}

الأسير وليد دقّة: عمرٌ يقاس بسنوات الاعتقال لا الحياة

جورج كعدي جورج كعدي 17 أبريل 2024
آراء الأسير وليد دقّة: عمرٌ يقاس بسنوات الاعتقال لا الحياة
الشهيد وليد دقة (بريشة سهاد الخطيب)

بين ظلمة السجن وظلمة القبر أفنى المناضل المثقّف والمبدع وشهيد فلسطين وليد نمر دقة عمرًا يقاس بسنوات الاعتقال لا بسنوات الحياة. المحتلّ الصهيونيّ الفاشيّ لا يملك فكرة عن السجن، ولا عن التعذيب، ولا عن القتل، ولا عن التمييز العنصري، ولا عن القيم الإنسانية، لأنّه ليس من البشر في شيء ولا تعني له شيئًا على الإطلاق أيّ قيمة إنسانية. حوّل باحتلاله الإحلاليّ الإباديّ الوحشيّ حياة الفلسطينيّ إلى سجن ومخيّم ومقبرة. "صَهَرَ وَعْيَ" الإنسان الفلسطينيّ، بحسب تعبير الشهيد في دراسة بحثية له من داخل السجن، وتلاعب بكينونته من موقع الطغيان المتمكّن، وخلق أساليب لـ"حداثوية اعتقال" فيها الكثير من التفنّن الساديّ وأشكال الإخضاع المذلّة.

أخال كيف كان الزمن يجري في حياة الأسير وليد دقة، وحياة كلّ أسير. فالوقت لا يتحرّك في السجن، ولا حتى يموت. لا شمس تنير الكآبة. يحبس الأحرار دمعة في القلب. طلع الضوء فالدنيا الآن نهار، فالدنيا الآن ليل، لكن من يكترث في هذا الجحيم. لا أحد يعرف متى يناديه الموت. من يستطيع أن يرتاح ولديه كلّ هذا العذاب ليتعايش معه. يصيح السجّان الوحش "كم تستطيعون أن تحتملوا بعد؟". حتى الهواء يصرخ من شدة الرعدة. أيّ صنف من البشر هؤلاء الذين يسيرون على خطى الشيطان في حظيرة الشرّ، في قلعة العار الإنسانيّ. يكتب الشعراء كلامًا حلوًا كالعصافير، عن الجمال المعذّب حتى الموت هنا. لكنّهم يكذبون. لطالما كان الشعراء هكذا. لا قيمة لطعم التمدّن حين تكون في جهنم. صورة ظلّية لمكان موحش. على السجّان أن يفتشك مرارًا قبل أن يكسر عظامك. ازدراؤك له لا يمكن شفاؤه بحبّة دواء. هنا يرزح القدر اللعين. يشعر المرء بالعذاب ينسلّ بهدوء فوق جلده. يكسرون ظهره ليكسروا إرادته. يحملون وشم جريمة قابيل. يمعنون في تعذيب أرواح تئنّ. لا شيء يقهر إرادة الأسير الحرّة. من سجنه تتناسل الحرية. يجترّ المحتلّ هزيمته. لا أحد يجرؤ على تخيّل ما يكابده الأسرى الذين احتضنوا الألم وتباهوا بالتحمّل. العدالة تختبئ مع عارها. حتى جدران السجن تشعر بالقهر. هذا المحتلّ لا شيء يغسل عاره. "المحاكمات" الصوريّة محض كذب. ليس للعدالة عند المحتلّ بريق. يقدّمون الحقيقة المقدّسة للذبح، يتركونها تنزف في مكانها. يسحقونها بأياديهم الملطّخة بالدم والعار. وُلد الأحرار المعذّبون ليموتوا. لكنّ العبيد هم الحمقى الذين يعتقدون أن الموت لن يطاولهم أبدًا. عميقُ هو القبر لنا عندما نموت. باردٌ هو القبر. لكن عند سطحه تتفتح زهرة الربيع. قريبًا نصبح جميعًا هناك. مباركٌ من يقف في حضرة الله متألمًا وعلى ظهره صليب الألم. هُزم الجسد لكن الروح انتصرت. هذا ما يُغضب الوحش. لا يتمكن من هَزْم روح الفلسطيني. يعذّب جسده، يسجنه، يدميه، يقتله، ولا ينال من روحه.

كان السجن لوليد دقة "كالنار يتغذّى على حطام الذاكرة (...) وغدت ذاكرتي هشيمًا وجفّ عودها... أهرّبها مدوّنةً على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان". ولأنّه لم يشأ أن تُـسجن روحه مثل جسده، صمّم وليد على "تهريب" روحه من الأسر إلى فضاء الإبداع والكتابة والبحث وتثقيف الذات، فشرع بثلاثية أسراره ذات العناوين البديعة ("سرّ الزيت" و"سرّ السيف" و"سرّ الطيف") وقد صدر السرّان الأوّلان منها في كتابين ولم يصدر السرّ الثالث بعد. وبحسب الروائيّ الياس خوري فإنّ كلمة سرّ تعني المخفي والمعلن وعلينا استكشاف أحد هذين المعنيين من السياق، فالأضداد تشبع الطباق الواضح في إشارته إلى التضاد، أمّا الأضداد فتختزل في داخلها المعاني المتناقضة، واصفًا نصّ "سرّ السيف" بأنّه حكاية للفتيان، مثل "سرّ الزيت"، لكنّه يخاطب بسحره وصدقه الأعمار كافة. فوليد دقة يصنع من الخرافة تورية لأيامه وأحلامه للتحرّر من السجن. والأسرار الثلاثة كتبها الشهيد دقة في سجن جلبوع وعرف جزءاها الأولان المنشوران صعوبات جمة لإخراج مضمونها من السجن، تارةً مصوّرة تضيع نسخها، وتارة أخرى في تسجيلات صوتية تُجمع وتُرسل ثانيةً إلى الكاتب الأسير ليعيد النظر فيها قبل أن تشقّ طريقها إلى النشر.


بهذه "الأسرار" انضمّ وليد دقة إلى الأسرى المبدعين في السجون الإسرائيلية الذين حملوا القلم كبندقية لهم بعد الاعتقال، وكانت الورقة ساحة المعركة الاعتقالية، حتى بات أدب السجون ضمن أدب المقاومة وجزءًا من الأدب العربيّ المعاصر ذا تأثير في نفسية الأسير وفي المجتمع الفلسطيني، مثل "النطفة المهرّبة" التي استقرّت في أرحام زوجات الأسرى خارج السجن فأنجبن لهم أطفالًا، وتلك حال الشهيد وليد دقة الذي فرح من بعيد بولادة طفلته "ميلاد" من نطفته المهرّبة، فقهر سجّان الاحتلال بالذرية المستمرّة بعده من داخل السجن، وأيضًا بكتاباته المهرّبة أيضًا. يوم وقف أمام القاضي الإسرائيلي لنيل موافقة إنجاب طفل من زوجته سناء، قال له إن حضور ممثلين عن "الشاباك" (الاستخبارات الداخلية) و"الشاباص" (مصلحة السجون) حاملين تقريرًا سريًا إلى القاضي "إنّما جاؤوا لإقناعك بأنني وسناء سننجب خطرًا أمنيًا على إسرائيل". وتابع: "أيّ دولة هذه يا حضرة القاضي تخشى طفلًا بينما هي تملك مئتي رأس نوويّ! أيّ أمن هذا يهدّده طفل لم يولد بعد!"، مردفًا: "المرأة الفلسطينية يا سيادة القاضي تنجب أطفالًا، تمامًا كالمرأة اليهودية. لم يحدث حتى الآن أن أنجبت امرأة عربية عبوة ناسفة". وفاجأ وليد دقة القاضي بنبأ معبّر بثته القناة العاشرة العبرية ويتحدث عن أنثى كنغر في حديقة حيوانات في مدينة قلقيلية في الضفة الغربية أجرى مسؤولو السلطة الفلسطينية مع سلطات الاحتلال تنسيقًا أمنيًا لجمع (تلقيح) أنثى الكنغر في قلقيلية بذكر الكنغر في حديقة حيوان إسرائيلية في "رمات غان" قرب "تل أبيب". إذ قال الأسير الألمعيّ للقاضي: "أودّ أن أبشّرك يا حضرة القاضي... إن أنثى الكنغر قد وضعت صغارها... أما حان الوقت لأن تعاملوا البشر مثلما تعاملون الكنغر؟!".

كتاب "صَهْرُ الوعي – أو في إعادة تعريف التعذيب" للشهيد وليد دقة وثيقة بحثيّة قيّمة، قدّم له الدكتور عزمي بشارة وصدر في منشورات "مركز الجزيرة للدراسات" مع "الدار العربية للعلوم ناشرون". اعتبر الدكتور عزمي أنّه "لم يكن ممكنًا أن تقال الحقيقة، ولا أن تفنّد الكليشيهات والشعارات حول ما يجري داخل السجون الإسرائيلية، إلّا من قبل أسير مناضل وباحث في الوقت ذاته (...) للكتابة عن السجون حساسية لا يدركها إلّا من عاشها (...) وكلّ تفصيل صغير يهمّ (...) حينما يحاصر الوطن وتقطّع أوصاله جغرافيةً وهويةً، وتُجزّأ قضيته إلى قضايا متنافسة في ما بينها، ويتحوّل النضال يوميًا ومطلبيًا متعلقًا بظروف العيش في ظلّ الاحتلال، وحين يقسم السجن إلى دوائر وينسحب العنف الجسدي إلى أنظمة الرقابة والتحكم، وينقلب نضال السجناء إلى مطالب فردية وقطاعية، ويصبح السجن صورة مصغّرة للوطن المحاصر والمقطّع... يصبح الأسير الباحث في شؤون السجن باحثًا في شؤون الوطن".

حقيقة السجون الإسرائيلية فصّلها الكاتب والمفكر الشهيد وليد دقة على النحو الآتي:

أولًا، ما أسماه "القمع الحداثوي" المقنّع والمخفي والمطبّق على أنّه استجابة لحقوق الإنسان. هو قمع لا صورة له، ولا يمكن تحديده بمشهد. مجموعة من مئات الإجراءات الصغيرة والمنفردة، وألوف التفاصيل التي لا يمكن أن تدلّ مفردة على أنّها أدوات للتعذيب... تمامًا كالاستغلال في اقتصاديات السوق الحرّة حيث مستغلك لا وجه له ولا وطن ولا عنوان محدّدًا، وحيث تمتدّ أذرع احتكاره إلى كلّ زاوية من زوايا العالم، وإلى كل تفصيل من تفاصيل حياتك، فتضيع الفواصل والحدود بين المستغِلّ والمستغَلّ. لا يشبه القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم. لم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة، وإنّما المستهدف هو الروح والعقل (...) تواجه في السجون الإسرائيلية تعذيبًا أشدّ وطأة بـ"حضاريّته" يحوّل أحاسيسك وعقلك لأدوات تعذيب يوميّ. يأتيك هادئًا متسلّلًا لا يستخدم في الغالب هراوة ولا يقيم ضجة. إنّه يعيش معك رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية. الهدف هو إعادة صوغ البشر وفق رؤية إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون. يواجه الأسرى الفلسطينيون تعذيبًا ليس بمقدورهم تحديد شكله ومصدره. الأمر جزء من برنامج شامل ومخطط عملي ومدروس يهدف إلى إعادة صهر الوعي الفلسطيني.

ثانيًا، أنجزت "إسرائيل" منذ عام 2004 نظامًا عمليًا شاملًا وخطيرًا يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات، بغية صهر الوعي الفلسطيني عبر تفكيك قِيَمِهِ الجامعة. يمثل هذا النظام العلمي الإسرائيلي بكلّيته حالة من حالات الإبادة السياسية تشمل خططًا وبرامج ومواقف تبدو للمراقب كأنها فوضى وارتباك وتناقض، لكنها في حقيقة الأمر فوضى منظمة (...) وأخطر ما في هذا النظام أنّه من الصعب الإحاطة به من قبل المواطن العادي والمتوسط، لا سيما أنه نظام مقسّم إلى مشاهد منفردة لا يرى منها المواطن إلّا أجزاء محدّدة. وإحاطة الاحتلال الشاملة والنافذة بحياة الفلسطيني لم يكن ممكنًا تحقيقها من دون التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال والمراقبة الإلكترونية.

وليد دقة فرح من بعيد بولادة طفلته "ميلاد" من نطفته المهرّبة، فقهر سجّان الاحتلال بالذرية المستمرّة بعده من داخل السجن، وأيضًا بكتاباته المهرّبة أيضًا


ثالثًا، إنّ انعدام الرؤية هو ضمان هذا النظام، فإذا كان الموقوفون أسرى، لا خوف من مؤامرة لمحاولة هرب جماعية أو مشروع للمواجهة (...) وضع پنتام المبدأ القائل إنّ السلطة يجب أن تكون منظورة وغير ملموسة، منظورة بأن يكون ظل البرج المركزي العالي (في السجن) أمام أنظار الأسرى باستمرار، لكي تتمّ مراقبتهم بصورة غير ملموسة.

رابعًا، لم تعد السيطرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي مباشرة عبر السجّانين الذين كانوا يتواجدون ماديًا وعلى نحو مباشر في باحة السجن ويقومون بفتح الأبواب وغلقها. لم يعد هناك، كما في الماضي، احتكاك يومي بين السجين والسجان إلّا استثناءً، للتأكيد على قاعدة غيابه منظورًا وحضور ظلّه عبر آليات وتقنيات حديثة. استبدل البرج المركزي أو ظله بنظام كاميرات موجودة في كل زاوية من زوايا السجن، واستبدلت أقفال الأبواب التي كانت تستدعي حضور السجان وتواجده المباشر لفتحها يدويًا بنظام فتح وإغلاق إلكترونيّ، حيث يكفي اليوم وجود حارس واحد في غرفة المراقبة للسيطرة على قسم مؤلّف من مئة وعشرين أسيرًا (...) هذا النظام ينطلي على الأسرى فيغلقون أبواب زنزاناتهم بأيديهم بعد أن يعطي السجّان في غرفة المراقبة والسيطرة الإجازة الإلكترونية لفتحه (...) حُوّلت السيطرة البشرية إلى سيطرة آلية شديدة الضبط، كلّية المراقبة. تلك المسافة التي خلقتها تكنولوجيا المراقبة بين السجين والسجّان ولّدت لدى هذا الأخير قسوةً أكبر إذ لم يعد يتعامل مع ذاتٍ وإنّما مع "موضوع" يراه على الشاشة.

خامسًا، إنّ السجن الحديث ليس، بصورة عامة، سيطرة على الجسد فحسب، بل هو سيطرة على زمن الأسير الذي لا يستطيع تنظيم ساعات نهاره وفقًا لبرنامج يحدّده لذاته، فزمنه خاضع للسجّان الذي يقسّم وحداته. بالإضافة إلى خروج الأسير إلى الباحة الشمسية في ساعات محددة يقرّرها السجان، فإنّ الأسير في السجون الإسرائيلية مجبر يوميًا على مغادرة زنزانته ثلاث مرات ليتمّ فحصها أمنيًا، وعليه الانقطاع عن استخدام الحمام سبع مرات يوميًا، لمدة ساعة في كل مرة، ثلاث مرات لإجراء الفحص الأمني وأربع لإحصاء الأسرى والتأكد من عددهم.

سادسًا، إنّ توزيع الأسرى الفلسطينيين على السجون وفق تقسيمات مناطق كبرى، جنوب، وسط، شمال، وتوزيعهم في كل سجن، على الأقسام وفق تقسيمات صغرى، مدينة، قرية، مخيم، وإحكام الفصل قدر الإمكان بين المناطق وتعزيز فصل الأقسام داخل السجن الواحد، وتأجيج التناقضات وتغذية الخلافات على أساس مناطقي وجغرافي، مخيم، مدينة، مثلًا بين أسرى نابلس ومخيم بلاطة، أو أسرى جنين ومخيم جنين، بغية استبدال الولاء للوطن بالولاء للمنطقة وإحلال الجغرافيا كانتماء محلّ الهوية الوطنية الجامعة.

سابعًا، استخدام إضراب الأسرى عن الطعام في المزيد من صهر الوعي، وحرمانهم من الماء ومن الملح الضروري للممتنع، لمفاقمة حالته الصحية المتدهورة. كذلك استبدال الشبك في أماكن مقابلة الأهل بحاجز زجاجيّ يمنع أي تلامس، إلى ما هنالك من هذه الأجواء "الأورويليّة" المرعبة تحت الرقابة الإلكترونية المحكمة عاشها وليد دقة طوال أربعة عقود هي عمره الحقيقي لا سنّه الواقعية، فكأنّه وُلد منذورًا للسجن ومصارعة البقاء، وللموت بالمرض في معتقله الوحشيّ، بعد حياة مرت مثل "حلم" كالديرون لسجينه المستيقظ على نفسه خلف القضبان كأنّه يعيش حلمًا، وهمًا أو كابوسًا. وبين الوهم والكابوس والحلم يسعنا أن نخال حياة وليد دقة الذي عاش عمرًا في الأسر يشبه كل شيء... إلّا الحياة.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.