}

المنستير.. تاريخ تحت السماء

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 21 أبريل 2022
أمكنة المنستير.. تاريخ تحت السماء
المنستير (wikipedia)


وُجدت في التاريخ القديم مدنٌ وقرى وبلدات وأمصار ودول تملأ الأرض. ولكل منها أحداث ومفارقات بنكهة الماضي. ولما كان التاريخ مكتظًا بهذه البشرية في أصنافها المختلفة، منها ما أوجده الرواة والباحثون المهتمون بالتدوين، ومنها ما وضعه المستعمرون لتشتيت الواقع وحقيقته؛ فإن كثيرًا من الحقائق تتوارى، ولا تبقى منها سوى الأطلال في الهياكل والقبور والمعابد والكنائس والأسوار والجوامع والرباطات. وهكذا فإن المنستير كمدينة تاريخية قديمة، تحفل بالتقاطعات الكبيرة في نشأتها ووجودها وموقعها البحري المتوسطي، لذلك اختلطت نكهتها البحرية السائدة على تباين الحضارات التي مرت بها، وأهميتها الموقعية المميزة بجوار البحر المعروفة التي جمعت ما مضى، على تعددياتها الحضارية الفينيقية والرومانية والإسلامية والفاطمية والعثمانية، واستقرت في حاضرها على مشارف البحر الأبيض بميناء صغير بحجم سفينة سياحية. ربما لا توجد على شاكلتها في الولايات البحرية المتاخمة لها أو البعيدة عنها.

قد لا تكون هناك أسباب واضحة لهذه النكهة الشخصية التي ترافقنا كلما زرنا هذه الولاية، غير أنها هكذا. ناعمة وصغيرة ومريحة وبسيطة، لا تشعر الزائر بأنها مدينة معقدة ومركّبة. لكن لو نُظر إلى تاريخها البعيد فسيكون الأمر مختلفًا، إذ تحفل تاريخيتها بالأحداث المتتالية، عبر الحضارات المتعاقبة التي ضمتها إليها، واستعانت بها كحائط صد بحري لمقاومة الغزاة والمحتلين.

 والمنستير المختلطة بين اللونين الأزرق والأبيض، وهي شبه جزيرة؛ تقع شرقي تونس، كمستوطنة فينيقية ورومانية قديمة. لكنها تتسع مع البحر المتوسط الأزرق، شمالًا وشرقًا، فتكشف الكثير من شحناتها الجمالية تاريخًا وحاضرًا. فهي محاطة بالبحر من ثلاث جهات، إذ يمتد خليجها إلى رأس ديماس. وهذا الامتداد جعلها مدينة مائية تطل على البحر بشاعرية بيّنة، ربما تختصره بميناء المارينا الصغير، الواقع تحت السماء، والذي أكسبها جمالية شخصية، وجعلها قبالة بحر شاسع بمياه زرقاء شبيهة بالتركواز اللمّاع. مثلما أكسبها ضريح الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الممتد على مساحة واسعة من المدينة قريبًا من البحر، نوعًا أبويًا يتذكره التونسيون لهذا الرجل، الذي أثرى البلاد، بمنجزاته القوية من خلال سياساته الاجتماعية، بتحرير المرأة، والتطور الاجتماعي العام الذي يدين به التونسيون له. والمنستير؛ مع القيروان وسوسة؛ تعد من أولى المدن العربية التي تأسست في أفريقيا حوالي عام 665 وأصبحت قلعة خارجية للحراسة. ولهذه العراقة محطات للكثير من الحضارات التي مرت وتوالت عليها.

شاطئ المنستير (wikimedia)



مُوجّهات المكان

مثل هذه الولاية الصغيرة، قليلة السكان والاكتظاظ المروري والبشري، واسعة الجمال في بنيتها الشخصية، كونها منفردة في حضورها، لا تزاحمها ولاية أو مدينة أو بلدة في تكوين إطارها العام، ولا تتشكل إلا منها، فإن عددًا قليلًا من الموجهات المباشرة التي ترتبط بها، كمكان سياحي- تاريخي ذي خصال لافتة للأنظار:

أولًا: التاريخ

ربما كان القرن الرابع قبل الميلاد بداية تأسيس المكان، وحملت في العهد الفينيقي اسم (روسبينا) أما الاسم المونستيري فقد أطلق عليه في العهدين البيزنطي، ثم الروماني بعد سقوط قرطاج في 146 قبل الميلاد، أما الكنعانيون فقد أعطوا للمنستير أقدم أسمائها المعروفة، وهي روش بينا (رأس الزاوية) وهو ذاته الاسم الذي صار روسيينا في المصادر اللاتينية، وقد اختارها يوليوس قيصر في شتاء 47 قبل الميلاد معسكرا لجيوشه، قبل مواجهته الحاسمة في السنة الموالية لخصمه بومبيوس في موقعه تابسوس التي تبعد عن  المنستير نحو 45 كم جنوبًا.

أما الدّيْر فهو اسم المنستير ذو الجذور البيزنطية. كطابع روحي للمكان تواصلَ على مدار العقود الطويلة، حتى استقر بها جمعٌ من الصوفيين المسلمين مع حراسهم للتعبد واستقبال الطلاب والعلماء. وهذا ما جعل المدينة تتطور حول رباطها (رباط المنستير) الحصن الصغير الذي شُيّد في القرن الثامن، وتم توسيعه في وقت لاحق من قبل بايات تونس المتعاقبين، ثم السلاطين العثمانيين. فتطورت المدينة حول هذا الرباط لحماية المجتمع المنستيري آنذاك من الغزو الخارجي، بوصفه قلعة استثنائية وعينًا مراقِبة على الساحل، بمعماره البنائي من الأفنية والأبراج الدائرية والمربعة والجدران المغلقة، بعد أن كان حصنًا صغيرًا، لهذا كانت المنستير ذات مكانة دينية خاصة، ويرتبط تاريخها الإسلامي ارتباطًا وثيقًا ببناء الأربطة على وجه الخصوص، وهذا يعطي المكان جانبًا روحيًا يصل إلى البلاد الأفريقية الواسعة. وكان يُطلق عليها تسمية "أحد أبواب الجنة" وهي تسمية مبالغة واستعارة لكينونة المدينة الروحية والصوفية، انسحبت إلى الفترة العباسية، حتى أن والي الخليفة هارون الرشيد هرثمة بن أعين هو من أسس رباط المنستير الأكبر عام 796  ومن هذا الرباط نشأت مدينة المنستير وتطورت وتوسعت. حتى يقال إن نسبة التحضر الآن فيها هي 100%.

صورة للقلعة (من أرشيف المدينة) وصور للقلعة وضريح بورقيبة (بعدسة الكاتب) 



والقِدَم المونستيري بشواهد الحضور البشري القديم، يعود إلى نحو ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد، ويمكن ملاحظة أن هذا المكان ما يزال يحتفظ بجزيرة محاذية له، فيها بقايا كهوف منقورة على واجهاتها الصخرية، التي كانت تُستعمل كمدافن؛ وتعرف باسم "الحوانيت" وتعود إلى الألفية الثالثة ق. م. ما يدل على وجود مستوطنة بشرية سابقًا. بما يعني وجود عوامل داخلية لأن تتطور وتتحضر ضمن سياقها الزمني الماضي في أفريقيا. وبما أن تاريخ المكان شائك وطويل بتعاقب السلالات الحاكمة، ولسنا بصدد محاكاة التاريخ الطويل والبعيد والحضارات القديمة التي تناوبت عليها. يمكن لنا أن نشير إلى بعض الفقرات التي نستدل بها على أهمية المكان. ففي الفترة الزيرية (النصف الثاني من القرن الرابع) عرفت المنستير تطورًا معماريًا واضحًا. وقد شهدت عصرها الذهبي واستعادت كثيرًا من إشعاعها تحت الحكم الحفصي، مستفيدة من سياسة الحفصيين العمرانية، لتتحول إلى مدينة ذات ملامح كلاسيكية. وبعد القرن السادس للهجرة واصلت السلطة الحفصية العناية بها كمركز روحي مهم، وجددت أسوارها في أواسط القرن السابع، وأصلحت القصر الكبير في بداية القرن التاسع. وفي بداية القرن الخامس للهجرة أبرزت حفريات قصر السيدة أم ملال قواعد مسجد صغير مؤرخ بالقرن الثاني للهجرة. وهو ما يؤكد وجود تجمعات مسلمة بالموقع قليلة العدد. وإذ يتواصل النمو العمراني في العهد الحسيني، ليظهر الربض الجديد (حي الربط) وفي هذه الفترة يستكمل وطن المنستير ملامحه الإدارية ليشمل ولايتي المنستير والمهدية الحاليتين.



ثانيًا: رباط المنستير

في القرن الرابع للهجرة زار ابن حوقل المنستير، فاسترعت انتباهه عظمة رباطها. وهو واحدٌ من أمنع الحصون الدفاعية والحربية للمرابطين، بناه هرثمة بن أعين، في عهد الخليفة هارون الرشيد، وكان ذلك عام 796 للميلاد، بارتفاع برجه قرابة العشرين مترًا، ويُمكن مشاهدة كامل المدينة منه. وقد عُدّ بشكله من أقدم الرباطات الأفريقية. أما ما قبل الإسلام فقد عُثر على مدفن بيزنطي بموقع "سقانص" وكميات من الكسور الفخارية التي تؤرخ بما بين القرن الرابع والسادس للميلاد؛ إلا أن أهم المكتشفات تهم الجزيرة المحاذية لساحل المنستير، والتي تعرف حاليا باسم جزيرة الغدامسي؛ حيث كشفت الحفريات عن رباط إسلامي هو قصر ابن الجعد تحته طبقة استيطان قديمة تؤرخ بالقرن الرابع للميلاد، وفي جواره قبور لضحايا معركة تدل المؤشرات على أن طرفيها هما أواخر الفندال وجيوش القائد البيزنطي ببليسار الذي قاد عملية الإنزال الشهيرة لسنة 535 م منهيًا بها الوجود الوندالي.

صور من ميناء المارينا (بعدسة الكاتب) 



ثالثًا: ميناء مارينا

لا يبعد ميناء مارينا الصغير سوى 200 متر عن وسط المدينة، وهو المرسى الأقرب إلى إيطاليا ومالطا. ويُعد واحدًا من أجمل الأماكن البحرية المكتظة باليخوت والمراكب والقوارب والسفن الصغيرة، بواقع أكثر من 300 يخت وقارب من روسيا وأوكرانيا وكندا واليابان وأستراليا؛ مثلما تحيطه العديد من المنازل ذات اللونين الأزرق والأبيض، والمطاعم والكافتيريات. وقد حصل الميناء على أكثر من مرة على شهادة إيزو 1 كأول ميناء أفريقي يحصل على هذه الشهادة.

رابعًا: الجزر

1-   الغدامسي  

تقع جزيرة "سيدي الغدامسي" بالقرب من ميناء مارينا، وتستمد اسمها من ولي صالح يُدعى أبو الفضل الغدامسي، عاش خلال حكم الدولة المرابطية، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. وبها رباط مسمى باسمه ولم يبق منه إلا أساساته. والغريب أن صورة الجزيرة تشبه إلى حد كبير صورة خريطة فلسطين، وسمّاها بعض الناشطين (جزيرة فلسطين التونسية) وتليها مباشرة جزيرة الحَمام؛ لكنها منفصلة عنها، وسميت هكذا لكثرة الحمام الذي يعشعش فيها، كونها مهجورة.

2-   جزيرة الأرانب

هما جزيرتا قوريا الكبيرة وقوريا الصغيرة، وتسمى جزيرة الأرانب - لكثرة الأرانب البرية التي تعيش فيها- وهما خاليتان من السكان على مسافة كيلومترين من بعضهما البعض، وتتميز الكبيرة منهما بشكل بيضاوي، بطول أكثر من ثلاثة كيلومترات. وقد شهدت هاتان الجزيرتان أقدم حضور إنساني في الفترتين القرطاجنية والإسلامية، وعلى وجود طريق يربط بين طبلبة في ساحل منستير وحدود جزيرة قوريا، وفي العهد القرطاجي والروماني كانت تحتوي على برج للمراقبة، وتشكل منطقة دفاعية، وملاذًا للسفن التجارية، فيما لا تزال المحمية بكرًا حتى الوقت الراهن، ولم يتم التنقيب فيها حتى اليوم. وتحتوي الجزيرتان على مخزون بيولوجي هام بري وبحري حيواني ونباتي فيه العديد من الأنواع النادرة والمهددة. فهي تشكّل محطة للعديد من الطيور المائية المهاجرة والنادرة ذي الأهمية، كما أنها واحدة من المواقع الرئيسية لتعشيش السلاحف البحرية ضخمة الرأس في جنوب البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب ذلك يحتوي الجزء البحري لجزر قوريا، على مساحات شاسعة من معشبات البوزيدونيا المدرجة ضمن الأنواع المهددة بالانقراض.

إحالات وهوامش:

  • المرابط: الولي المتصوف. نسبة إلى المرابطة أي ملازمة المكان، وهي تسمية تستعمل في البلدان الإسلامية بشمال أفريقيا.
  • أبو الفضل العباس بن محمد الصواف الغدامسي: ولد سنة 253هـ بغدامس. وكان الرجل أميًّا في بداية حياته، لكنه تعلم أن يقرأ القرآن ويحفظه.
  • الزيريون: سلالة حاكمة يرجع نسبهم إلى قبيلة صنهاجة البربرية، وقال عنهم ابن خلدون بأنهم يمثلون ثلث البربر www.islamstory.com
  • أبو القاسم محمد بن حوقل: كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر عربي من القرن العاشر للميلاد. من أشهر أعماله "صورة الأرض" عام 977.
  • المملكة الوندالية: ظهرت بشمال أفريقيا بين عامي 429 و533 م وعاصمتها قرطاج.
  • أبو بكر عبد الله المالكي، رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وأفريقية وزهادهم ونساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم وأوصافهم، تحقيق البشير البكوش ومراجعة محمد العروسي، دار الغرب الإسلامي- 1983.
  • أحمد الباهي، سوسة والساحل في العهد الوسيط، مركز النشر الجامعي تونس- 2004.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.