}

كما لو أنني أعبر نحو زمن آخر

رشا عمران رشا عمران 26 فبراير 2024
يوميات كما لو أنني أعبر نحو زمن آخر
(Getty)


ذات يوم كتبت أن مخزوني الثقافي والمعرفي يعود في مجمله إلى مرحلة محددة من حياتي تمتد منذ نهايات سبعينيات القرن الماضي وحتى بدايات القرن الحالي، حيث قرأت في تلك المرحلة كنوزًا من الأدب العالمي والعربي، وقرأت كتبًا في السياسة والفلسفة وعلم النفس والنقد الأدبي والفني. وقتها كانت قدرتي على القراءة مذهلة، ليست قدرتي فقط بل رغبتي أيضًا، أو بالأصح شغفي بالكتب بكل أنواعها وأحجامها كان استثنائيًا، شغفي باللغة وبكل ما له علاقة بالكتابة، إلى حد أنني فرضت على إخوتي أن تكون جدران غرفتنا مغطاة بأوراق جرائد ومجلات نشرت فيها قصائد أو مقالات مهمة أو لوحات تشكيلية مرفقة مع نصوص لفنانين عرب امتهنوا الرسم والكتابة معًا. بدلًا من أن تكون جدران الغرفة مغطاة بصور ممثلين أو مطربين عرب وأجانب كما هي عليه غرف المراهقين عادة. أتذكر حين فرضت علينا والدتي (بعد أن بدأت أوراق الجرائد تتعفن على الجدران بسبب رطوبة أتت من مكان ما) أن نطلي الغرفة بطلاء أبيض ونزيل كل أثر لكنوزي المعلقة، أتذكر اليوم دموعي الصامتة وأنا أفعل ذلك، كنت، حرفيًا، كمن فقدت كنزًا ثمينًا، أو كمن فقدت هويتها، تلك الجدران بما عليها كانت هوية خاصة بي، تدل على ملامح شخصية شكلتها اللغة والحبر والورق وأعداد كبيرة من الكتب، وشكلها كتاب ومبدعون ومترجمون كبار، ما زلت أشعر بامتنان كبير لهم أنهم أتاحوا لي معرفة العالم وفهم ظواهر الحياة وتفاصيلها خارج محيطي الصغير من خلال ما كتبوه وترجموه ووصل لي في زمن ما في مكان ما كانت الكتب فيه هي الطريقة الوحيدة لمعرفة ثقافات أخرى وعوالم مغايرة مجهولة وغامضة، بكل ما يحمله المجهول والغامض من سحر وغواية تتبعها فتاة صغيرة تتوق للخروج من نفس الباب الذي خرجت منه أليس ذات يوم. ذلك الباب كان هو القراءة.
"وباستثناء القراءة ما كان لي من مهرب آخر أستطيع اللجوء إليه"- أتذكر هذه الجملة للكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي حين أستعيد تلك الأوقات التي كنت أقرأ فيها كتبه: الأخوة كارامازوف، الجريمة والعقاب، المراهق، أو كتب مواطنه تولستوي: آنا كارنينا، الحرب والسلام، الطفولة والمراهقة والشباب، البعث، بترجمة سامي الدروبي أو صياح الجهيم، وأستعيد حجم تلك الأعمال العظيمة، كانت كلها مجلدات ضخمة بأجزاء عديدة، كنت حين أبدأ بقراءة رواية منها أنهيها كاملة دون أن أتجاوز سطرًا واحدًا منها؛ كانت تلك عادتي بالقراءة: أن أبدأ بعمل ما ولا أتركه حتى أنهيه كاملًا، مهما كان حجمه أو عدد أجزائه، كانت الكتب في ذلك الوقت هي مصدري الأساس للإجابات عن أسئلة متعددة وكثيرة تشغلني، لم تكن عائلتي معنية كثيرًا بالإجابات عنها، رغم أنني ابنة عائلة أدبية، لكن كما لو أن عائلتي تركت لي خيار اختيار الإجابات التي تناسبني عبر تسهيل السبل لي لقراءة ما أحب وما أرغب دون تدخل منها، دون توجيه لما يجب علي قراءته، ودون منعي عن أي كتاب. هكذا، كلما ازدادت أسئلتي الوجودية، إن صح التعبير، ازداد نهمي للقراءة، كانت الكتب هي "ملجأي الوحيد" الذي منه أستمد ماء يبلل الفراغ الذي تصحره في روحي أسئلة لم تجب عليها العائلة ولا المدرسة ولا أصدقاء تلك المرحلة. وحدها القراءة من فعلت ذلك، القراءة المتواصلة والدؤوبة والمتنوعة؛ وحدها قدمت لي أجوبة عن الله والجسد والخير والشر والأخلاق والوطن والحرية والجمال والقبح والشجاعة والجبن والنبل والخسة والظلم والعدل والأمان والهواجس والخوف والسلام؛ وحدها من وضع الثنائيات المتضادة أمامي وجعلني أختار، وحدها من كشف لي كيف تختزن دواخلنا كل المتناقضات، كيف تتسع أرواحنا للكون بكل غموضه وبكل مجاهله المخيفة.
"لا تقينا الكتب من مصيرنا المشترك الذي يدعى القبر، لكنها تعطي لنا آلاف الاحتمالات للتغيير"- ألبرتو مانغويل.
لم تجب الكتب والكتابة أحدًا عن السؤال الأهم في التاريخ البشري، أقصد به سؤال الموت، لكنها حتمًا استطاعت جعل المتعلقين بها يدركون أهمية الحياة وأهمية الاستمتاع بها واستثمارها حتى اللحظة الأخيرة بكل ما يغني الروح البشرية ويجعلها أكثر تصالحًا وقبولًا مع العدم مثل تصالحها مع الوجود. لم تجعلني القراءة أؤمن بالغيب، على العكس ربما، حولتني إلى امرأة حسية تتيقن مما تراه فقط ومما تشعره بحواسها الخمس، ودربتني على استخدام حاستي السادسة في فهمي المبدئي لما هو بين يدي، دربتني على الحدس، لا بوصفه غيبًا، بل بوصفه واحدًا من احتمالات المعرفة وواحدًا من نتائجها، حتى لو كان احتمالًا فيه بعض الالتباس، ذلك أن الحدس هو حصيلة تزاوج بين المعرفة والخيال، بكل يقينية المعرفة وبكل أسطورية الخيال. الخيال الذي كان في تلك الفترة لا يوجد بالنسبة لي إلا في الكتب، حيث لكل شخصية أقرأها صفة مني، أو هكذا كنت أظن، قبل أن أدرك أنني كنت أجد في كل شخصية صفة ما أنسبها لي حتى تحولت أنا نفسي إلى شخصية استمدت صفاتها من شخصيات الكتب التي قرأتها؛ أو بالأحرى، لقد ساعدتني قراءاتي الدؤوبة على الانغماس في تجارب الحياة دون خوف من المعايير المجتمعية، ذلك أن القراءة هي فعل انزياح عن كل المعايير الموضوعة لصالح رحابة التجربة واحتمالاتها التي لا تحصى، تشكلت شخصيتي من مزيج القراءة وتجارب الحياة، أو، بمعنى آخر، هي حصيلة تجاربي وتجارب الآخرين الذين قرأتهم كلهم. "لو لم نصل للمعنى العام فلا ضرورة لكتاباتنا"، كما يقول نجيب محفوظ، المعنى العام كما أراه أنا هو تحويل التجربة الشخصية إلى تجربة إنسانية عامة بواسطة اللغة؛ هكذا تصل الكتابة إلى المعنى الذي يشمل الجميع ويؤثر في تكوين حياتهم وصفاتهم الشخصية.

أفكر اليوم بالسبب الذي جعلني لم أعد متحمسة لقراءة الكتب ذات الأجزاء العديدة أو الصفحات الكثيرة، أفكر أيضًا بالسبب الذي يجعل شغفي بالقراءة عمومًا يكاد يختفي، وبالسبب الذي يجعلني أترك الكتاب الذي بين يدي إن لم أستطع إكمال قراءة الصفحات العشر الأولى، أو أواصل القراءة دون أن أطوي صفحة من الكتاب وأنهض أو أفتح هاتفي المحمول وأتصفح مواقع التواصل الاجتماعي! هل التقدم في السن هو ما يفعل بنا ذلك؟ سألت أصدقاء ما زالوا شبانًا وشابات قالوا إنهم مثلي ليسوا قادرين على قراءة الكتب كبيرة الحجم، هم، عمومًا، أقل شغفًا بالقراءة بكثير مما كنته وأنا في سنهم، ليسوا قادرين على قرادة الكتب الورقية عمومًا، إن قرأوا شيئًا، فسوف يكون من المكتبات الرقمية، وهذا مثلًا، أمر لم أستطع التعود عليه حتى اللحظة رغم أنني فقدت مهارة الكتابة بالقلم على ورقة بيضاء لصالح الشاشة وأزرارها، أليست هذه مفارقة مدهشة؟ حتى حين أقرأ الآن أي كتاب فسوف يكون لدي موقف مسبق منه حسب حجمه، يمكنني قراءة كتاب قليل الصفحات في يوم واحد، وربما أقرأ أكثر من كتاب في نفس اليوم. حين أتساءل بيني وبين نفسي عن السبب أفكر أن قدرتي على احتمال الجمل الطويلة والإسهاب في الشرح أو في وصف التفاصيل والأحداث باتت ضعيفة لصالح تقديم معلومة رشيقة بأقل الكلمات الممكنة، وبلغة خالية من الرطانة والحذلقة والتقعر وحتى الشاعرية الوصفية في الرواية مثلا.
ثورة الاتصالات ووسائل التواصل وحاليًا الذكاء الصناعي، وكل هذا التقدم التقني المذهل، جعل إيقاع الحياة سريعًا وخاطفًا يشبه لمحة أو تغريدة علي موقع تويتر، مختصرة وحاسمة لكنها تقدم معلومة كاملة، لكن البعض يقول إن على الكتابة الأدبية أن تكون شيئًا مختلفًا، أن تقدم ما لا تستطعه التكنولوجيا ووسائطها؛ اللغة هي روح كاتبها، هذا الاختصار يقلل وهج الروح ووهج اللغة، ربما هذا كلام دقيق لكن ماذا نفعل بعد أن أصبحنا جميعًا، تقريبًا، مدمنين على وسائل ووسائط التكنولوجيا التي تقدم لنا ما لم يكن يخطر في بالنا من المعلومات العامة وتعطينا تفاصيل مذهلة عن الثقافات الأخرى بوقت قياسي ونحن ممسكين بهواتفنا المحمولة الذكية، وتجيب على أي سؤال أو استفسار خلال دقائق قليلة، كنا سابقا نقرأ كتابًا كاملًا كي نعرف إجابة نفس السؤال.
لنعترف أن دور الكتابة الآن بات مختلفًا، عني أنا، بت أبحث في أي كتاب أقرأه عن المتعة لا عن المعلومة، المتعة بالنسبة لي يلزمها أسلوب سلس ولغة خفيفة مخففة، يلزمها أيضًا مواضيع جديدة، وأفكار متجاوزة، خصوصًا في الرواية؛ لم تعد تغريني الرواية الطويلة التي تحوي سردًا تاريخيًا أو بحثًا في علم النفس والنوازع البشرية، لم تعد تغريني قراءة رواية عن أحداثنا الوطنية، فأنا أتابع ذلك يوميًا على الفضائيات وعلى اليوتيوب وفي التقارير الإخبارية والمقالات الصحافية، لم تعد تجذبني المطولات ولا أرى فيها قيمة تميزها عن الكتاب قليل الصفحات. بت أكثر ميلًا للاختصار والومضة والمعلومة النادرة والخفة المكثفة واللغة الرشيقة والأسلوب السهل الممتنع حتى في الكتابة المختصة وليس فقط في كتب الأدب. هل كبرت كثيرًا في السن أم أنني أعيش راهني وأتطبع به؟ ليست لدي إجابة حاسمة على سؤال كهذا، لكنني أظن أنني أعيش في الزمنين معًا وربما أعبر نحو زمن سوف يلتغي فيه دور الكاتب أو المترجم نهائيًا لصالح كتاب ومترجمي الذكاء الصناعي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.