}

على ضفة نهر لوار

رشا عمران رشا عمران 11 يوليه 2022
أمكنة على ضفة نهر لوار
مدينة بلوا ونهر لوار في فرنسا (20/8/2016/Getty)

سألت كريستوف عن السبب الدي دفعه إلى مغادرة هذه المدينة الجميلة وفيها منزل عائلته الكبير ليعيش في مدينة فرنسية أخرى قد تكون أصغر من (بلوا) في المساحة وعدد السكان، فأخبرني حكايات لطيفة قد تبدو للسائح مثلي مثيرة للاهتمام، لكن بالنسبة لبعض أبناء البلد هي حكايات تطبق على القلب والروح وتشدهما إلى الخلف، خصوصًا للشباب في السن التي غادر فيها كريستوف مدينته بلا عودة إلا للضرورات القصوى.
تقع مدينة بلوا الفرنسية على ضفتي نهر لوار، وهو أطول الأنهار الفرنسية. ينبع من وسط فرنسا، ويصب في المحيط الأطلسي. مساحة بلوا لا تتجاوز 37 كيلومترًا مربعًا، وعدد سكانها 46 ألف نسمة (المدينة كلها أصغر من أصغر أحياء القاهرة)، وفيها كثير من الآثار التاريخية والقصور والقلاع الضخمة، ما يجعل منها وجهة ومقصدًا سياحيًا لكثير من محبي السياحة حول العالم، لهذا تمتلئ بالمطاعم والبارات، خصوصًا في هذه الأيام، حيث تحتفل المدينة ببداية الصيف، فتنتشر الفرق الموسيقية في كل مكان، وتمتد السهرات إلى ما بعد منتصف الليل، ويمكنك إن كنت تحب الرقص مثلي أن تنهض من سريرك بعد محاولات فاشلة للنوم، لترتدي ملابسك وتذهب لتتناول كأسًا في الساحة القريبة جدًا من القلعة الرئيسية، حيث يقع مكان إقامتك، ثم تبدأ في الرقص مع آخرين لا صلة لك بهم، وأنت في غاية السعادة، مؤجلًا مشروع النوم إلى ساعات طويلة، وإلى وقت آخر، ومستعيدًا ما يقوله المصريون في حالة كهذه: (ساعة الحظ ما تتعوضش).



وصلت من القاهرة إلى مدينة بلوا قبل ثلاثة أيام، في رحلة تتعلق بالمشاركة في مهرجان أفنيون المسرحي الشهير، حيث اختار هنري جول جوليان، مخرج العرض الذي أشارك فيه، أن نجري التدريبات المعتادة قبل بداية العرض في أفنيون في مدينة بلوا، التي يتشابه مسرحها مع المسرح الدي سنعرض فيه في أفنيون. لفت نظري هدوء المدينة، وجمال عمارتها، منذ أن وصلت إليها، بعد رحلة طويلة في الطائرة، ثم في القطار. هنري جول، الذي انتظرني في محطة القطار، قال لي إن كريستوف ينتظرنا في بار قريب. كانت الساعة تتجاوز السابعة مساء. حضور الشمس كان  ما يزال قويًا، ما يدفعك إلى الابتسام إذا كنت قادمًا من مكان يسيطر الليل فيه بدءًا من السابعة مساء. قابلنا كريستوف في البار القريب، وشربنا نخب العرض القادم. كريستوف هو مهندس إضاءة فرنسي يشتغل معنا في العرض، ونسميه الشبح، لفرط هدوئه، وصوته المنخفض، بينما نحن جميعًا (فريق العرض) صاخبون وضاجون وعصبيون، كما لو أن وجوده بيننا ليس فقط لجعل الإضاءة شخصية رئيسية في العمل، بل لمساعدتنا على تفهم وجهنا الآخر، شخصياتنا الأخرى المختفية، الهادئة التي تحتاج بعض الجهد لتظهر، لكن أظن أنه هو أيضًا يكتشف الشخصية الصاخبة التي فيه من خلالنا.
أخبرني كريستوف أن بلوا مرت عليها عقود طويلة كانت فيها استراحة لملوك فرنسا، وهو ما يفسر وجود القلاع والقصور الكثيرة فيها، هذا الأمر جعل (نوستراداموس)، عالم الفلك الفرنسي الدي عاش في القرن الخامس عشر، وما زال البشر يتناقلون توقعاته من عام لآخر، يسميها قلب الملكية، ويتنبأ بأن الملكية سوف تعود إلى فرنسا، وسوف تكون بلوا هي مركز عودتها، ومنذ ذلك الحين وأهل المدينة يعيشون على هذا الأمل، ويتعاملون في علاقاتهم اليومية مع سائر الفرنسيين كما لو أن الملك المنتظر قد ظهر لديهم للتو. يتابع كريستوف: "هذه الخرافة جعلت منهم مجموعات متفاخرة بلا شيء، التفاخر الذي لا يراه ولا يعرفه الزائر والسائح، لكن ابن المدينة الذي عاش وتعلم في مدارسها يعرف جيدًا أن هذا الأمر بالغ السخف، ويؤثر سلبًا على قدرة الناس على العيش في الحياة الواقعية. كنت أشعر أنني غريب هنا حين أرفض التفاخر مثلهم، خصوصًا وأن ثمة منحى دينيًا عنصريًا في هذا التفاخر. وبالنسبة لي، أنا اليساري الفوضوي اللاديني، هو شيء مخالف لكل قناعاتي. كان عليّ أن أغادر المدينة باكرًا إلى مكان أكثر توازنا في العلاقة مع الواقع".



تابع كريستوف حديثه إثر سؤالي عن سبب مغادرته المدينة باكرًا، وقال إن الشيء الوحيد الدي يحبه في هذه المدينة هو النهر (لم أكن قد رأيته بعد)، وإنه حين يأتي لسبب ما يقضي معظم الوقت على ضفة النهر، لكن في مكان بعيد عن السكن والسكان. فكرت مباشرة وأنا أستمع إليه بأن النهر لن يدهشني، فأنا أعيش في القاهرة، حيث نهر النيل العظيم، وزرت النيل في الجنوب المصري، حيث يبدو هناك كما لو أنه بحر حقًا. لكنني تركت الحكم للتجربة، كعادتي في التعامل مع الأشياء، وقررت أن أزور النهر صباح اليوم التالي، خصوصًا أن طقس بلوا منعش، فالحرارة معتدلة هذه الأيام، وأنا أحتاج إلى المشي بعد انقطاع لمدة شهرين سببه الحر الشديد من الصباح الباكر في مدينة كالقاهرة، (هل أخبرتكم أنني لا أطيق الحر، وأنني كائن يحتمل البرد أكثر بكثير مما يحتمل الحر).
كان علي أن أنحدر يمينًا من مكان إقامتي، فأرى نفسي على ضفة النهر، الساعة كانت السابعة صباحًا، هدوء شديد في المدينة، والرصيف الذي أسير عليه يتفرع، في أمكنة عدة، نزولًا نحو ضفة النهر التي تشبه غابة طويلة وقليلة العرض (أحتاج لرؤية المزيد من اللون الأخضر كي أستعيد صفاء بدأت أفقده). حاولت الاقتراب من الحرش الأخضر الملاصق لطرف النهر، ثم تذكرت ما قاله كريستوف عن الخديعة التي تمارسها الأحراش والجزر الخضراء في قلب النهر وقربه، حيث تصبح فجأة كما لو أنها فخ يصطاد المقترب منه، ويضعه في مواجهة ضحالة التربة الزلقة. عدلت عن الفكرة المجنونة التي خطرت لي، وعدت للمشي على الطريق الترابي تحت الأشجار الخضراء، يرافقني صوت ماء النهر، وزقزقة العصافير، وهديل الحمام، يرافقني أيضا الحفيف الصاخب لجناحي بجعة بيضاء ضخمة حطت بالقرب مني، وبالقرب من بطة سوداء تحاول تدريب أبنائها الصغار على السباحة في النهر، ترافقني  أرانب رمادية تتقافز من مكان إلى آخر كلما سمعت وقع أقدامي على الطريق الترابي، يرافقني كلب أليف يضع أنفه في كل ما يصادفه تاركًا صاحبته تقرأ في كتاب على مقعد حجري أسفل شجرة ضخمة، ترافقني أيضًا نسمات لاسعة سرعان ما يعدل برودتها سطوع حاد مفاجئ للشمس. كنت أمشي كما لو أنني البشري الوحيد الموجود في هذا المكان، بينما الطبيعة بكل مفرداتها الجميلة تحيط بي وتهديني سكينتها وصفاءها، لأستعيد القليل مما وارته الأيام وحوادثها في الجيوب الداخلية المغلقة من روحي.
في طريق عودتي كنت مبتسمة، كنت أشعر أن ابتسامتي تملأ وجهي، رأيتها على وجوه من صادفتهم في طريقي، إذ أن الحياة كانت قد بدأت للتو في المدينة، كانوا ينظرون الي ويبتسمون ويلقون علي تحية الصباح. شعرت أن روحي تتنفس امتنانًا، امتنانًا لكل ما تقدمه الحياة لي، لكل اختباراتها في العيش: العائلة والأصدقاء والعمل والكتابة والحب والمرض والسفر والشعر والتقدير، الامتنان الذي يمدني بطاقة كبيرة للعيش واقتناص الفرح والصفاء.
ثمة رسائل حب توجهها الحياة إلينا كل فترة، بالنسبة لي أحاول التقاطها كلما شعرت بقرب وصولها إلي، هكذا، أعيش وأنا أنتظر لطف الحياة مهيئة حواسي كلها لاستقباله، لطالما كان السفر واكتشاف أماكن جديدة هو رسالة حب من الحياة تساعدني على فهم نفسي وما تريده في كل مرة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.