}

تلك الأماكن لم تعد لنا: نصوص من دفتر الأصدقاء(2)

رشا عمران رشا عمران 23 أبريل 2024
يوميات تلك الأماكن لم تعد لنا: نصوص من دفتر الأصدقاء(2)
وليد نظامي، سورية

 

(كيف تفعل الحياة بنا هذا؟ تجدل أعمارنا كضفيرة محكمة ثم تفكّها بيسر كما لو أنها تفكّ ضفيرة الرمل، أعمارنا تشبه الرمل، حياتنا تشبه الرمل، مساراتنا تشبه الرمل، نظن أننا نقبض عليه في أكفنا، لكنه ينسل من بين أصابعنا بدون أن نشعر، كنا نظن أننا أقوياء، متماسكون، وأننا نلعب مع الحياة لعبة الاستغماية، وأننا سوف نكسب اللعبة في النهاية، سوف نقبض على الحياة متلبسة في الاختفاء، لكننا نحن من اختفينا، نحن من تسربنا من بين أصابع الحياة كما لو كنا حفنات من الرمل تمسكنا كف الحياة العابثة وتذرونا في أماكن غريبة ومختلفة، كأننا لن نكن يومًا سويًا، كأننا لم نكن يومًا، كأن كل ما عشناه كان طيفًا أو لمحًا في خاطر الحياة). 


تلك اللحظة الغادرة

إلى (خضر الآغا)


كيف ربينا تلك الألفة كما لو كانت ابنتنا المدللة

هواتف الاطمئنان الصباحية

تقاسم الحزن والفرح والنميمة وخيبة الحب

تنقلنا في بارات دمشق آخر الليل

كما لو أننا هناك

أقص شعري المشعث وأحاول إعادة تركيبه بلا جدوى وأنت تضحك بهدوئك العالي كما لو أنني ألقي عليك قصيدة ساذجة.

كما لو أننا هناك

أبدل قمصان عشاقي وأطلب منك أن تعدّهم لونًا لونًا ثم تكتب قصيدة عن امرأتك الأثيرة ونبكي خيباتنا معا إذ ندرك أن "الحب يشبه الكوليرا".

كما لو أننا هناك

ندوخ من أثر الليل والسكر كراقصي المولوية، ثم نشرب نخب تلك الصداقة النادرة ونعيد ملء كؤوسنا بالأحلام ونسكر وندوخ ونتبع وقع أقدامنا نحو تلك الهوة الواسعة التي سقطنا فيها واختفينا.

ما الذي كان يجعل أرواحنا مقبوضة حتى شربنا الوقت كله وأطفأناه في منفضة دمشق كلفافة تبغ فاسدة؟

كما لو أننا هناك نعيد سيرة حبر القلب ملح الوقت خبز الأيام الطازج ونلف السهر الطويل في منديل الطفر الطويل والسعادات الشحيحة.

متنا عشرات المرات، متنا من الضحك والحب والحزن والشعر والخيبة، أعادنا الحلم إلى الحياة ثم قتلنا في لحظة غادرة.

كما لو أننا هناك

أقص شعري المشعث وأركبه على رأسك ونتبادل الأدوار ونحاول الضحك... لكننا كبرنا... بليت ملابسنا ونسي الزمن سكاكينه على وجوهنا وخناجره في لحم قلوبنا.

تلك الأماكن لم تعد لنا. 

 

يا لتلك الانتصارات البديلة

إلى (هند مجلي)


كان علي أن أحضنك بقوة وأتحسس حزن عينيك بأصابعي كي أصدق أنك أنت التي تقفين أمامي لا طيفك الذي كان يرافقني منذ اختفيت كحبة شوكولا أخذتها خفية من شاب يشبه ابنك في عربة الترحيل المصفحة.

أول شبابنا يا هند، حين كنا نصدق الحب، حين كنا نلعب بالزمن كأحجار الدومينو، هل تذكرين؟ تلك التمتمات التي استيقظتِ عليها وأنت تضحكين؟ تلك التمتمات في البيت الترابي العتيق في القرية العتيقة، التمتمات التي كانت طلقة حادة أصابتنا جميعًا في الرأس فيما بعد وأصابت سورية في عمودها الفقري.

هل كنت ستضحكين ضحكتك العالية تلك لو عرفت ذلك باكرًا؟

بناتنا لسن لنا، بناتنا للثورة، للحلم، للاعتقال، للقهر واليأس، أبناؤنا للحرب والموت، أزواجنا للنسيان.

شوارع دمشق التي أحببناها، ذلك المطعم الشعبي في حارة شعبية في شارع شعبي صرختِ فيه باسم طفلة متوحشة تدعى الحرية فقدناها للأبد وفقدنا معها أصواتنا، هل تذكرين؟

كانت درعا بيتك وساحتك وسجنك وخوفك وقهرك وكبرياءك. كنت أتكلم مع درعا عبر صوتك، قالت لي: سوف تمر أيام على هند ستنام فيها مكورة كالجنين.

بالمناسبة، هل تخليت عن عادة النوم كالجنين؟ هل تنامين الآن جيدًا؟ هل نجوت كما يقال عن الناجين؟ كيف حدث هذا؟ أنا لا أعرف لك طريقًا اليوم، وأنت تحاولين رؤيتي وتمنعك عني حواجز وعسكر وقرارات لطالما سخرت منها. 

كيف حدث هذا؟ كلانا نلتف كحبكة التريكو الذي تنسجين منه وقتًا ضائعًا في انتظار اللاشيء، وكلانا نحاول الفكاك بلا جدوى، كلانا نتصارع يوميًا مع الاكتئاب وكلانا نفوز يوميا: يا لهذا الانتصار البديل!!

أجلس على كنبتي في مدينة أحببتها أكثر مني وأراك في مرآة أضعها أمام وجهي مباشرة، أرى عينيك حزينتين ويديكِ مشغولتين بالحياكة، تمدين يدك من المرآة وتعطيني خريطة أنهيت حياكتها للتو، أمسك طرف الخريطة وأفك حبكة الخيط الأولى وأبدأ بلفّه على جسدي كما لو كان كفني الأخير، لكنك مسرعة تسحبينه نحوك وتعيدين حياكته من جديد.

الخريطة لعبتنا المفضلة في هذه الأيام.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.