}

اللاعبات بالعقول والعابثات بالجيوب.. في كتابة سير المهمشين والمهمشات

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 23 مايو 2022

فكرة التاريخ عند هيغل تفترض الترقي، أي السير إلى الأمام. لكن التاريخ لدى الديانات يبدأ، في الغالب، من نقطة محددة في الماضي، وكل ابتعاد عن هذه النقطة يُعدُّ نقصًا، وكل اقتراب منها يُعدُّ كمالًا.
وكان التاريخ، كعلم، يركز على الحكام والعائلات والمقاطعات، لكنه اليوم اتسع ليشمل أصحاب الحرف والفئات المهمشة بصنوفها المختلفة. ومن البدهي أن السِّيَر، بما هي مصدر من مصادر كتابة التاريخ، كانت دائمًا سِيَر المشاهير من الناس. ومع أن كثيرًا من الغانيات صِرن من المشاهير، إلا أن سِيَرهن لم تكتب بالتفصيل. واليوم ثمة ميل إلى كتابة سِيَر المهمشين والمهمشات؛ وبهذا المعنى يجري حفر المصادر المتاحة، وكشف المطمورات، واستكشاف المعلومات، عن هؤلاء، والكتابة عنهم ولو بطرائق سردية وصحافية غير معمقة. والمهمشون كُثُر، كالمجرمين، والمهربين، وبائعات اللذة، والعاملات في الملاهي والمراقص والخمارات، وعاملات المنازل الريفيات، والمطلقات الصغيرات الهاربات... وغير ذلك. وفي هذا الميدان، نتذكر أن المحامي موسى برنس نشر في عام 1949 "مذكرات فيكتور عواد"، وكتب الصحافي حاتم خوري قصة "المهرب الكبير: مذكرات سامي الخوري"، الذي اختفى في الأردن عام 1964، ولم يُعثر عليه قط.
قلما تعاطى المؤرخون العرب مع النساء المهمشات، إلا إذا كنّ من الجواري والمغنيات والغواني الجميلات الفاتنات. وتواريخ الجواري والمغنيات، على سبيل المثال، كُتبتْ لا بسبب قيمتهن الذاتية، بل لأنهن لُعب الرجال، وزينةٌ في ملاعب الذكور التي تصطخب فيها المزاهر والعيدان والحسان والريحان. ونكاد لا نعثر إلا على القليل من سِيَر الغانيات، فحتى المؤرخات تجنبن الغوص في هذا العالم الأنثوي الغامض والأثيري والمتلفع بالستائر الخافية والغلالات المثيرة. ومن نافل الكلام أن أشهر نساء العرب هنّ المغنيات، أمثال عُريب، ودنانير، ورباب، وعنان، والخيزران، وكذلك بائعات اللذة، أمثال حُبّى، وظُلمة الهذلية، اللتين يُضرب بهما المثل فيقال: "أشبق من حُبّى"، و"أقود من ظلمة". وفي عصرنا الحديث، نهض الغناء والرقص في مجالس اللهو على أجساد الفتيات المهمشات الهاربات من الأرياف إلى المدن، وبعض المغنيات وممثلات السينما كن من عائلات يهودية ومسيحية مهمشة، أو مهاجرة من أوطانها الأصلية. لنتذكر هنا أن المسرح السوري، والإذاعة السورية، لم يتمكنا في خمسينيات القرن العشرين من العثور على ممثلة تتقن اللهجة الشامية، فما كان من الدمشقي أنور البابا (شقيق الخطاط السوري حسني البابا، والد سعاد حسني، ونجاة الصغيرة) إلا أن تصدّى لهذه المهمة. وهكذا ظهرت الشخصية المدهشة "أم كامل"، المرأة القهرمانية التي أبدع أنور البابا، أيَّما إبداع، في تأديتها.



غانيات فاتنات وقهرمانات فاتكات






مؤخرًا أصدرت لينة كريدية كتابًا عنوانه "غانيات بيروت" (بيروت، دار النهضة العربية، 2022) يتحدث عن بعض نساء بيروت الجميلات؛ فالغانية هنا بمعنى المرأة الجميلة، وليس المرأة العابثة التي ينصرف الذهن إليها في العادة. ومع أن الكتاب يتضمن معلومات أولية وبسيطة عن بائعات اللذة، أمثال شملكان، وأنطوانيت، التي قتلها فيكتور عواد، إلا أنه يروي، في المقام الأول، حكايات عن نساء مجهولات وجميلات في آن. وفي زمن متقارب، أعادت دار الجديد نشر كتاب إسكندر رياشي "نسوان من لبنان" (تقديم الراحل لقمان سليم)، وهو كتاب جميل، لكنه لا يقدم أي معلومات جدية، أو معرفية، عن تلك الفئة من النساء اللاتي تقلبن في أحضان الأتراك والفرنسيين والإنكليز، باستثناء مدام دي كاركوف، زوجة أحد الدبلوماسيين الروس التي صارت عشيقة المفوض السامي الفرنسي الكونت دي مارتل. وكان قصر الصنوبر في بيروت (مقر المفوضية الفرنسية) مكانًا لغرامها المكشوف. واللافت أن معظم النساء اللاتي سُحرن ببوادي المشرق العربي، وبالرجال العرب، كنّ من الأوروبيات، أمثال مرغريت داندوران، وغيرترود بيل (الخاتون)، وآن بلنت، وأستير ستانهوب، وغيرهن، مع فارق جوهري هو أن أولئك النسوة لم يبلغن في الجمال الجسدي ما بلغت إليه وصيفات عصر النهضة الأوروبي، اللاتي ملأن الروايات الرومانسية بأخبارهن الغرامية، واللاتي ما كان يُضرب دونهن حجاب، ولا يوصد في وجههن باب. وقد أفاض إسكندر رياشي في وصف مخادع السياسيين، حيث تنكشف النفس وسلطانها والشهوة وشيطانها، لا في كتابه هذا "نسوان لبنان"، بل في كتابه "قبل وبعد" (دمشق، دار أطلس، 2006)، فيقول: "على نفوذ التراجمة وأمناء السر اللبنانيين (...) قامت دولة السكرتيرية في مطلع عهد الاحتلال الفرنسي. وأكثر هؤلاء السكرتيرين (...) أخذوا وظائفهم إما عن طريق نسيبة، أو شقيقة، أو زوجة حسناء (...). كنا نفتش عن اكتساب رضاهم [أي رضى الفرنسيين] بكل ما عندنا من طرق للإغراء. ولا أريد أن أقول إن كثيرات من حسان هذه البلاد كنّ في رأس أنواع ذلك الإغراء (...). ولكن، ما بالغ فيه أهالي هذه البلاد (...) هو أن العدد الأكبر من مئات الحسان كنّ يصلن إلى أسرّة الأسياد الحاكمين الأتراك، ومن بعدهم الفرنسين والإنكليز والأسترالية، عن طريق الحنان الوالدي والبركة الأبوية" (ص 35 و37). لنتذكر في هذا الميدان أيضًا الحسناء مي عريضة، التي بدأت حياتها العملية سكرتيرة للجنرال سبيرز، وصارت إحدى النساء اللامعات في عهد كميل شمعون.






لم أعثر في كتابَي لينة كريدية، وإسكندر رياشي، على ما يساعد في اكتشاف العوالم الخفية لبائعات اللذة، وفي الوقت نفسه لم أستسغ تصنيف كتابها على أنه رواية. وفن الكتابة عن الغانيات والقهرمانات قديم جدًا في الأدب العربي. ولا تمثل "ألف ليلة وليلة" إلا مصدرًا واحدًا بين مصادر شتى عن الأدب اللذّي. أما الأدب العالمي فقد عرف كتب الاعترافات والجرأة على الذات، وتعرية النفس، ابتداء من عصر التنوير فصاعدًا، وتفوّق في ذلك على الأدب المكشوف لدى الشعوب الصينية والهندية التي لم تتورع عن أن تكتب وترسم ببراعة جميع فنون الاستمتاع بالجسد البشري. واشتُهرت في هذا المجال رواية "لوليتا" لنابوكوف (1855)، ورواية "عشيق الليدي تشاترلي" للروائي دي إتش لورانس (1928)، ومسرحية "المومس الفاضلة" للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر (1946)، وحكاية "أوجيني جيو" الراهبة التي صارت بائعة لذة في القرن المنصرم، والتي صاغ حكايتها دانيال غروجنوفسكي، ونشرها في عام 2013، ورواية "ذاكرة غانياتي الحزينات" لغبريال غارسيا ماركيز (2004). وفي أي حال، فإن الكتابة عن بائعات اللذة تندرج في سياق العلوم الاجتماعية والدراسات النفسية، لا في حقل الكتابات الاستعرائية (مزج تركيبي من الاستعراض والعري). وقلما نعثر على دراسات باللغة العربية في هذا الميدان، لكن من الجدير بالذكر هنا كتاب "البغايا في مصر: دراسة تاريخية اجتماعية" لعماد هلال، و"مجتمع القاهرة السري" لعبدالوهاب بكر، وقصيدة "المومس العمياء" لبدر شاكر السياب (1945).



وبهذا المعنى، فإن "رواية" لينة كريدية، بحسب ما أرى، كتاب في بعض حكايات نساء بيروت لا أكثر ولا أقل، ويكاد لا يداني، على الإطلاق، ولو من باب المشابهة، أي رواية من هذا الصنف، مثل الكتابات الشبقية لغبريال غارسيا ماركيز، أو حتى هنري ميلر، أو ماريو فارغاس يوسا، خصوصًا في روايته "في امتداح زوجة الأب".



ماخور وكارخانة

افتتحت الإمبراطورية العثمانية أول بيت دعارة رسمي في عام 1884. بعد فترة وصل عددها في غالاطة/ إسطنبول إلى 100. وفي عام 1915 وصل العدد إلى 359


نالت كلمتا الماخور والكارخانة نصيبهما من النبذ، وحُمّلتا معانيَ مرذولة لا تستحقانها قط. فالماخور هو في الأصل "المكان الذي تُحتجز فيه الماشية"، أي أنه زريبة، أو حظيرة. ويختلف الماخور عن الزرائب والحظائر في أنه يُفرَد بعيدًا عن أماكن السكن، لتجنّب روائح الزبل. وفي ما بعد صار كل منزل يقع خارج نطاق الإقامة المعتادة، والمخصص للأغراض الشخصية، يثير الشبهات. وهكذا اكتسب الماخور المسكين صفات غير لائقة Bordello. وعلى منواله، باتت الكارخانة تعني المبغى، أو المحل العمومي، أو بيت الدعارة، وهي براء تمام البراءة من تلك النعوت كلها. فالكارخانة كلمة فارسية انتقلت إلى التركية، ثم العربية، وهي تعني مكان العمل: كار أي مهنة، أو صنعة، وخانة أي المكان، مثل شايخانة (مكان شرب الشاي)، أو كُتُبخانة (دار الكتب)، أو جَبَخانة (مكان الذخيرة)، أو الضَرْبخانة (دار سك النقود). لكن، بما أن النساء هنّ مَن كان يعمل في شيل الحرير، ولأن الشبان هم من كان ينقل شرانق الحرير إلى الكارخانات، فلا بد أن قصص الغرام تكاثرت وتشعبت، وتداول الناس أخبارها وتناقلوها. ولهذا اكتسبت الكارخانة تلك السمعة "السيئة". وكانت أماكن اللذة تنتشر، أكثر ما تنتشر، في المناطق المحيطة بالموانئ التي ينزل إليها البحارة، وفي الأحياء المجاورة لثكنات الجنود. والمعروف في بلاد الشام أن السلطان عبد الحميد الثاني أمر عام 1898 بتنظيم مهنة بائعات اللذة استنادًا إلى الفقه الحنفي الذي يتحدث عن ذلك في باب "درء الحد عن واطئ المستأجرة". ونصّت قوانين بني عثمان في هذا الشأن على عدم جواز تربية الأطفال في محل اللذة، أي أن النساء العاملات هناك ممنوع عليهن الحمل؛ وعلى منع دخول الشبان بالسلاح إلى السوق العمومية خشية أن يعمد أحد ما إلى قتل إحدى العاملات هناك، كأن يكون شقيقها، أو والدها؛ وعلى ضرورة ألا تكون الفتيات العاملات من بنات المدينة نفسها، بل من المناطق البعيدة تجنبًا لوقوع جرائم قتل؛ وعلى عدم تقديم الخمور في تلك الأماكن. وقد رضي أهالي بيروت بقانون البغاء الذي صدر في عهد الاستعمار الفرنسي (1931)، وبإقامة مبغى في شارع المتنبي، كي يجنّبوا بناتهم تحرشات الجنود الفرنسيين والسنغاليين والأستراليين. والواضح أن الفرنسيين أهانوا الشاعر العربي الكبير المتنبي، ولم يعترض أهالي بيروت على تلك الإهانة. وحري بنا، في هذا السياق، التذكير بأن مدينة بيروت التي سمحت بإهانة المتنبي لم يظهر من بين أبنائها أي شاعر على الإطلاق، لا من طراز المتنبي، ولا من أي طراز، على الرغم من أنها شهدت شيوع الحداثة الشعرية العربية في أرجائها في ذروة ازدهارها العمراني والثقافي، أي في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين فصاعدًا. وفي دمشق كان هناك مكان يدعى "خان الهوى" تجتمع فيه بائعات اللذة، وتحول في ما بعد إلى المدرسة المرادية الكبرى.




كانت بيروت، مثلها مثل باقي المدن العربية، كدمشق وحلب وبغداد والقاهرة وتونس، تحتضن منذ القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ أواخر عصر الدولة العثمانية، أماكن اللذة، أو بيوت التلاقي (ملاقاة خانة)، التي كان معظم زبائنها من البحارة الغرباء، ومن الوافدين إليها من أثرياء الأرياف. لكن، مع إقامة السوق العمومية في عهد الانتداب الفرنسي، راح الشبان البيارتة يترددون على السوق للفرجة والمشاهدة والتلصص. وأُطلق عليهم آنذاك لقب "الحييكة"، أي الذين يذهبون ويعودون مرارًا مثل مكوك الحايك. وكانت الباترونة (يسمونها العايقة في مصر) تسأل أولئك الشبان حين يدلفون إلى المكان: "هل أنتم حييكة فقط أم ...". وقد ضم شارع المتنبي في أوائل ستينيات القرن المنصرم نحو 207 نساء عاملات في مهنة بيع اللذة (راجع: سمير خلف، حياة المومس المهنية والاقتصادية والاجتماعية، بيروت: مجلة "حوار"، العددان 11 و 12، سبتمبر/ أيلول، وأكتوبر/ تشرين الأول 1964). واشتُهرت من بين أولئك النسوة أنطوانيت، التي قتلها فيكتور عوّاد، وشملكان التي كان يتقاطر عليها الشبان لمشاهدتها وهي تؤدي "رقصة النحلة" التي كانت تؤديها في مصر الراقصة كوتشوك. وعلى طول شارع المتنبي، كان في الإمكان مشاهدة اللافتات التي تحمل أسماء النساء، مثل سُكينة الشامية، وماري الزحلاوية، وزينب الحلبية، وجواهر البيروتية؛ وهذه الأسماء ولواحقها غير صحيحة على الأعم الأغلب. على أن أشهر هؤلاء جميعًا كانت عفاف (بدر الداهوك)، التي قُبض عليها في مارس/ آذار 1959 بفضيحة مجلجلة ذات أجراس، بينما كانت تدير، على غرار مدام كلود الفرنسية، فتيات من عائلات معروفة وثرية، وكان من زبائنها سياسيون مشهورون، الأمر الذي دعا كمال جنبلاط إلى التشنيع على الحكومة اللبنانية عام 1961 بالقول: "الحكومة كلها عفاف". ومن حوادث ذلك الزمان أن السياسي اللبناني حبيب أبي شهلا كان يسهر في أحد المواخير حين اعتقل الفرنسيون بشارة الخوري، ورياض الصلح، فنجا من الاعتقال، وصار أحد أبطال الاستقلال اللبناني. وقد توفي حبيب أبي شهلا عام 1957 في شقة إحدى المومسات، فيما قُتلت عفاف في عام 1970.
الأكثر شهرة بين هؤلاء العاملات المهمشات كانت ماريكا سبيريدون، واسمها الأصلي فيكتوريا، وهي يونانية جاءت إلى لبنان في عام 1912، وتمكنت بجمالها وفتنتها وذكائها من امتلاك شقة في شارع المتنبي، وصارت مقصدًا للرجال الأثرياء، ولهلوبة الليل في بيروت العابثة واللاهية. وفي عام 1972، تركت ماريكا مهنة بيع اللذة، وغادرت شارع المتبني، وسكنت في منطقة فرن الشباك، بالقرب من سينما سكالا، التي اندثرت في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وقد توفيت ماريكا في 24/ 9/ 1999، وصلّى على جثمانها الأب عصام جرداق، والأب ناجي شيبان، في كنيسة القديس أنطونيوس الكبير للروم الأرثوذكس في فرن الشباك من دون أي رثاء. وكانت ماريكا سخية، وتتبرع بسخاء إلى الكنيسة، وإلى مؤسسات خيرية أرثوذكسية.



"القُبح حارس المرأة"
كان لبنان في بدايات ازدهاره يشبه إلى حد بعيد ماريكا في ذروة جمالها: الشهرة والجمال واللذة والمال. وكان روّاد شارع المتنبي يرفلون بالثياب المفروزة، والقمصان المطروزة، فيما كل واحدة من نزيلاته لا تتناهى في زهوها، ولا تنتهي عن لهوها، ولا سيما أن العيش في بعض نواحي بيروت كان مثل الورد المنضود، والدن المفصود، بين ناي وعود. لكن الحال لم تدم طويلًا؛ فقد ركدت في شارع المتنبي ريحُه وخَبَتْ مصابيحُه؛ فمع الانفتاح الكبير الذي غمر لبنان في أواخر خمسينيات القرن العشرين وستينياته، ومع اندفاع النساء إلى إقامة علاقات مباشرة مع الرجال، وانتشار أفكار اليسار الجديد والحرية الجنسية، تراجعت، إلى حد ما، الدوافع التي كانت تجعل المراهقين والكهول يترددون على بيوت اللذة. ولذلك راحت نساء شارع المتبني يرددن في تلك الفترة بامتعاض: "الكارخانة برّا مش جُوّا"، أي أنها في أحياء المدينة، وليست في هذا الشارع وحده. ولأن مهنة بيع اللذة مهنة مرذولة، ومَن تمتهنها تهين نفسها، وتُلصق باسمها صفات شتى، مثل الشلِكّة (وهي صفة لحلوى القطايف العصافيري أيضًا باعتبارها مثل بائعة الهوى: حلوة ولذيذة وسهلة)، وتُنعت بألفاظ من عيار الفاسقة والآثمة والقحبة.. إلخ. ثم إنها تفقد ليس الاحترام الاجتماعي فحسب، بل حريتها أيضًا، لأنها لا تستطيع زيارة قريتها مثلًا، حيث تتذكر ملاعب الطفولة وعائلتها التي قطعت العلاقة بها على الأرجح. وفي هذا الواقع المرّ، لا يبقى لبائعة اللذة غير مشاعر الحزن والضغينة وكراهية المجتمع الذي دفعها إلى تلك الحال. فبائعات اللذة يكرهن، أكثر من أي أمر آخر، المضاجعة والسكارى وحرارة الصيف في بيروت ولزوجة الأجساد المتعرقة. والجسد لدى هؤلاء مصدر رزق فحسب، وليس مصدر متعة؛ فالواحدة منهن تفني جسدها كي تعيش، تمامًا مثل أي عامل يبيع قوة عمله التي لا يملك غيرها، ويفني جسده في العمل المأجور المرهق كي يؤمن قوت يومه.




بل إن الواحدة من بائعات اللذة تكاد تطابق العضروط. والعضروط (يجمع على عضاريط) هو الذي لا يملك غير قوة زنديه، والذي يعمل عند رب العمل بطعام بطنه، أي أنه في أدنى سُلّم المجتمع (بروليتاريا رثة). وثمة مثل فلاحي يقول: "طعميني وافلح عليّ". ولا مناص من الاستنتاج، في هذا الميدان الاجتماعي، أن أولئك المسكينات لم تحظَ أي واحدة منهن، قبل أن تُرغم على التحول إلى بائعة لذة، بأي حماية عائلية، أو بأي طمأنينة عاطفية. فإذا كان المثل العربي التاعس والبائس يقول إن "القُبح حارس المرأة"، فإن أولئك المظلومات امتلكن، بلا شك، قدرًا من الجمال الأنثوي، وهو ما بات الرأسمال الوحيد لديهن كي تستمر الواحدة منهن في العيش البيولوجي. ولا ريب أن بائعات اللذة امتلكن خصالًا إيجابية شتى، كإبداء عواطف الأمومة، والإحسان والتبرع للمؤسسات الخيرية، والامتناع عن استغلال المراهقين واستقبالهم، والتفكير في الرهبنة والخلاص الروحي (راجع: سمير خلف، مصدر سبق ذكره)؛ وللمفارقة، فقد أقامت بعض نزيلات شارع المتنبي مولدًا في الشارع في إحدى المناسبات، وجئن بمقرئين عميان لإحياء المولد. وقصارى القول في هذا الحقل الشائك إن ثلاثة أنواع من الرجال لا يفهمون المرأة: الشبان والكهول والشيوخ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.