}

التسريع والاستلاب.. هل هما آفتا الحياة المعاصرة؟

جورج كعدي جورج كعدي 7 نوفمبر 2022
اجتماع التسريع والاستلاب.. هل هما آفتا الحياة المعاصرة؟
هَرْتموت روزا والنسخة الفرنسية من كتابه

عالم الاجتماع الألمانيّ المعاصر هَرْتموت روزا/ Hartmut Rosa، الذي أهملته الثقافة العربيّة بحثًا وترجمةً، يصف مؤلَّفه القيّم "استلاب وتسريع/ Aliénation et acceleration"، الذي أَعتمدُ هنا ترجمته الفرنسية الصادرة في منشورات (La découverte)، بأنّه دراسة حول الحياة المعاصرة لا تهدف إلى دقّة علميّة، أو فلسفيّة، بل إلى طرح أسئلة "صائبة" تعيد الربط بين الفلسفة الاجتماعية والسوسيولوجيا بالتجارب الاجتماعية التي يعيشها الناس في المجتمعات المعاصرة المتخلّفة إدراكًا (tardives). وترتكز الدراسة، ودائمًا بحسب مقدمة روزا، على الاقتناع بأنّ من واجب العلوم الاجتماعيّة طرح الأسئلة التي يلازم صداها حياة الناس. ومن هذه الدراسة، أو البحث المنتمي إلى السوسيولوجيا، يرغب روزا، بحسب تعبيره، في العودة إلى السؤال الأهم بالنسبة إلينا بشرًا: ما هي الحياة الحسنة؟ ولماذا تفوتنا؟ فالقسم الأكبر من حياتنا الشخصية والاجتماعية يعوزه التغيير. ولأنّ الجزء الأوّل من السؤال تستحيل الإجابة عنه، فإن الجزء الثاني (أي لماذا تفوتنا الحياة الحسنة؟) كان سؤالًا مؤرقًا لأدورنو، وڨالتر بنيامين، وماركوزا، وهابرماس، وحتى لماركس في كتابه "مخطوطات باريسيّة".
"ما هو التسريع الاجتماعيّ؟" هو العنوان الذي منحه روزا للفصل الأوّل من دراسته، مجيبًا بأنّنا "نعثر على مرتكزاته في تسريع إيقاع الحياة، التاريخ، الثقافة، الحياة السياسيّة أو المجتمع، أو حتّى الزمن نفسه. فبعض الراصدين يعلنون بلا مواربة أنّ "الكلّ" يبدو مسرَّعًا في المعاصرة. لكن الأكيد أنّ "الزمن" لا يمكن أن يكون مسرّعًا حقًّا في أي شكل، فالساعة هي ساعة، واليوم هو يوم، سواء راودنا انطباع بانقضائهما، أو لم يراودنا. من المؤكّد أنّ فترة الحَمْل، ومرض الزكام، والفصول، وزمن التعليم، لا تتسارع (...). كلّ ما نراه هو مجموعة ظواهر من التسريع ليست متّصلة بعضها ببعضها الآخر، في الرياضة مثلًا، في الموضة، في مونتاج الفيديو، في وسائل النقل، في تسلسل الوظائف، فضلًا عن بعض ظواهر التباطؤ المتحرّك، أو التصلّب (sclérose) الاجتماعيين".




في مطلع تحليله المفصّل للتسريع الذي يتناوله، يشدّد روزا على أنّه من المؤكّد أن لا شكل واحدًا وكونيًّا يسرّع "كلّ شيء". بل على العكس، أمور كثيرة تتباطأ، مثل الانتقال في زحمة سير (...)، ولكن الأمر الأكيد أنّ ثمة عدد من الظواهر الاجتماعية التي ينطبق عليها مفهوم التسريع وثيقًا، فالرياضيّون يركضون ويسبحون أسرع فأسرع، كما تبدو الوجبات السريعة (Fast-Foods)، والمواعدة السريعة (Speed-dating)، والقيلولات الخاطفة، والقيادة عبر الجنازات (drive-through funerals)، شاهدةً على قرارنا تسريع إيقاع أفعالنا اليومية. الكمبيوترات تتضاعف سرعتها باستمرار، وسائل النقل والتواصل تستلزم جزءًا نزيرًا من الوقت الذي كانت تستلزمه قبل قرن من الزمن، الناس ينامون أقلّ فأقلّ (اكتشف علماء أنّ المعدّل الوسطيّ للنوم انخفض ساعتين منذ القرن التاسع عشر، وثلاثين دقيقة إضافيّة انخفاضًا منذ السبعينيّات من القرن الفائت)، حتى جيراننا يبدّلون منازلهم أكثر فأكثر، وبوتيرة متصاعدة. مع ذلك، حتّى لو استطعنا إثبات أنّ هذه التغييرات ليست عرضيّة، بل تتبع على العكس منطقًا منتظمًا، هل هي ذات سمة موحّدة تتيح جمعها في تصوّر موحّد للتسريع الاجتماعيّ؟ ليس مباشرةً، في تقديري. حين نراقب عن قرب هذه المروحة من الظواهر، يصبح مؤكدًا أنّنا نستطيع تفريقها إلى ثلاث فئات مختلفة تحليليًا وتطبيقيًا: التسريع التقني، تسريع التغيّر الاجتماعيّ، وتسريع إيقاع الحياة".




إذ يفرّق هَرْتموت روزا بين هذه الفئات "التسريعيّة" الثلاث، يشرع في تفسيرها وتحليلها تباعًا، بدءًا بالتسريع التقني، فهو بالنسبة إليه "الأوّل والأكثر تأكيدًا والأسهل قياسًا بين أشكال التسريع، لكونه التسريع المتعمّد ضمن المسارات الموجهة نحو هدف في مجال وسائل النقل، كذلك في مجالي التواصل والإنتاج، ويمكن تعريفها بالتسريع التقنيّ (...). هكذا يقال إنّ سرعة الاتصال ازدادت 107 في المئة (لا ننسى هنا أنّ تاريخ الدراسة يعود إلى عام 2010)، وسرعة وسائل النقل الفرديّة 102 في المئة، وسرعة معالجة المعلومات 1010 في المئة. إنّه في شكل خاص جانب التسريع المركزيّ لتصوّر {درومولوجيا} (dromologie تعبير مشتقّ من الكلمة اليونانية dromos، أي السباق، ومن Logos أي العلم) للفيلسوف بول فيريليو Virilioالذي وضع حكاية عن التسريع التاريخيّ لوسائل النقل وناقلات الحركة بلوغًا في النهاية إلى الثورة الداهمة في التقنيات البيولوجية. فتأثيرات التسريع التقني في الواقع الاجتماعي هي بلا شك عظيمة الشأن، إذ أحدثت تحويلًا في النظام المكانيّ ـ الزمانيّ للمجتمع، أي الإدراك الحسيّ والتنظيم للمكان والزمان في الحياة الاجتماعيّة. وبذلك فإنّ الأولويّة الطبيعيّة (أي الأنثروبولوجيّة) للمكان حيال الزمان في الإدراك الحسيّ البشريّ، المتجذّر في أعضائنا الحواسيّة، وفي تأثيرات الجاذبية التي تتيح التمييز بين ما هو فوق وما هو تحت، ما هو خلف وما هو أمام، وليس بين ما هو سابق (زمنيًا) وما هو لاحق، بحيث يبدو أنّ هذا الإدراك الحسيّ صار معكوسًا. ففي عصر العولمة وطغيان الخبر عبر الإنترنت، أضحى الزمن خاضعًا ومدركًا أكثر فأكثر كعنصر ضغط، أو حتى كعنصر إبطال للزمن. يبدو أنّ المكان تقلّص افتراضيًّا (Virtuellement) بفعل سرعة وسائل النقل والاتصال. مثلًا، لو قيس الوقت الضروريّ لاجتياز المسافة بين لندن ونيويورك فإن المكان ضاق وتقلّص (...) ما كان يحتاج إلى أسابيع ثلاثة بات يلزمه نحو ثماني ساعات (...)".




يطرح روزا على نفسه سؤالًا: كيف يسعنا قياس إيقاع الحياة؟ مجيبًا: "إن محاولات كهذه تستطيع، في نظري، اتّباع مقاربة ذاتيّة (subjective)، أو موضوعية (objective)، ولعلّ الطريق الأنسب هو الجمع بين كلتا المقاربتين. من الزاوية الذاتيّة، يتمتع تسريع إيقاع الحياة (المتعارض مع سرعة الحياة ذاتها) بخطوط كبيرة في امتلاك تأثيرات نراها قي إدراك الأفراد الحسيّ للزمن: إنّه يدفعهم إلى اعتبار الوقت قيمة نادرة، ويُشعرهم بأنّهم خاضعون لضغط الوقت وللضغط النفسيّ (stress). في شكل عام، يتكوّن لدى الناس أنّ الوقت يمرّ أسرع من السابق ويشكون من أنّ كل شيء يمضي بسرعة فائقة، ويخشون بالتالي أن يكونوا عاجزين عن اللحاق بإيقاع الحياة الاجتماعيّة (...) تشير البحوث التطبيقيّة إلى أنّ أفراد المجتمعات الغربيّة يشعرون بأنّهم واقعون فعليًّا تحت ضغط زمنيّ شديد ويتذمّرون في الواقع من ندرة الوقت. انطباعات كهذه تبدو في تصاعد خلال العقود الأخيرة، طارحةً احتمالًا معقولًا حول إمكان أن تكون {الثورة الرقميّة} ومسار العولمة سائرين بالتوازي مع موجة التسريع الاجتماعي الجديد. أمّا من الزاوية الموضوعيّة، فإنّ تسريع إيقاع الحياة يمكن قياسه بطريقتين. ينبغي أن يتيح أولًا ضغطًا للوقت قابلًا للقياس ومنقضيًا على فصول أو وحدات من النشاط محدّدة، كتناول الطعام، والنوم، والقيام بنزهة، واللعب، ومحادثة فرد من العائلة،... إلخ. فالتسريع يستتبع قيامنا بأمور أكثر في وقت أقلّ. في هذا المجال، تكتسب الدراسات حول استخدام الوقت أهميّة كبرى، فبعض هذه الدراسات عثر على عدد من البراهين المطابقة: مثلًا، يبدو أنّنا نميل إلى تناول وجبات طعامنا بطريقة أسرع، وإلى النوم أقلّ، وإلى التواصل مع أفراد عائلتنا أقلّ ممّا كان يفعل أسلافنا. مع ذلك، ينبغي التعامل بحذر شديد مع نتائج كهذه، أوّلًا لأنّ المعطيات المتّصلة بالدراسات الطوليّة (Longitudinales) حول استخدام الوقت محدودة جدًا، ثانيًا لأننا نقع دومًا على أمثلة ـ مضادّة (مثلًا، الوقت الذي يمضيه الآباء مع أبنائهم، على الأقلّ في بعض نواحي المجتمعات الغربيّة هو في ازدياد مستمرّ) من غير أن نكون قادرين على الحسم الكامل لدلالة هذه النتائج، وثالثًا لأنّ الأسباب التي تخلق التسريعات المحدّدة قليلة الوضوح غالبًا (مثلًا كَوْنَ الناس ينامون أقلّ اليوم، بمعدّل وسطيّ، من الأجيال السابقة، يمكن إرجاعه إلى واقع أنّهم يعيشون عمرًا أطول ولا يعملون جسديًّا بشكل قاسٍ مثلما كان يعمل أسلافهم). الوسيلة الأخرى للكشف الموضوعيّ لتسارع إيقاع الحياة تقتضي قياس الميل الاجتماعيّ إلى ضغط الأفعال والتجارب، أي العيش في مرحلة زمنية معيّنة باختزال الاستراحات والفواصل، أو ̸ وفعل مزيد من الأمور في آن واحد، مثل الطهو، ومشاهدة التلفزيون، وإجراء مكالمة هاتفية في الوقت نفسه. هذه الاستراتجيّة تدعى {تعدّد المهمّات/ multitâche}. ولو قبلنا فكرة أنّ {إيقاع الحياة} يرتكز على السرعة، وعلى ضغط الأفعال والتجارب في الحياة اليومية، يصعب بالتالي كيفيّة ارتباط هذه الفكرة فعليًا بالتسريع التقنيّ. ويمكن تعريف التسريع التقنيّ بكونه تناميًا لمردود الوحدة الزمنية، أي عدد الكيلومترات المجتازة في ساعة، أو عدد المعطيات (données) المرسلة في دقيقة، أو كمّ السيارات المنتجة في اليوم الواحد (...). إنّ التسريع التقني ينبغي أن يفضي منطقيًّا إلى زيادة الوقت الحرّ الذي يبطئ بدوره أو يلغي على الأقلّ أو يخفّف {الجوع للوقت}. فالتسريع التقني يعني أنّ وقتًا أقلّ يكفي لإتمام مهمّة معيّنة، وينبغي أن يصبح الوقت وفيرًا. وإذا كان الوقت أضحى في المجتمع المعاصر، على العكس، أكثر ندرةً، نحن إذًا حيال مفارقة تستدعي شرحًا سوسيولوجيًّا".

كتابة بريد إلكترونيّ أسرع مرّتين من كتابة رسالة تقليدية.. لكننا لم نكسب شيئًا من توفير ذلك الوقت


حول هذه المفارقة الغريبة المطروحة أعلاه، يقدّم هَرْتموت روزا التفسير الآتي: "يسعنا البدء في استشفاف جواب لو أخذنا في الاعتبار الشروط اللازمة للتوصّل إلى وفرة الوقت، أو التبطيء: كما ذكرنا آنفًا، إنّ الوقت الضروريّ المسخّر لإتمام مهمّات حياتنا اليوميّة يتضاءل على نحو جليّ، في حين تظلّ كميّة تلك المهمّات هي نفسها. لكن هل تظلّ حقًّا هي نفسها؟ فكّروا ببساطة في تبعات دخول تكنولوجيا البريد الإلكترونيّ في الوقت المتاح لنا. أمر صحيح الافتراض أنّ كتابة بريد إلكترونيّ أسرع مرّتين من كتابة رسالة تقليدية. خذوا في الاعتبار بالتالي أنّكم كنتم تكتبون عام 1990 وتتلقّون في معدّل عام عشر رسائل في يوم عمل، بينما كانت معالجة ذلك تستلزم قبلًا ساعتين. مع دخول التكنولوجيا الحديثة لم تبقوا في حاجة إلى أكثر من ساعة لمراسلاتكم اليوميّة إذا كان عدد الرسائل المرسلة والمتلقّاة باقيًا هو نفسه.




كسبتم، إذًا، ساعة من {الوقت الحرّ} الذي يسعكم استخدامه لأمر آخر. هل هذا ما جرى؟ أراهن على أنّ المسألة ليست كذلك. في الواقع، إذا كان عدد الرسائل التي تتلقونها وترسلونها قد تضاعف، أنتم في حاجة، إذًا، إلى كمّ من الوقت لإتمام مراسلاتكم اليوميّة. بيد أنني أشك في أنكم تقرأون وتكتبون أربعين، أو خمسين، أو حتى سبعين رسالة يوميًا. إذًا، أنتم في حاجة إلى وقت أكثر بكثير لكل ما يتعلّق بالتواصل، وهذا ما لم تكونوا تحتاجون إليه قبل اختراع الـ Web. يصادف أنّ الأمر عينه حدث قبل قرن مع دخول السيارة في حياتنا، ولاحقًا ماكنة غسل الملابس. كان ينبغي أن نكسب مزيدًا من الوقت الحرّ لو اجتزنا المسافات ذاتها وغسلنا ملابسنا بالوتيرة عينها، ولكن هذا هو الواقع. إننا نجتاز اليوم بالسيارة، أو بالطائرة، مئات الكيلومترات، للعمل أو للترفيه، فيما لم نكن لنغطّي ماضيًا سوى شعاع من بضعة كيلومترات طوال حياتنا، واليوم نبدّل ملابسنا يوميًّا بينما لم نكن نفعل إلاّ مرّة واحدة شهريًّا (أو أقلّ من ذلك) قبل قرن من الزمن (...) بات الوقت أكثر فأكثر ندرةً رغم التسريع التقنيّ. يمكننا، إذًا، أن ندعو مجتمعنا المعاصر بـ{مجتمع التسريع} بمعنى أنّه يتّسم بتصاعد إيقاع الحياة (أو نقص الوقت) رغمًا عن حجم التسريع التقنيّ المثير. ولكن كيف يحصل ذلك؟".
مجيبًا عن هذا السؤال الأخير، يقول روزا في الفصل التالي الذي منحه عنوان "القوى المحرّكة للتسريع الاجتماعي": "إنّ المجتمع الحديث هو ائتلاف بين النموّ والتسريع. وخلافًا للاستنتاج الشائع جدًا، وعلى ما رأينا، ليست التكنولوجيا سبب التسريع الاجتماعيّ. يسعنا التحقّق من ذلك عبر مثل البريد الإلكترونيّ: لا شيء، في هذه التكنولوجيا، يرغمني أو حتى يدفعني إلى قراءة أو كتابة مزيد من الرسائل يوميًّا، حتى لو كانت التكنولوجيا حتمًا {عامل إمكان} للزيادة. إلاّ أنّ ذلك يمكن التأكّد منه بالاعتماد على أمثلة من التاريخ: يتبدّى لنا أنّ الثورات التكنولوجية من العصر الصناعيّ، وتلك من العصر الرقميّ أيضًا، كان يحرّكها {الجوع للوقت} في المجتمع الحديث، وكانت {ردودًا} على المشكلة المتنامية لنقص الوقت. هكذا، وقبل وقت طويل من اختراع الآلة البخاريّة، أو التلغراف، ومن غير ذكر السكّة الحديد، أو السيارة، كان الناس، مطلع الحداثة، يحاولون تسريع وسائل النقل والإنتاج والتواصل. مثلًا كانت تستبدل غالبًا الأحصنة التي تجرّ العربات، أو يُستعان بحاملي رسائل كثر لتسليم معلومة عوض إرسال حامل واحد يحتاج إلى الوقت للراحة أو النوم (...)".

شروط القرض والفائدة ترغم المستثمرين على البحث عن عائد للاستثمار وجريان لرأس المال أكثر فأكثر سرعة


يرى هَرْتموت روزا أنّ التنافس هو محرّك اجتماعيّ، شارحًا: "(...) إن المعادلة البسيطة التي تجمع الوقت إلى المال بحسب نظريّة بنجامن فرانكلن صحيحة من عدة نواحٍ. أوّلًا، لأنّ وقت العمل هو أداة بسيطة ومباشرة لخفض الكلفة والحصول على امتياز تنافسيّ. ثانيًا، لأنّ شروط القرض والفائدة ترغم المستثمرين على البحث عن عائد للاستثمار وجريان لرأس المال أكثر فأكثر سرعة، فلا يُسرّع الإنتاج فحسب، إنّما كذلك الجريان والاستهلاك (...) هكذا، التسريع الاجتماعي عامةً والتسريع التقنيّ في شكل خاص هما الحصيلة المنطقية لنظام سوق رأسماليّ تنافسيّ. في المجتمع الحديث، ينهك المبدأ التنافسيّ النطاق الاقتصاديّ (الموجّه نحو التنامي). في الواقع، إنه نظام التوزيع المسيطر في معظم نواحي الحياة الاجتماعية، وبالتالي المبدأ المركزي للحداثة، على ما أظهر Talcott Parsons. (...) بالتالي يسيطر مبدأ التوزيع الأساسيّ، تقريبًا في سائر نواحي الحياة الاجتماعية في المجتمع الحديث، وهو منطق المنافسة. الأمر نفسه في الميادين الاقتصاديّة والرياضيّة، ويصحّ كذلك في السياسة (الامتياز وموقع السلطة ممنوحان للشخص، أو للحزب، الذي يفوز في السباق الانتخابيّ)، أيضًا، في العلم (موقع بروفسور، أو باحث، والموارد الضروريّة لإتمام المشاريع العلميّة، يتمّ تحصيلها بعد معركة تنافسيّة)، في الفنون (حيث عليك أن تواجه منافسيك سواء عبر بيع مزيد من بطاقات السينما، ومزيد من الكتب، أو الأسطوانات، أي في السوق الحرّة، أو من خلال التأثير في لجنة تحكيم)، وحتى في مجال الدين (المذاهب والكنائس تتنافس في جذب المؤمنين). تاريخيًّا، التنافس العسكريّ والسياسيّ بين الدول ـ الأمم، في النظام الدولتيّ السياديّ الديبلوماسي الحدوديّ (Westphalien) الذي أرسي بعد 1648، يمكن النظر إليه كسبب أوّل في تسريع الاختراعات التقنية، والابتكارات الاقتصادية، والبنيويّة والعلميّة في أوروبا. أضف أنّ ثمة من زاوية الأفراد كفاحًا تنافسيًا مستمرًّا في مسابقات القبول للتعليم والوظائف، وفي العائدات، وامتيازات الاستهلاك التفاخريّ (أي السباق نحو المقتنى الأفضل من مقتنى الآخر)، نجاح الأبناء، والأهمّ امتلاك شريك(ة) والاحتفاظ به (بها)، وامتلاك عدد من الأصدقاء. ليست مصادفة أن توضع إعلانات طلبات التعارف والالتقاء في الصحف جنبًا إلى جنب مع الإعلانات الخاصة بأسواق السيارات، وبطلبات العمل، وبالعقارات. ونعلم جميعًا أنّ من الممكن أن نخسر بسهولة معركتنا التنافسيّة في العلاقات الاجتماعية: إذا لم نُظهِرْ لطافتنا واهتمامنا، وإذا لم نكن مسلّين وذوي طلعة بهيّة، فإنّ أصدقاءنا وحتى أفراد عائلتنا لا يبقون مهتمّين بالتعاطي معنا. على نحو أكثر تأكيدًا، يُحصي الناس على مواقع الإنترنت Facebook، Myspace، Twitter، أو Hot or Not، أصدقاءهم الذين يُحكم عليهم بالجاذبية (الجسديّة) من خلال صورهم، ويأخذ هذا التنافس الاجتماعيّ أشكالًا غريبة في الحداثة المتأخّرة إدراكًا. إذًا، الموقع الذي يحتلّه المرء في المجتمع الحديث ليس محدّدًا سلفًا بالولادة، وليس ثابتًا على امتداد حياة (راشدة)، بل سحابة تفاعل تنافسيّ متواصل. وفي هذه الأثناء، طالما أن المبدأ الحاسم أو المرجّح للتنافس هو النجاح، فإنّ الزمن ومنطق التسريع يندمجان مباشرة في النمط المركزيّ لتصنيف الحداثة: يُعرّف النجاح بكونه {الكدّ أو العمل المنجز في وقت متاح ـ القوّة تساوي العمل المقسّم بالوقت، مجسّدًا}. نعثر على البرهان في معاينات كثيرة تدلّ على أنّ علينا {الرقص أسرع للبقاء في الموقع نفسه}، أو {الركض بأسرع ما يمكن للمكوث في المكان عينه}. المنافس لا ينام البتّة، ولا غرابة في أنّ شعور الناس بالتسريع الاجتماعيّ يزداد حدّة في زمن تختزل فيه الإعانات والتخصيصات الاجتماعية وتتعزّز فيه العناصر التنافسيّة (...)".




يلحظ روزا سببًا آخر للتسريع الاجتماعيّ غير التنافس هو "المحرّك الثقافيّ: الوعد بالخلود"، وهذا عنوان فرعيّ ضمن بحثه المثير، ويرى فيه أنّ الفاعلين الاجتماعيين في الحداثة ليسوا مجرّد ضحايا محرومين من قدرة الدفاع في وجه الديناميّة التسريعيّة التي لا يسعهم التحكّم فيها. هم ليسوا مرغمين فقط على التأقلم مع لعبة تسريع لم يراهنوا عليها في شيء. بل على العكس، أعتقد أنّ القوّة المحرّكة للتسريع يغذّيها أيضًا وعدٌ ثقافيّ قويّ: في المجتمع الحديث متعاقب الأجيال، يفيد التسريع كمعادل عمليّ للوعد (الدينيّ) بالحياة الأبدية. والمنطق خلف هذه الفكرة هو الآتي: المجتمع الحديث متعاقب الأجيال بمعنى أن التركيز منصبّ على الحياة قبل الموت. فسواء احتفظ البشر، أو لم يحتفظوا، بمعتقداتهم الدينيّة، فإنّ آمالهم ورغباتهم موجّهة عامّة نحو عروض الثروة وإمكاناتها. فضلًا عن ذلك، تستطيع الثروة والامتلاء، أو نوعيّة الحياة، تبعًا للمنطق الثقافيّ المهيمن للحداثة الغربيّة، أن تُقاس بالحاصل وبعمق التجارب المخاضة أثناء الحياة. بذلك، ووفق هذا التصوّر للحياة، فإنّ الحياة الجيّدة هي الحياة المكتملة، أي الحياة الغنيّة بالتجارب والإمكانات المتطوّرة. هذه الفكرة لا تفترض وجود {حياة عليا} بعد الموت، بل تتعلّق بإنجاز أكثر الإمكانات المحتملة وسط خيارات واسعة يهبها العالم. {تذوّق الحياة في كلّ أبعادها، كلّ أعماقها وتعقيدها التامّ} يغدو أملًا مركزيًّا لدى الإنسان الحديث. غير أنّ العالم، ويا للأسف، يملك في ما يعرضه أكثر ممّا يمكن عيشه سحابة عمر واحد (...). تسريع إيقاع الحياة يبدو بالتالي حلًا طبيعيًّا لهذه المعضلة: لو عشنا مرّتين أسرع، ولو استخدمنا فقط نصف الوقت لإنجاز عمل ما، ولو بلغنا هدفًا، أو عشنا تجربة، لأمكننا مضاعفة حصيلة التجارب المعاشة، أي {من الحياة}، خلال مدّة حياتنا. يستتبع ذلك، استنادًا أيضًا إلى هذا المنطق الثقافيّ، تشابك ديناميّات النموّ مع التسريع. وباتّباع هذا التعليل يسعنا، لو واصلنا مضاعفة إيقاع الحياة، أن ننتهي إلى عيش حيوات متعدّدة، أو حتى حيوات لا نهائيّة في حياة واحدة من خلال تحقيق كلّ الخيارات المتاحة. يخدم التسريع هكذا إستراتيجية محو الفرق بين زمن العالم وزمن حياتنا. {الوعد بالسعادة الذي يأتينا به التسريع الحديث يكمن بالتالي في الفكرة الضمنيّة بأن تسريع إيقاع الحياة هو ردّنا (أي ردّ الحداثة) على معضلة الفناء والموت}. بيد أنّ هذا التصوّر لا يحفظ، ويا للأسف، وعوده في النهاية. التقنيّات نفسها التي تسمح لنا بكسب الوقت ضاعفت عدد الخيارات في العالم: مهما كنّا سريعين، فإنّ حصّتنا من الوجود، أي الحصّة من الخيارات المتحقّقة والتجارب المُعاشة قياسًا بتلك التي أضعناها، ليست في ازدياد، بل في سقوط مستمرّ. هذه، إن تجرّأت على القول، واحدة من مآسي الإنسان المعاصر، ففي حين يشعر بنفسه أسير سباق غير منتهٍ، مثل جرذ الهامستر في دولابه (عجلته)، فإنّ نهمه للحياة والوجود غير مُشْبَع، بل هو أكثر فأكثر شعورًا بالحرمان (...)".

[للبحث صلة].

*ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.