تشكل اللغة الشعرية في شعر ليلى بارع صورًا قوية وبليغة على مستوى اختيار العبارة والكلمة وأفقهما البلاغي والتعبيري والرمزي من أجل تحقيق رؤيتها للآخر والعالم. كل هذا يؤكد على أن الكتابة لديها تربط بين الذات والآخر في إطار تحقيق الحلم، حلم الكتابة الحرة، وحلم التموقف من الأفكار والأشياء والعالم، وحلم العيش في الواقع وتشكيله بطريقتها الخاصة، وحلم جعل الذات وفرضها في المجتمع فكرًا وروحًا وجسدًا.
تنطلق الشاعرة في شعرها من إيمانها الصادق بقدرة الشعر على التغيير، تغيير الواقع، تغيير النظرة إلى الآخر كما هو، تغيير الفكر المتسلط والمتحجر في الواقع المجتمعي... وكأننا بها تهدف إلى تعرية الواقع الداخلي والكشف عن البنية النفسية العميقة والتخلص من السلطة البطركية والقمعية تحت عناوين متسيدة ومستبدة بشكل أو بآخر. تقول الشاعرة في قصيدة "جثث":
بالغُرْفةِ الشَّرْقيةِ
تلْكَ التِي لا تدْخلُها
الشمْسُ
كنِتُ أبْكِي جُثّةَ الحُبِ
المُسجّاةِ أمَامِي
فِي صَمْتٍ...
(ديوان "نسخة ثانية مني"، ص 5).
هنالك استبداد من نوع ما تؤكده الوقائع والأحداث؛ تسلطٌ، وقمع واستبداد هنا وهناك؛ وفي هذا الشبر العربي، أو في تلك البقعة المظلومة والمقصوفة بكل أشكال الأسلحة الفتاكة؛ هذه اللغة الشعرية ترقى إلى البوح الحر عن الفكرة والموقف والحلم بعالم صافٍ مسالم خالٍ من الحروب والدمار والأحقاد.
نحن هنا أمام لغة ترمز لكل ما هو روحي وذهني، تتضمن بين طياتها دلالات رمزية تبعث الأمل في المتلقي بوجود وعي بالحقيقة، حقيقة الظلم والطغيان تحت عناوين جائرة وكاذبة. ولا يخفى على المتلقي أن الشاعرة تنطلق من قناعتها الفكرية والثقافية المشكلة لوعيها بالواقع السياسي الوطني والعربي. فالكلمة الشعرية تخاطب العقل والقلب معًا، وتحاول توجيه صاحبهما للتخلص من أفكار غامضة ومتحيزة، أو حتى مترددة. تقول الشاعرة في قصيدة "الكذبات":
أعْرفُها
وأقْفلُ النّوافِذَ سرِيعًا
كلّما اشْتعَلَ الضّوْءُ في يدَيْكِ
وبَدأَتِ الأكاذِيبُ
تزْحفُ كَيَرقَاتٍ
وتَتّخِذُ
على القَصَائدِ
شَكْلهَا الغرِيبْ....
("نسخة ثانية مني"، ص 13).
رمزية الوقت
يمتد فكر الشاعرة في قصيدتها إلى التعبير عن الوقت، باعتباره امتدادًا لعلاقة الذات بالعالم والزمن، حيث تعبر عنها بصور شعرية تقيم دوالًا بين الكتابة وبين عالم الشاعرة نفسها وفكرها. هذه العلاقة الخاصة تمثل امتدادات ومرجعيات ثقافية تعبر عن لحظات ومواقف محددة، تخاطب الشاعرة المتلقي للبحث من خلالها عن ظلال وأشكال رمزية تظهر مدى استعداده لإدراك لغة القصيدة وصورها الشعرية.
تستدعي الشاعرة علاقة الكتابة الشعرية بالوقت، حيث تنفتح على ما يمثله من قدرة على التأثير في الإنسان وتوجيهه وتشكيله وفق تغيراته وحمولاته الدلالية والواقعية؛ ومن خلاله يمكنه التأمل في رمزيته وإمكانياته الرهيبة في إعادة تشكيل الذاكرة ومباغتتها بشكل أو بآخر. تقول في قصيدة "عقارب":
كلُّ العقارِبِ طرَدْتهَا منْ شقُوقِ القَلْبِ...
باللاّمبالاةِ حينًا
وحِينًا بالغَضَبِ
فقَطْ هُو
عَقْربُ الوقْتِ
ظلَّ في مكَانهِ
واجِمًا
أسْوَد النّبْضِ
يرْمُقنِي كعَاشِقٍ مُفْلسٍ
بحزْنٍ وعَتَبِ.
("نسخة ثانية مني"، ص 3).
تتميز القصيدة الشعرية عند ليلى بارع بالتماسك اللغوي والصلابة والكفاءة اللغوية والبراعة في استخدام العبارة والمفردة؛ حيث تعمل جاهدة على تحقيق التوازن والتناسق بين القيم الشعرية والفكرية لديها بهدف الوصول بالمتلقي إلى الغاية الكبرى وهي: فهم القصيدة وإدراك دلالاتها وفك رموزها وترك أثر واضح في نفسه التواقة إلى كل ما هو جميل وإبداعي.
تنصرف بارع في قصيدتها إلى الهم الإنساني، والكفاح الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يشترط عليها أن تختلف عن الآخرين تعبيرًا ولغة وإحساسًا؛ حيث نجد ذلك الولع بقيمة الوقت ورمزيته في التعبير عن الواقع الإنساني الذي يعيشه الفرد في الوطن العربي عامة.
الشعر عند بارع تدفق لغوي في الرؤية والموقف والإدراك؛ إنه أشبه بضوء ينير ظلامًا يعادل فكرة غريبة وغامضة. لأنه لحظة محملة بالرؤيا والدهشة البريئة والنقية من الشوائب؛ حيث لغة الشعر لغة تصوير للحظات والأوقات الخاصة بالشاعرة التي من خلالها تقتنص المواقف والأفعال والأحداث وتعبّر عنها بأسلوبها الشعري الخاص.
للشاعرة رؤية فكرية لا تكتفي فيها بالتعبير عن الموقف الفكري أو الحدث اليومي، بل تتعداها إلى تسجيل اللحظة الخاطفة في الحياة، والأحداث السياسية والاجتماعية العاصفة بالسلم والأمن والطمأنينة الإنسانية، تقول الشاعرة في قصيدة "الرغبات":
في نفْسِ الوَقْتِ...
أرَاقبُنِي
وأرَاقِبُ
ظِلالَ السّاعاتِ
الزّاحِفةِ نحْونَا معًا
دونَ أنْ نتَحرّكَ منْ أماكِننَا
دونَ أنْ نخَافَ
أوْ نبْكِي...
(ديوان "نشيد الريح"، ص 13- 14).
هذا المقطع الشعري يشير إلى لحظات خفيفة تتجسد في الحياة، حيث تدل دلالة قاطعة على قيمة الوقت وقدرته الكبيرة على إدهاش الفرد وتحميله مسؤولية البقاء والتفكير في العالم والأشياء وفق نظرة فلسفية وفنية وإبداعية. وكأننا هنا بالشاعرة تذهب إلى البحث عن تمارين ذهنية وعقلية تؤمن بقدرتها الجبارة على تغيير الفكر ومنطق النظر إلى الأشياء.
ما بين المحو والموت
يرتبط الموت بالشاعر عمومًا في كونه النهاية الحتمية لكل شيء؛ والنهاية المأساوية للرغبات والشهوات والملذات الصغرى والكبرى. فتخيل الموت يحيل على المحو والغياب والنهاية والهلاك والخاتمة والأفول النهائي عن الحياة والوجود. ومن هنا يأتي التوظيف المجازي والرمزي للموت لدى الشاعرة ليلى بارع، حيث يصيب الشاعر، والشمس، والأحلام، والأشياء، والنار، وجرة الصباح، والحشاشين، والكونت... والناس أجمعين.
يكتسي الموت حلة مختلفة مع الشاعرة حيث يبدو منذ القراءة الأولى لشعرها أنه قاهر لكل ما هو حي وموجود في الواقع؛ واقع الشاعرة الذي تراه بأسلوبها الخاص، واقع القارئ الذي يحاول جاهدًا تأويل ما يقرأه من عبارات محددة ومن كلمات مفعمة بالمشاعر الإنسانية القادرة على تغيير نظرته نحو الموت والمحو والغياب النهائي. فالموت شكل من أشكال الانتقال من حالة إلى حالة، ومن شكل معين لممارسة الوجود إلى شكل آخر مختلف عنه؛ ومن هنا تتأكد لدينا قدرة الشاعرة الإبداعية على التعبير الحر تجاه أشكال الحياة والمواقف والأفكار.
تكتب ليلى بارع من خلال عينها الإبداعية النافذة إلى وعي المتلقي وفكره من أجل خلق صدمة ما داخل ذهنه المتوقد لإعادة بناء القيم الإنسانية وتشكيل مشاهد الحياة الجديدة وكيفية التعاطي مع الموت باعتباره هادمًا للَّذَّات والشهوات. تقول في قصيدة "مات الشاعر":
ماتَ الشاعِرُ
بما تنْفعُكَ، يا قلْبِي، الصوَرُ؟
تِلْك التِي جمَعتْنا ذاتَ صيْفٍ...
والْتقَطهَا صدِيقُنا الثالِثُ
بمقْهى القمَرِ...
والآنَ...
في هَذهِ اللّحْظةِ
كلّ ذلِك ليْسَ بالمُهمِّ
قدْ ماتَ الشّاعِرُ...
("نشيد الريح"، ص 5).
تكتسي دلالة الغياب عند ليلى بارع، حيث تحيل على الموت بجلاله وقدرته على توليد واستنبات أجنحة مضيئة للغائب الميت؛ حيث يتشبع الحس الجمالي لدى القارئ ويرضي توقعاته الفنية والشكلية والموضوعية والدلالية، وكأننا بها تتصدى بجسارة كبيرة للتعبير عن المسكوت عنه والتصريح بالمشاعر اللطيفة والأحاسيس المعبرة عن ضميرها الإنساني. ورغم الصور والرسائل والقصائد والذكريات التي لا تنفع المرء في شيء، مادام الوطن مستباح والحزن مستشرٍ في النفس، لأن الذاكرة لا تحتفظ بشيء لا قيمة له أو لا يقدم جديدًا للمرء أو يخرجها من كآبتها وحزنها الدفين.
إن الحديث عن الموت، هو حديث ذو شجون، عند الشاعرة ليلى بارع، حيث لا يقدم تأجيل الموت للشاعر، سواء دعا هذا الشاعر القوى السماوية أم لم يدعها، وسواء بحث عن سبب لهذا الموت أم لم يفعل، فالأمر سيان. تقول الشاعرة في قصيدة "وردة قرب جثة":
لستَ ذلك الشاعِرَ الألْمانِيّ
لا يمْكِن أنْ تقْتُلكَ ورْدة
أبْحثُ عنْ سبَبٍ مقْنعٍ لموْتكَ
ولكِنّنِي لا أَجدُ قرْبَ جُثّتِكَ
غيْرَ ورْدةٍ بيْضاءَ...
هلْ قتلَتْكَ الورْدةُ؟
هلْ انْغرسَتْ شوْكتُها الرّقِيقَةُ في أصْبُعكَ؟
يدُكَ المتَشقِّقَةُ
يَدُ محَارِبٍ قدِيمٍ
لا يُمْكنُ للْورْدةِ النّائِمةِ
علَى بُعْدِ خُطْوتيْنِ منْكَ
أنْ تقْتُلَكَ...
("نشيد الريح"، ص 9).
يضم شعر ليلى بارع نكهة جمالية بسنوات نضج شعري وأدبي مستمدة من تجارب الحياة، وخبرات التحكم في اللغة الجميلة من سماء الإبداع الأدبي والمعبرة عن تعقيدات الحياة وتحولاتها الحاصلة في المجتمع كوعاء لاستيعاب المواقف الشخصية للشاعرة والأفكار المخلصة لها من تعب الحياة ومللها، وكأننا بها تحاول جاهدة التفكير بصوت مرتفع ليشاركها القارئ لذة الإبداع والجمال الشعري الخالص.