}

النضال النسوي والتغيير المجتمعي والسياسي

رشا عمران رشا عمران 5 مايو 2022
اجتماع النضال النسوي والتغيير المجتمعي والسياسي
مسيرة للنساء في واشنطن عام 1970

ما من مجال للشك في أن الحركات النسوية في العصر الحديث هي السبب الرئيس وراء وصول النساء حول العالم إلى الوقت الذي لا يساومن فيه على حقوقهن المدنية والسياسية والاجتماعية، فلولا النضال الطويل للنساء ودأبهن المتواصل في السعي لتحصيل ما يمكنهن من الحقوق لبقيت المرأة تعاني من التمييز والتهميش في كل المجتمعات، ذلك أنه منذ أن تم استبدال المجتمع الأمومي بالأبوية استقرت السلطة الذكورية كسلطة مطلقة قمعية ووصائية وإقصائية، ولم تكتف ببسط سلطتها السياسية والاقتصادية بل كان الأهم لها هو السيطرة المجتمعية التي ترافقت مع ظهور الديانات التوحيدية التي تتحدث عن الإله الواحد بوصفه (ذكرًا) بعد أن تم اختزال كل الآلهة ذكورًا وإناثًا به، بحيث يحمل هو وحده كل الصفات والخصائص التي حملتها الآلهة مجتمعة، وسرعان ما انتقلت هذه الصفات لتحل في شخص الملك أو الإمبراطور أو النبي أو الكاردينال/ البابا، أو الخليفة ثم الزعيم القبلي أو السياسي أو العسكري ليتحول المجتمع كله إلى مجتمع أبوي ذكوري، ويصبح الذكر في رأس هرم المجتمع لا يتنافس في هذه الهرمية مع أحد: سلطة أحادية مطلقة لا شريك  لها وتتشبه بالسلطة الربوبية، ولولا النضال النسوي لكانت اكتسبت نفس الحصانة والقداسة الإلهية. 

استطاع النضال النسوي في الغرب أن يفرض على الحكومات سن قوانين تنهي عقودًا طويلة من التمييز ضد المرأة، ساعدت على ذلك أنظمة ودساتير علمانية كانت قد نحّت دور الكنيسة ورجال الدين وتدخلهم في السياسة والمجتمع من زمن طويل، لكنها حافظت على الامتيازات الذكورية في المجتمع وظل التمييز ضد المرأة قائمًا حتى النصف الأول من القرن الماضي حين سمح للنساء لأول مرة بالتصويت عام 1950، لكن لم يتم السماح لهن بالترشح إلى الانتخابات حتى عام 1963، بعد سنوات طويلة من النضال النسوي، الذي أثمر لاحقًا عن إلغاء التمييز في الأجور والمرتبات ثم فرض القوانين المتعلقة بالطلاق والأمومة والحضانة، ثم الحق في الإجهاض والأمومة خارج مؤسسة الزواج، إلى الحق في العبور الجنسي والزواج المثلي وإلى آخر الحقوق التي حصلت عليها النساء بفضل جهود جبارة ثقافية وفكرية وحقوقية قامت بها الحركة النسوية في الغرب، الحركة التي وضعت هدف (المساواة) كخطوة أساسية نحو طريق طويل ووعر وشاق.

مسيرة لنساء في تونس عام 1960  

غير أن الحركة النسوية في العالم جاءت كنتيجة طبيعية لاستقرار المجتمعات بعد قرون من الثورات الاجتماعية والسياسية التي تلت عصر الأنوار دفع خلالها الغرب ملايين الضحايا في سبيل الوصول إلى الشكل النهائي الذي استقرت عليه تلك المجتمعات، وكان التمييز ضد المرأة سوف يكون بمثابة النقطة السوداء في تاريخ أوروبا والغرب، وهو ما فهمته المفكرات النسويات جيدا، واستثمرته الحركة النسوية بذكاء شديد لصالح نضالها، بمعنى آخر ظهرت الحركات النسوية ضمن ظروف اجتماعية وسياسية ساعدت في توسع قاعدتها وانتقالها وتطورها على المستوى الفكري التنظيري وعلى المستوى الشعبي التطبيقي، ورغم كل ما سبق واجهت النسويات الكثير من العوائق والعراقيل خصوصًا حين كان الأمر يتعلق بسن قوانين جديدة تكفل حقوق للمرأة مساوية للرجل، إذ كان يصعب على المشرعين (سياسيين وحقوقيين) التسليم بسهولة والتخلي عن كل الامتيازات السلطوية المجتمعية التي تمتع بها الرجل منذ انتهاء العصر الأمومي، وهذا أيضًا ساهم في الموافقة على إقرار الحريات الفردية واعتبارها حقًا من الحقوق المصانة بما فيها الحريات الجنسية والجندرية؛ وفي تقديري أن الجرأة في الإفصاح عن المثلية الجنسية وإقرار حقوق المثليين ما كان ليحدث لو بقيت المجتمعات الغربية محكومة بالسلطة الأبوية الذكورية، خصوصًا المثلية بين الذكور والتي تتنافى تمامًا مع قيم المجتمع الأبوي.

حين أقرأ عن الحركات النسوية الغربية وأتأمل نتائج النضالات النسوية الطويلة أفكر بحال النساء في بلادنا، وبحال الحركات النسوية العربية التي تصطدم في كل لحظة ليس فقط بقوانين وسلطة ذكورية مجتمعية، بل برفض مجتمعي تنخرط فيه عدد مهول من نساء يمارسن كل أنواع العنف والصد ضد حقوقهن وضد من يطالب بها من بنات جنسهن؛ ذلك أننا نعيش في مجتمعات لديها سلسلة طويلة من القضايا الكبيرة التي يلزمها تغيير جذري كي تبدأ بالتفكك، أولها قضية الهوية، فوجود الدولة الاستبدادية القمعية استطاع القضاء على الهوية الوطنية الجامعة وعلى المواطنة التي تفرض مساواة بين مكونات المجتمع، لصالح هويات ما قبل الوطنية وهي هويات مفتتة للمجتمع لكنها تجمع أصحابها في مجموعات عصبوية وتفرض شروطها وقيمها وتتبنى فيها النساء خطاب العصبة الذكوري بذريعة الإيمان وتعاليم الدين والشريعة والفروض وما إلى ذلك، بحيث يصبح الخروج عن تلك القيم ومناهضة الخطاب هرطقة أو كفرا أو خيانة، هكذا سيصبح نضال النسويات مروقا وزندقة كون الخطاب النسوي يتعارض مع التعاليم الدينية التي تشكل الهوية الأولى لمجموعات بشرية مختلفة. أما القضية الثانية المهمة فهي التردي الاقتصادي العام والفردي الناتج عن السياسات الفاشلة لدول وأنظمة فاسدة ومستبدة والذي يجعل من ارتباط المرأة بالذكر وسلطته هو ارتباط بالحامي والمعيل من حيث أن الأمان الاقتصادي هو أول الخطوات نحو الأمان النفسي، خصوصا في ظل قوانين أسروية مستمدة من شريعة ذكورية بالكامل وتعتبر المرأة تابعة للرجل في تطبيق حرفي للنص الديني، ما يجعل من فك هذا الارتباط أمرا بالغ الصعوبة ستقف الحركة النسوية عاجزة أمامه.

وتأتي قضية ثالثة لا تقل أهمية عن سابقتيها، وهي قضية الحقوق العامة للجميع رجالا ونساء، الحقوق التي تهدرها أنظمة الاستبداد بالكامل: حق التعليم وفرص العمل وحق الطبابة وحق التعبير وحق المعتقد وحق الحياة الكريمة والضمان الاجتماعي وضمان الشيخوخة، كلها حقوق سوف تبدو حقوق المرأة جزءا منها ولا يمكن  فصل النضال النسوي عن النضال لتحصيل تلك الحقوق العامة، ولا يمكن، بطبيعة الحال، الحديث عن مسار منفصل لقضية حقوق المرأة بمعزل عن قضية الحقوق العامة، ليس لأن تلك الحقوق أكثر أهمية، بل لأن نيلها يوفر بيئة مناسبة للنضال النسوي، ذلك أن المجتمعات التي لا تحترم حقوق مواطنيها هي مجتمعات فاشلة ومريضة وكارهة لأي اختلاف وطاردة له، لهذا لا يمكن فصل مسار النضال النسوي عن النضال العام الهادف إلى التغيير المجتمعي والسياسي. تبقى القضية الأخيرة، وفي رأيي هي إحدى الإشكالات المهمة التي تعاني منها الحركة النسوية العربية، والمتمثلة بنقل الخطاب النسوي الغربي وعدم وجود مفكرات نسويات عربيات فاعلات ومؤثرات، وهذا مرتبط أساسًا بتهميش المرأة العربية قرونًا طويلة بسبب سيطرة الاستبداد الديني على الحياة والمجتمع وتحالفه مع الاستبداد السياسي، ما أبقى مجتمعاتنا في حالة عطالة فكرية وثقافية كان يمكن للربيع العربي أن يكون بداية النجاة منها، لولا أن حدث ما حدث.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.