}

حبة السيبراليكس اللعينة

رشا عمران رشا عمران 3 أبريل 2024
يوميات حبة السيبراليكس اللعينة
(أمبا كولتمان)
انقطعت مدة طويلة جدًا عن كتابة الشعر، مدة استمرت سنوات عدة لم أستطع خلالها كتابة حرف واحد في الشعر، في البداية ظننت أن الأمر يعود لفرط ما أكتبه من مقالات ويوميات ونصوص صحافية، ظننت أن هذا النوع من الكتابة يسحب الشحنات الشعورية اللازمة لكتابة الشعر، قلت لنفسي: هذه ضريبة العيش، لن أتمكن من التخلي عن الكتابة في الصحافة لأجل عيون الشعر، فالشعر لن يطعمني ولن يدفع أجرة منزلي ولن يسدد فواتيري ولن يشتري لي أدويتي اليومية ولن أستطيع أن أقايض به فواتير الأطباء. لن يقيني الشعر من الذل والاحتياج كما تفعل الكتابة للصحافة ولو في الحد الأدنى من ذلك، أي الحد الذي يجعلني أعيش دون دلال أو بحبوحة، لكنه، على الأقل، يحميني من احتياج المساعدة من أحد. كنت على وشك أن أعلن أنني أصبحت عاجزة عن كتابة الشعر وأقدم مبررات لا معنى لها لاعتزالي، مبررات يقدمها الشعراء عادة حين يصابون بحبسة الكتابة الطويلة، لولا أنني اكتشفت أن الأمر لا علاقة له بكثرة كتابتي للمقالات الصحافية، ذلك أنني تابعت سير الشعراء الذين عملوا طويلًا في الصحافة وكتبوا خلال مسيرة حياتهم آلاف المقالات الصحافية ومقالات الرأي ولم يوقفهم ذلك عن كتابة الشعر. الأمر إذًا يتعلق بي شخصيًا، فقد تكون موهبتي قد نضبت أو شاخت مع تقدمي في السن، وقد يكون هناك ما جعل خيالي الشعري يحجم عن التدفق، وقد يكون هناك ما يمنع لغتي الشعرية من التطور ويحدّ من قدرتي على صوغ علاقات لغوية جديدة يمكنني معها أن أقدم نصًا جديدًا ولو بأفكار مكررة. باختصار كنت قد وصلت إلى مرحلة الاقتناع أنني لم أعد أصلح لكتابة الشعر وأن لقب شاعرة بات كثيرًا عليّ ولا أستحقه هذه الأيام. كنت عازمة على كتابة ذلك على صفحتي على الفيسبوك لولا أحد الأصدقاء الذي استطاع تشخيص حالتي بدقة.

صديقي هو واحد من أهم الأخصائيين النفسيين في مصر، وهو في الوقت نفسه كاتب ومترجم ويعمل في الدراما المصرية، أي هو مبدع إضافة إلى تخصصه الأساس في الطب النفسي، كنت أتحدث معه عن حالتي مع الشعر وكيف توقفت منذ عام 2018 عن الكتابة الشعرية إلا في حالات نادرة أنا لست راضية عنها أصلًا. سألني صديقي: متى أصدرت آخر كتاب؟ قلت له في 2018. قال أي بعد العملية الجراحية الكبيرة التي أجريتها للقلب والشرايين في 2016؟ قلت نعم، بعد العملية كتبت نصوصًا عديدة أضفتها لما كنت قد كتبته قبل العملية بسنة وأصدرتها في مجموعة شعرية كبيرة نسبيًا؛ قال لي: أنت بدأت بتناول أقراص (السيبراليكس) في بداية 2018، أليس هذا صحيحًا؟ نعم، قلت له. (السيبراليكس هو دواء مضاد للاكتئاب والقلق يوصف بكثرة في أيامنا هذه، ويوصف تحديدًا لمرضى القلب والشرايين ممن اضطروا لإجراء عمليات جراحية مثلي لمنعهم من التوتر والحزن الذي يساعد على تصلب الشرايين من جديد، وأنا كنت قد رفضت تناوله مباشرة بعد العملية بناء على تعليمات الطبيب المعالج، لكنني بعد مضي سنة اكتشفت أنني غير قادرة على السيطرة على انفعالاتي فبدأت في استخدامه يوميًا). قال لي صديقي: توقفك عن الكتابة الشعرية سبّبه السيبراليكس، فهو يعمل على تحجيم الانفعالات والشحنات العاطفية اللازمة للإبداع ولكتابة الشعر بشكل خاص، إن أردت العودة إلى الشعر فعليك البحث عن بدائل طبيعية لتخفف من توترك قليلًا. وقدّم لي نصيحة طبية للطريقة التي يجب عليّ بها إيقاف هذا الدواء النفسي كي لا أصاب بانتكاسة نتيجة انسحابه من الجسم؛ هذا النوع من الأدوية يسبب الاعتياد والادمان وإيقافه يحتاج إلى خطة طويلة.

هكذا إذًا. حبسة الكتابة الطويلة لدي سببها حبة الدواء الصغيرة اللعينة هذه التي أتناولها كل يوم صباحًا قبل القهوة. أسعدني ما قاله صديقي، ذلك أنه طمأنني أن ما أنا فيه ليس نضب الموهبة أو الخيال بل هو نقص في الشحنات الشعورية والعاطفية بسبب الدواء الذي يعمل على تثبيط المشاعر ووضع سقف للانفعالات التوترية ويضعني في حالة من الثبات الانفعالي تمنعني من التأثر العالي بكثير من الأحداث والمواقف التي أعايشها أو تحدث معي. أسعدني ما قاله صديقي لكنه أخافني على قلبي من أن يتعرض للتلف من جديد. هكذا أوقفت الدواء بالطريقة التي وصفها لي الطبيب، وبدأت البحث عن بدائل غير كيمائية تساعدني على التخفف من التوتر والقلق والانفعالات الشديدة وردود الأفعال السريعة المتوترة. ورغم حزني طبقت بالحرف ما طلبه مني الأخصائي في خطوات إيقاف الدواء، مع ذلك كانت نتائج انسحابه شديدة القسوة. حزن متواصل وبكاء لأتفه الأسباب وردود أفعال غير منصفة ولا منطقية وعصبية وقلق وتوتر وشعور بالاختناق وتسرع بالنبض وتعرق، لوهلة شعرت بأنني أصبت بأزمة قلبية جديدة لكنني أدركت أن ذلك من تأثير انسحاب تلك الحبة اللعينة.

وعدت لكتابة الشعر، أو لنقل لكتابة نصوص تقف على الحافة بين الشعر والسرد، لكنها محملة بمخزون كبير من الحنين والحزن والخوف واليأس واللاجدوى، كما لو أن ذاكرة مثقلة كانت تنتظر هذه اللحظة لتفرغ كل حمولتها مما تراكم فيها خلال سنين دون أن تجد منفذًا واحدًا لتسرب منه بعض ما بها. وكأن الحزن الذي سبّبه انسحاب الدواء من جسمي حرض ملكات الكتابة عندي لتعمل من جديد؛ وكأن الكآبة التي أشعر بها هذه الأيام لا ينفع معها غير هذا النوع من الكتابة بالتحديد: الكتابة التي تشبه حد الشفرة، التي تجرح قلبي وأنا أكتبها وتخدش أحاسيس من يقرأها، ذلك أنني أنشر بعض ما أكتبه حاليًا على صفحتي على الفيسبوك وأتابع ردود أفعال المتابعين لصفحتي ممن يقرأون ما أكتب؛ "أنا خائف/ة عليكِ"، كتبها لي بعض الأصدقاء في الرسائل الخاصة بعد قراءتهم للنصوص، يرونني كمن أتخفف من ثقل حياتي التي عشتها، يرون ما أكتبه ممتلئًا بتفاصيل مرهقة للقلب والذاكرة والمشاعر. أستطيع فهم ما يشعرون به، ذلك أنني أكتب حاليا عن ذاكرة ممتدة لعقود سابقة أوصلتني إلى حياتي اليوم، ذاكرة من الخوف والفقر واليأس والتهميش والطفر والحزن والفرح والحب والخيبة والصداقة والأمل والثورة والهزيمة والسكر والجنس والمنفى والمرض والأمومة والمدن والمشاريع والأحلام والانكسار؛ ذاكرة مثقلة بكل هذه الحياة المنغمسة بذاتها حد الفيضان كيف لا تكون الكتابة عنها جارحة ومؤلمة؟!

الآن: تساعدني كتابة هذه النصوص الحالية على التخفف من توتري، وعلى مواجهة الضغوطات الآنية ببعض العقلانية وبالمزيد من الهدوء، تفعل الكتابة حاليًا فعل حبة السيبراليكس، بفعل الأدوية الكيميائية التي تغيّر آلية عمل الدماغ. لكن لن أستمر لأوقات أتوقف فيها عن الكتابة، ماذا أفعل دون مساعدة الدواء كي أحتفظ بقلب وشرايين سليمة وكل ما حولي يرفع مستوى الأدرنالين من فرط ما يسبب التوتر والقلق والغضب؟ ما الذي يمكنه أن يساعد امرأة تدخل في ستينيتها وحياتها مثقلة بتفاصيل قديمة وجديدة لا تسبب لها سوى الخوف والقلق؟! 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.