير الجمالي والفني. فمجيء الباشا التهامي إلى مراكش وزيارته الأثيرة لدى الشاعر وأهل مراكش، وعودته إلى مراكش الحمراء، مرتبطة أساسًا بحنينه إليها، بعد جولته على باقي الأقطار الأخرى باسمها الذي يطبق الآفاق. إن لدى الشاعر محمد بن إبراهيم طاقة روحية وشعورًا غريزيًا يربطه بمراكش بعلاقة وطيدة ملؤها الحب والعشق الذي لا يصله عشق؛ فهو المادح لها ولأهلها ولزوارها، وهو المجدد في تشكيل القصيدة الشعرية الحديثة المفعمة بالإدهاش والسحر والجمال.
كل من قرأ شعر محمد بن إبراهيم أحس بجماليته وبشعور ملؤه الفخر بشاعر عربي يدافع عن مدينته الأثيرة، ويحافظ على تقاليد أهلها وعاداتهم، كالكرم والسخاء والمحبة وحسن الجوار والإيثار... فهو قبل أن يكون شاعرًا إنسان في الدرجة الأولى، مواطن عربي مسلم غيور على لغته ودينه وقومه. ومنذ بداية قوله الشعر وهو يعبر عن رغبته في البقاء في مراكش وعدم مغادرتها أبدًا؛ حيث يتجول بنا في حواريها وأحيائها القديمة وأبوابها الفسيحة وأسوارها التاريخية الشاهدة على عظمة الحضارة المغربية وقدرتها على الاستمرار والبقاء رغم عوادي الزمن. إنه بحق شاعر الحمراء الذي لا يُشقّ له غبار.