}

حزّر فزّر.. اللغز من الجدّ إلى اللعب

باسم سليمان 25 مارس 2022
اجتماع حزّر فزّر.. اللغز من الجدّ إلى اللعب
سقطت الألوهة بصيغتها التقليدية عندما حلّ أوديب اللغز..




إنّ البدء في حياكة الألغاز في مجالات شتى، من الأسطورية وصولًا إلى اللعب، ضمن الثقافة البشرية، يعتبر ذا دلالة مهمّة على ترقي الإنسان في سلّم حضارته، وخطوة متقدّمة، انتقل بواسطتها من مرحلة الانفعال السلبي تجاه مجريات الكون إلى مرحلة التأثير بالكون وبذاته. وإذا نقّبنا في الأسطورة والدين كونهما منطلقين أساسيين في دعائم حضارته، نجد أنّ اللغز ثيمة أساسية في بنيتهما الفكرية.

عرّف معجم مقاييس اللغة اللغز: "ميلك بالشيء عن وجهته. واللُّغيزاء: حجر اليربوع. ويقال ألغز اليربوع، أي حفر أنفاقًا عديدة، فإذا طلبه البدوي تحيّر بأيّ نفق سلك". أمّا المعنى الاصطلاحي فقد أوضحه ابن حجّة الحموي، بأنّ اللغز يُسمى المحاجاة والتعمية، وهو أن يأتي المتكلِّم بعدة ألفاظ مشتركة، من غير ذكر الموصوف، ويأتي بعبارات يدلّ ظاهرها على غيره، فيما يومئ باطنها إليه. يقول السرّي الرفّاء، أحد الشعراء الوراقين:

وكثيرةُ الأحداق إلّا أنّها/ عمياءُ ما لم تنغمس في ماء

وإذا هي انغمستْ أفادتْ ربّها/ ما لا ينالُ بأعين البصراء.

وإذا تأمّلنا الإلغاز الشعري للسرّي الرفّاء نلقى بأّنّه أضمر مقصودًا هو: شبكة صيد السمك، فيما ذهب إليه من أوصاف. لقد كان الرفّاء ناسخًا للكتب إلى جانب كونه شاعرًا، وقد عانى كثيرًا، فجاء لغزه تعبيرًا عن وضعه، فالشبكة العمياء التي ألغز بها، رفعت عن صاحبها الفاقة، وفاقت أعين البصراء في تأمين الرزق، أمّا ما يرمي إليه من لغزه الشعري، فيكمن في ذمّ أصحاب العيون الذين فاتهم حسن إبداعه وجمال نسخه، فيا ليت له شبكة عمياء تغنيه عن صحيحي النظر وعميان البصيرة.

تعود صناعة اللغز إلى بدايات الحضارة البشرية، ومن خلاله تم تقديم بعض رؤاها للكون. تقدّم لنا الأسطورة البابلية في ملحمة كلكامش(1) إحدى اللحظات التي أصبح فيها الإنسان قادرًا على فكّ شيفرة العواصف والطوفانات. فقد عرضت ملحمة كلكامش لهذا التفصيل، عندما قام الإله (أيا) بنقل نتائج اجتماع الآلهة، الذي قرّروا فيه إبادة الجنس البشري بطوفان عظيم إلى أتونفشتيم، مخاطبًا إياه باللغز والمجاز كي يكون على مستوى الاختبار، فإن حلّ شيفرة اللغز، كوفئ بالنجاة والخلود، وإن لم يستطع كان الغرق نهايته: " يا كوخ القصب! يا كوخ القصب، يا جدار، يا جدار. اسمع يا كوخ القصب وافهم يا حائط". لقد فكّ أتونفشتيم الشيفرة المعمّاة في خطاب الإله أيا وتمكّن من النجاة من الطوفان والخلود.

 تقدّم لنا الأسطورة البابلية في ملحمة كلكامش إحدى اللحظات التي أصبح فيها الإنسان قادرًا على فكّ شيفرة العواصف والطوفانات 



إنّ اللغز إرسالية معرفية معمّاة، قد تأخذ شكل خطاب، أو إشارة، أو شكلًا محسوسًا، كحصان طروادة، وعلى المتلقّي أن يفضّ خيوط اللغز حتى تنجلي له الحقيقة. إنّ السيطرة على الطبيعة يقتضي معرفة قوانينها، أي الكشف عن لغزية عملها. ونحن إذ ذكرنا حصان طروادة، فمن أجل تبيان التقدّم الذي حازه الإنسان في ارتقاء سلّم حضارته. لقد كان الإنسان مع أتونفشتيم متلقيّا للغز، لكنّه قادر على حلّه، أمّا مع حصان طروادة، فقد أبدع اللغز. وعندما فشلت طروادة في إدراك الأبعاد المضمرة لتلك الهدية التي عبّر بها الإغريق عن اعتذارهم من الآلهة والطرواديين، ترتب على ذلك سقوط طروادة. لقد خدع الإغريق الجميع من طرواديين وآلهة سواء بسواء، معلّلين هديّتهم بأنّهم قد خرّبوا حقول طروادة ومراعي أحصنتها(2)، فكان الحصان الخشبي اعتذارًا في الظاهر، لكنّه الموت الزؤام في الباطن. هذه النقطة الأخيرة في تسخير الآلهة ضمن بنية اللغز العوليسي نستطيع أن نعتبرها بداية التجرؤ على المقدسات والسلطات الميتافيزيقية التي كانت تحتكر صناعة الألغاز من خلق الكون إلى خلق الإنسان. إنّ الحسّية في حصان طروادة تعاكس الميتافيزيق وتشرعن السؤال عن آليات عمل الكون التي ابتدأها علماء إيونية في القسم الآسيوي من اليونان(3).

كان معلّمو الزن في الصين يطرحون على تلامذتهم ألغازًا بصيغة أسئلة، لم يكن الهدف منها هو العثور على إجابة لها بقدر: "تعريض أنفسنا للصدمة خارج الفرضيات الإنسانية المعتادة حول العالم بطرح أسئلة تستحيل الإجابة عليها في إطار الفرضيات الإنسانية المعتادة(4)"، ومن هذه الأسئلة: "ما هو صوت تصفيق كفّ واحدة". إنّ إلغازية الزن تتغيّا النقض المطلق لمحاولة تفسير أو شرح الكون، فالدهشة أمام الوجود؛ تعاش ولا تشرح. لكن لنا أن نعتبر إلغازية الزن نكوصية أو تراجعية عن مواجهة الكون، لكنها في الوجه الآخر؛ سخرية مبطّنة وشكوكية عميقة تجاه الغاية المعمّاة في هذا الكون، فمع لغزية أسئلة معلّمي الزن أصبح الإنسان قادرًا على صناعة لغزية تتجاوز السبب والنتيجة، وتحقّق استنارة، هي أقرب للمعجزة، كما كانت تُدهش الآلهة البشر بأفعالها غير المعقولة. لا بدّ أن إلغازية الزن وقفة جريئة تشابه تصرف الإسكندر المقدوني الذي اُختبر بعقدة حبل لا تفكّ، فما كان منه إلّا أن جرد سيفة وقطع عرى العقدة نصفين!

إنّ إلغازية الزن تتغيّا النقض المطلق لمحاولة تفسير أو شرح الكون، فالدهشة أمام الوجود؛ تعاش ولا تشرح  



ولكي نفهم هذه الجرأة والشكوكية من معلمّي الزن تجاه الوجود ولغزيته، لا بدّ من المرور على مسرحية سوفوكليس؛ أوديب. كانت مدينة طيبة تعيش حالة من الرعب، بسبب الــ(Sphinx): (هولة؛ لها جسد أسدٍ مجنّح، وصدر امرأة، ووجهها). استقرّت الهولة على صخرة عند بوابة المدينة، وغدت تتوعّد كلّ مارٍّ بالقتل، ما لم يجب عن أحجية بلاغية تطرحها: "ما الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساءعلى ثلاث؟". استطاع أوديب أن يحلّ اللغز: "هو الإنسان يحبو في طفولته على أربع، ويمشي قائمًا في شبابه، ويستعين بعصاه كهلًا ". وما إنْ سمعت الهولة الجواب، حتى ألقت بنفسها عن الصخرة وماتت، واستقبل أهل طيبة أوديب استقبال الفاتحين.

سقطت الألوهة بصيغتها التقليدية، عندما حلّ أوديب اللغز، ومعه ابتدأت الفلسفة مشوارها الطويل في محاولة لتفسير وشرح لغزية الكون بعيدًا عن عرّافات معبد دلفي وكاهناته (5).

هذا الخطاب المتمظهر بالألغاز نجده في الكثير من آداب الشعوب بصيغ مختلفة وغايات متباينة. وإذا يمّمنا وجهنا نحو تراث المنطقة العربية نلقى الكثير من آثارها، كحرب الأمثال التي دارت بين الزبّاء وجذيمة الأبرش، والمحاجاة بين النبي سليمان وبلقيس، وأيضًا مع ملك صور، كذلك نجدها في القرآن الكريم بين النبي موسى والخضر.

ونجد الألغاز في الحكايا والأمثال والأشعار، سواء أكانت في العصر الجاهلي أو الإسلامي، فها هي زرقاء اليمامة تحذّر أهلها عبر قولها: "إنّني أرى شجرًا من خلفها بشـرٌ/ لأمرٍ اجتمع الأقوام والشّـجـر". كانت زرقاء تستطيع أن تُفصح عن مقصدها، لكنّ إلغازها، هو نوع من الامتحان، ومن يفشل في حلّه يستحق الموت، لا الحياة. وهذا ما نجده في سجع الكهّان، فالتنبؤ لا يفصح عن مكنونه، إلّا في صيغة إلغازية تستوجب الفطنة والذكاء من المتلقّي طالب النجاة. 

                       
إنّ مصطلح: "ألقمه حجرًا" الذي يعني: أفحمه بجواب مسكت، فيه من معاني القتل الكثير، فالقدرة على الإلغاز الذي لا تفكّ شيفرته سلطة تُخضع الآخر وقد تقتله وهذا مقصد الهولة بطرحها السؤال على أوديب وعندما فكّ عرى لغزها، ردّ سحر الإلغاز إلى نحرها. إنّ الشعر في أحد تجلياته، هو محاججة إلغازية، كما يرى سعيد الغانمي (6) فالمماتنة بين الشعراء، كانت تعني حجاجًا شعريّا بين شاعرين، أو مباراة يترتّب عليها تنصيب من هو أكثر شعرًا، وعادة ما تأخذ هذه المماتنة شكل الألغاز. تساجل امرؤ القيس وعبيد بن الأبرص، فقال عبيد: ما معرفتك بالأوابد؟ فقال امرؤ القيس: ألق ما أحببت، فقال عبيد: "ما حبّة ميتة أحيت بميتها/ درداء ما أنبتت سنًا وأضراسا" فردّ امرؤ القيس: "تلك الشعيرة تسقى في سنابلها/ فأخرجت بعد طول المكث أكداسا...".

إنّ معرفة الشاعر بالأوابد، والحدثان، وأيام العرب دلالةٌ على شاعريته الفذّة. والإلغاز الذي تقصّده عبيد كان يهدف إلى إلقام امرئ القيس حجرًا وقتله شعريّا؛ فكان حلّ اللغز بمثابة صكّ النجاة. ويُحكى عن امرئ القيس، أنّه اختبر امرأته عبر لغز قبل أن يعقد عليها، قاصدًا معرفة فطنتها وذكائها.

ليس مهمًا صدقية التاريخ في هذه الحوادث، لكنّها دلالة على أهمية اللغز في حياة الإنسان. وهذا ما نعثر عليه في ألف ليلة وليلة، فالقصّ الشهرزادي كان يتبع هرم فريتاج، حيث القصة تملك ذروة تصاعدية، لغزًا يحلّ في النهاية، فالقصة لدى شهرزاد كانت لغزًا، لم تكن تطلب من شهريار حلّه، بل أن يعتبر. كثرت الألغاز في الليالي التي رتبت نجاة أو موتًا، كما في قصة الجارية تودّد(7) التي بزّت جميع الحكماء والفقهاء بعد أن عجزوا عن حلّ ألغازها. لقد اشترطت الجارية تودّد والتي تعتبر نسخة أخرى من شهرزاد على العالم أو الفقيه أن يخلع ثيابه عندما يخسر في لعبة الألغاز دلالة على خلوّهم من العلم.

تقاسمت الأسطورة والأدب فنّ الإلغاز، لكن مع الوقت تراجع دور الأسطورة والدين لصالح الأدب، ليتحوّل فن الإلغاز إلى مهارة إبداعية، تهدف إلى الإمتاع والتسلية، إلى جانب كشف الفطنة والذكاء لدى صانع اللغز والمتلقي.

يرى  خيرالله أنّ الألغاز التي أنشأها الوراقون لم يكن هدفها التسلية فقط، فقد كانت هذه الألغاز دعاية للورّاق الذي أبدعها، فهي تلمح إلى أنّه متمكّن من حيثيات الكتب التي كان ينسخها 



يعلّل د. خيرالله سعيد (8) كثرة الإلغاز الشعري لدى الوراقين ومشايعيهم بصعوبة العمل والروتين، فكانوا يزجون أوقاتهم في تبادل الأحاجي والألغاز. وكان جلّها يتمحور حول أدوات الكتابة من أقلام، ومحابر، وأوراق. وقد أنتج هذا الأمر شعرًا فيه من الإبداع الرفيع الكثير، وصولًا للخليع. قال أحد الوراقين ملغزًا بالقلم:

وطائر في وكره نائم/ يطير في الأرض في أسراره

حياته في قطع أوداجه/ وعيشه في قطع منقاره.

اشتهر الوراقون في الثقافة العربية الإسلامية بإنشاء الألغاز الشعرية. ويرى د. خيرالله أنّ الألغاز التي أنشأها الوراقون لم يكن هدفها التسلية فقط، فقد كانت هذه الألغاز دعاية للورّاق الذي أبدعها، فهي تلمح إلى أنّه متمكّن من حيثيات الكتب التي كان ينسخها وخاصة الأدبية منها. فاللغز لا يقوم بيد قائله، إلّا إذا كان مدركًا لأسرار اللغة العربية وخطّ حروفها.

لم يتقصّد الإلغاز لذاته إلّا في العصر المملوكي، فقد كان سابقًا برهانًا على علو كعب الشاعر والأديب، فنجده عند المعري، وفي مقامات بديع الزمان، والمتصوّفة كابن الفارض، لكن في العصر المملوكي كان له قصب السبق، والسبب يعود إلى اعتناء شعراء ذلك العصر بالمحسنات البديعية التي تعتبر من أساسيات هذا الفن، كما يرى ياسين الأيوبي في كتابه "آفاق الشعر العربي في العصر المملوكي". تفنّن شعراء المماليك بالإلغاز، وقد ألغزوا في الكثير من الأشياء من أدوات الكتابة والطيور وأدوات المطبخ والأسلحة، إلى أيّ شيء آخر كان بالنسبة لهم قابلًا كي يتحوّل إلى لغز يبرز براعة ناظمه، وفطنة من يدركه. 

                                                  

قال الصفدي ملغزًا في حيوان الفيل:

أيّما اسمٌ تركيبه من ثلاث/ وهو ذو أربع تعالى الإله

حيوان والقلب من نبات/ لم يكن عند جوعه يرعاه

فيك تصحيف ولكن إذا ما/ رمت عكسًا يكون لي ثلثاه.

إنّ أهميّة اللغز تتجلّى فيما يتضمّنه من تحدّ ومعرفة مكّنته من أن يصبح من أهم الوسائل الإبداعية التي تتغياها الآداب، فنجده في مسرحية شكسبير ماكبث وقصص إدغار آلان بو إلى أغاثا كريستي وروايات ستيفن كينغ التي تقوم على الإلغاز. وتعددت الغايات من الألغاز في تراثنا العربي، من الغاية التعليمية إلى المهارات الحسابية والفقهية والمسلية وفي عصرنا الحديث لم يغب اللغز عن أدبنا، فنجده في الحزازير والأشعار. ومن الشعراء الذين كتبوا شعرًا ملغزًا نذكر: بيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وغيرهما. وفي المسرح كتب صلاح عبد الصبور "الأميرة تنتظر" وفي الرواية كانت "هاتف المغيب" لجمال الغيطاني(9).

لقد امتدّت ثيمة الإلغاز إلى البرامج التلفزيونية من مثل فوازير رمضان الذي قدّمها العديد من الفنانين. كذلك في كتب الناشئة كألغاز المغامرين الخمسة والشياطين 13 ذات الشهرة بين الشباب. 

وفي ختام هذا المقال نقول: سيظل اللغز حافزًا إبداعيّا وجماليّا، كما كان معطى أسطوريّا ودينيّا يقودنا في مجاهل هذا الكون، وكلّما أصابنا القنوط، سنتذكر هولة أوديب، وبأنّ الإنسان هو اللغز وهو جوابه. 

المصادر:

1-  ملحمة كلكامش، طه باقر – دار الوراق 2006
2-  https://allthatsinteresting.com/trojan-horse
3-  تاريخ الشك، جينيفر مايكل هيكت – المركز القومي للترجمة، مصر 2006
4-  المصدر السابق
5- https://www.marefa.org/%D8%AF%D9%84%D9%81%D9%8A/simplified
6-  ينابيع اللغة الأولى، سعيد الغانمي. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2009
7-  ألف ليلة وليلة، طبعة بولاق.
8-  موسوعة الوراقة والوراقين، د. خيرالله سعيد، دار الانتشار العربي 2011.
9-  مجلة الفيصل العدد 206 لعام 1994.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.