}

عن سيكولوجية البطولة الاجتماعية

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 1 أكتوبر 2023
 (الأبطال هم أناس اعتياديون قاموا بشيء غير اعتيادي).

قالت العرب قديمًا: الكرمُ شجاعة... ولم تقل بطولة... فالبطولة لها ميدانها، قد ترتبط بساحات المعارك وصولات الفرسان. والشجاعة ميدانها مفتوح على الحياة. فثمة إجراءات نفسية تجعل من هذا الشخص شجاعًا أم لا. وعلم الاجتماع لا يؤسس لنظريات خارجة عن مفاهيم مجتمعية، بل يقدم صورة شارحة للمعاني من وجهات نظره، فالشجاعة ليست هي البطولة في العُرف الاجتماعي، إنما هي استعداد شخصي لخوض تجارب جسدية بتضحيات بلا مقابل. بينما البطولة قد تكون فردية أو جماعية، بحسب ظرفها. لكن عندما يفرز المجتمع "بطلهُ" فإنه يقينًا يفرز ويقرر شجاعته، وأحيانًا يجعله "رمزًا" تاريخيًا، عندها تعوم مفردة "الكرم" بين هذا وذاك من التأسيسات اللفظية المتعارف عليها.
مع تعريف القواميس، وهي مدرسية على الأغلب الأعم، يأتي قاموس وبستر على مفهوم البطل، فهو "شخص أسطوري خرافي... يتمتع بقوى أو قدرات خارقة... مقاتل لا يُقهر ويتحلَّى بخصال نبيلة وشجاعة نادرة". وهذه أسطرة تاريخية لمفهومية البطل، متأثرة على نحو واضح بما أفرزته علاقة التاريخ بالمجتمعات. بينما تجمع المعاجم العربية على أن البطولة هي "الشجاعة الفائقة" في حين يرى معجم أكسفورد أن البطل هو "المقاتل الشجاع"، لكن اللافت في بعض المعاجم العربية أنها تصف البطولة بالشجاعة (أَظْهَرَ بُطولَةً: شَجاعَةً) وإزاء هذا المفردة واشتقاقاتها المعجمية لا نتوقف في ما قالته المعاجم، فالشجاعة هي غير البطولة من وجهة نظر اجتماعية في الأقل. والبحوث الأكاديمية والميدانية، لا تنظر إلى المفردة بوصفها المباشر وحسب. بل تجد لها ما يماثلها ـ تطبيقًا ـ في الواقع. مثلما هي "البطولة" لا تفي بالمعنى الاجتماعي عند اشتقاقاتها الكثيرة (مُكرهٌ أخاك لا بطلُ) ولسان العرب يفسر: "سمي بطل لأن الأشداء يبطلون عنه" وقد زحفت هذه المفردة إلى السرديات والمسرحيات وأفلام الأكشن، بمعجميتها المفهومة العامة، وبالتالي نقرأ هذا الكتاب(*) ونتداخل معه بمفهوم اجتماعي صرف، كما هضمته الشعوب وتداولته، منذ العصر الإغريقي. وتلجأ اليه الملاحم والتراجيديات والسرود على أنواعها.
المساهمون في الكتاب انتظموا تحت هذا المفهوم الشعبي، لتثبيت أركان فكرة البطل الاجتماعي، التي أطلقها عام 2006؛ باحثا علم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو، وزينو فرانكو، لتتحول هذه الفكرة عام 2011 إلى مشروع عالمي عند تأسيس "مشروع الخيال البطولي" بوصف البطولة "حركة اجتماعية عالمية"، وعلى هذا الأفق الاجتماعي، نحاكي بعضًا من النصوص الأساسية للسنوات التأسيسية (2006 ـ 2016) التي تشابهت في بعضها، من انطلاقاتها الفكرية والجمالية، لتحديد مفهومية البطل الاجتماعي وأنواعه، والظروف المحيطة به، نفسيًا واجتماعيًا.
أمام البطولة المجردة، سوف لا توقفنا التقاطعات التفسيرية، حتى المفردة القابلة للتفسيرات في المعاجم، فهي غير ذات أهمية تُذكر، مع فكرة الكائن/ البطل الذي يختلف عن البشر العادي، كوجود مثالي غير ملتبس، يجسد آمال الأغلبية الأسطورية والشعبية، ومنظومتها الأخلاقية والقيمية وربما الدينية أيضًا. حتى أصبح ذلك الاستثنائي رمزًا في الملاحم التراجيدية القديمة والمثيولوجيات والأساطير اليونانية والرافدينية والفرعونية والإغريقية وحضارات آسيا الوسطى، بعضهم فاق الواقع بجرأة غير معهودة، وبعضهم كانوا من نسل الآلهة، والأمثلة وفيرة، تبدأ ولا تنتهي: (هرقل ـ أوديسيوس ـ جلجامش ـ الإسكندر الأكبر ـ أخيل ـ إيليا مورميتس ـ أورفيوس ـ أنكيدو ـ أفراسياب...) حتى تكرسوا كأبطال تاريخيين في أساطيرهم القوية التي منحها الزمن الطويل شهادات حيّة لبقائهم الأسطوري في ميثولوجيا الشعوب. واكتسبوا لقب "البطولة" تاريخيًا.
"إننا جميعا أبطال محتملون ننتظر لحظة في الحياة لإداء عمل بطولي" ـ هذا قول مشترك لـ زينو فرانكو، وفيليب زيمباردو، في مبحثهما "اعتيادية البطولة" الذي تصدّر الكتاب، عندما يضعان للبطولة "سمة عالمية للطبيعة البشرية"، وكونهما عالمَين متخصصين بمثل هذه الاجتماعيات بأرضيتها النفسية، فهما يفسران عددًا من المفردات الساندة والمفترقة عن المفهومات السائدة، فأحيانًا يقرّبانها لمفهوم البطولة، وأحيانًا يقترحانها ظلًا لها، كمفهوم "الإيثار" الذي يؤكد المعنى بمساعدة الآخرين، من دون تضخيم لحجم المساعدة العامة.

نيلسون مانديلا

بينما تكون البطولة ذات بُعد واحد في الأغلب الأعم، كونها (تنطوي على احتمالية تضحية شخصية) بما يستدعي فكرة محاربة الشر على أنواعه التي تحتاط منها المجتمعات. وهذا يستدعي تحفيز الخيال البطولي عند العامّة الذين يرون في البطولة الرمزية، نوعًا من التعويض، عبر الكائن ـ الفرد، أو الظاهرة التي تكتسب صفة البطولة الخارقية. لهذا (يجب الاحتفاء بالاختلافات الفردية) فما كانت المجتمعات الإنسانية منمّطة باتجاه واحد، ولا الأفراد فيها. فيميل إلى تزكية التنمية البشرية بطريقة إسداء النصح: (لا تسمح للآخرين بإلغاء فرديتك) و(أقبلُ بالجماعة لكن أقدر استقلاليتي)، وبالتالي ثمة فروقات أساسية في الاستعدادات الجماعية (لإنتاج الفضيلة)، ومكافحة الشرور المجتمعية، بمعنى تعزيز القدرة الفردية حتى لو كانت في إطار الجماعة وفي دائرتهم.
هذا يتطلب؛ بحسب زيملاردو؛ أن يكون التشجيع هو الاعتراف بالخطأ لـ(أنفسنا والآخرين) باعتبار أن (الخطأ هو الإنسان) فيما يتوجب، بديهيًا، البحث عن أرضية مشتركة مع الآخرين المهيمنين في مواقف التأثير. والخروج بفردية واعية تساهم؛ مع الجماعة؛ في إرساء قيم التعارف والأخلاق والحكمة، لذلك فالباحث يستنبط تعريف البطل؛ من الحكمة والمعرفة والشجاعة والانسانية والعدالة والاستقامة والتعالي، ويعدّها من الخصائص المركزية للبطولة، ويتوجب أن (تكون في خدمة فكرة نبيلة ليست درامية مثل بطولة المجازفة الجسدية...) فالأعمال البطولية قطعًا ستخدم الآخرين في المجتمع، وتحاصر الشرور في الأفراد أو في العلاقات العامة (تذكير الناس على أننا قادرون على مقاومة الشر) وهذا التذكير، لتأكيد تاريخيته، يذهب الباحث إلى القديم من الأبطال، ومثلهم المعاصرون، حينما يستحضر قائد القوات اليونانية في حرب طروادة، بوصفه بطلًا أنموذجيًا، لكنه يستدرك بأن سقراط يحمل نفس رتبة البطل المدني (كانت تعاليمه تهدد سلطات اثينا)، ومثله نيلسون مانديلا الذي أمضى 27 عامًا في سجن روبن السيء، لكنه (خلق حالة مقاومة حقيقية ورمزية عملت على تحفيز شعب جنوب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري... لقد كان قادرًا على تغيير الهويات الذاتية لأجيال عديدة من السجناء) حتى يخلص الباحث لمقولة أن ( الأبطال هم أناس اعتياديون قاموا بشيء غير اعتيادي) باعتبار أن البطولة تدعم المُثُل العليا في المجتمعات، وتدعو إليها لتكريسها ضمن القالب الاجتماعي العام.




يعاضد هذا الاستنتاج ثلاثة باحثين (زينو إي فرانكو، وكاثي بلاو، وفيليب زيمباردو) في مبحثهم الثالث الذي حمل عنوان "البطولة تحليل مفاهيمي وتمييز بين الفعل البطولي والايثاري" بأن البطولة هي (المثل الأعلى للمواطنين الذين يحولون الفضيلة إلى أعلى شكل من أشكال الفعل المدني) كونها ذروة السلوك البشري، لكنها واحدة من أكثر السلوكيات البشرية تعقيدًا. وهؤلاء يعودون إلى نقطة الصفر في التعريف عن مفْهَمة البطولة فيرون بأنها (نشاط اجتماعي ـ امتداد للسلوك الاجتماعي الإيجابي) ليصلوا إلى أن ليس كل فرد إيثاري يكون شجاعًا. فالشجاعة لا تناقض البطولة، بل تغذيها وتستمر معها في مطاردة الشرور والسلبيات، وصناعة البطولة هي في بناء الشجاعة والكفاءة والفضيلة، كما جاء في عنوان بحثي آخر لجورج غوثاليس، وسكوت أليسون.
قد تكون البطولة حقيقية بمأثرة رجل ذكي، وقد تكون خيالية في أساطير الماضي، أو ما يسبغه المجتمع من صفات لموقف رجولي فيه من الشجاعة الفردية ما يكفي، لأن يلفت أنظار المجتمع. لذلك نجد في سياق هذا الموضوع أنواعًا من الأبطال، أسطوريين، وسياسيين، وفكريين، وشبحيين، وحقيقيين، وورقيين، وعسكريين، ورياضيين، وفنيين، ومدنيين، واجتماعيين. وكل هذا قد يحدده المجتمع أحيانًا أو بتأثير الإعلام، وفي أحيان أخرى نظريات البحث الاجتماعي والميداني، أو الحافظة المجتمعية التي تبحث عن بطل رمزي: كأيقونة لوجودها. ويحفل التاريخ القديم والحديث بمثل هذه الرموز الحقيقية والمخادعة والوهمية.
يحدد الباحثان جورج غوثاليس، وسكوت أليسون، التشكيل الصوري لمنظومة مختارة من الأبطال، من المؤثرين وغير المؤثرين في السياقات الاجتماعية العامة، فالبطل الشائع هو الذي يرتفع تأثيره وينخفض بحسب رؤية المجتمع له، والظروف التي تحيط له، والبطل الفني ما يتركه من صور إيجابية في أذهان  الناس في معالجته لقضية عامة، والبطل السياسي بمقدار تأثيره على حركة السياسة والمجتمع، والبطل العابر (الذي يتمتع بفترة صلاحية قصيرة... تشيزلي سولي سوبينبيرغر، طيار الخطوط الجوية الأميركية، الذي أنقذ حياة 155 راكبًا) والبطل الانتقالي الذي يمثل مرحلة غير ثابتة عند الجماهير وهي تنظر إلى سلوكه، والبطل المأساوي، كسوفوكليس ومقدار تأثيره على الأدب الغربي. والبطل المتغير الذي يتعرض إلى مواقف صعبة، فيتحول من بطل إلى شرير والبطل الشفاف، وهو البطل الذي يؤدي أعمالًا بطولية بهدوء خلف الكواليس (المعلمون الذين صاغوا عقولنا، والمدربون الذين علمونا الانضباط، والعاملون في الرعاية الصحية، والعسكريون الذين حمونا...) والبطل التقليدي الذي ينحدر من أصول متواضعة، ويعاني من نكسات في الطفولة... ويتغلب على كل ما يعترض طريق حياته ومشواره غير السهل. والبطل التمجيدي (الناس جائعون للأبطال، وفي بعض الأحيان، هذا الجوع يحفز الناس على بناء الأبطال، لرؤية العناصر البطولية حيث لا وجود لها). والبطل التحويلي الذي يغير مجتمعًا بأكمل، ويغير الثقافات الفرعية الصغيرة داخل المجتمعات. ثم البطل المتعالي، كيسوع الناصري لتأثيره العميق على الثقافة الغربية.

غاندي 

استدراكات
أبطال الشعوب كثيرون جدًا، ولو تركنا التاريخ القديم بملاحمه التمجيدية، سنرى في واقعنا المعاصر أبطالًا أكثر من التاريخ، وهذه عيّنة عابرة:
غاندي بطل السلام: أسطورة هندية ما تزال تحتفظ ببريقها النضالي، كأمثولة وطنية عالمية.
شهرزاد في "ألف ليلة وليلة": أنقذت بنات جنسها من شهريار الذبّاح، هي بطلة سردية أثّرت بأجيال من السرديين الغربيين والعرب. وباتت أمثولة قوية لمواجهة شر الرجل القاسي. لهذا ستحتفظ بتاريخها البطولي ـ الحكائي ـ الإطاري وإلى مدى بعيد.



شهداء فلسطين كلهم أبطال، فهم في دائرة المقاومة اليومية التي تتسع ولا تضيق. على سبيل الأمثلة: الروائي غسان كنفاني (اغتيل في الثامن من يوليو/ تموز عام 1972 في بيروت بعد انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته)/ الطفل محمد الدرّة (اغتيل في قطاع غزة في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول عام 2000)/ الإعلامية شيرين أبو عاقلة (اغتيلت برصاص الاحتلال في 11 مايوم أيار 2022 أثناء تغطيتها الهجوم الإسرائيلي على جنين)/ جيفارا: بطل ثوري يتجدد في كل المواسم النضالية/ نيلسون مانديلا: بطل السلام الناعم.
البطل السياسي يمكن أن يكون أبراهام لنكولن الرئيس الأميركي الأسبق بوصفه محررًا للعبيد.
الكاهنة الأم تيريزا: نصيرة الفقراء. أيقونة النضال السلمي في الحياة. هي بطلة في التاريخ الإنساني الشاق.
نجيب محفوظ: بطل عربي نوبلي. استقطب الملايين من القرّاء والمتابعين، وملأهم بالفخر. لكون الجائزة صعبة، لا ينالها إلا مَن قدّم لمجتمعه والإنسانية كثيرًا من خلاصات الحياة والحكمة والجمال.
مارتن لوثر كينغ: الأميركي ـ الأفريقي، من أهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان، الذي نادى وطالب بإنهاء التمييز العنصري ضد السّود في عام 1964.
البطولة الموسمية تختص بها كرة القدم كجماعة معنية بالفوز، لنيل بطولة قارّية أو عالمية. وهذه بطبيعتها مؤقتة، قد لا تتكرر لاحقًا. ونشاهد أن أنواع الرياضات الفردية والجماعية هي ما تمثله في لحظتها، ولا تدوم.
ملكة الجمال بطلة الجمال. ومثل هذه الجوائز والمسابقات التي تنتظم سنويًا في مكانٍ ما، هي "بطولات" شخصية، لا يسهم الآخرون في "صناعتها" وإن كانت تحمل روحًا وطنية، لكنها أيضًا بطولة عابرة في سياق المسابقات المتتالية. ومن المثير في هذا الجانب أن كثيرًا من المجتمعات الباحثة عن المجد الاجتماعي لا تميل كل الميل إلى مواطنتها، لا سيما الإسلامية منها، والشرق الأوسطية عمومًا. ليتضح أن الإنجاز الفردي، ما لم يرتبط بالجماعة، لا يمثل إلا شخصه بالنتيجة.

هوامش:
(*) المرجع في سيكولوجية البطولة الاجتماعية ـ نصوص أساسية مختارة ـ السنوات التأسيسية (2006 ـ 2016)، اختيار وترجمة لؤي خزعل جبر ـ دار المأمون للترجمة والنشر ـ بغداد 2003.
* فيليب زيمباردو: عالم نفس اجتماعي. يُعد من أبرز علماء النفس عبر تاريخه. صاحب "تجربة سجن ستانفورد" ـ 1971 ومؤلف كتاب "تأثير الشيطان: فهم لماذا يتحول الناس الأخيار إلى أشرار" ـ 2007. وهو مؤسس مشروع الخيال البطولي 2011.
* زينو فرانكو: متخصص في علم الأزمات والحروب والبطولة. شريك زيمباردو في تأسيس علم البطولة ومفهوم البطولة الاجتماعية.
* سكوت أليسون: متخصص في علم نفس القيادة والبطولة. رئيس تحرير مجلة "علم البطولة"، ومحرر كتاب "الأبطال والقيادة البطولية، 2017".
* جورج غوثاليس: متخصص في علم نفس القيادة والبطولة. شريك أليسون في تأسيس نظرية ديناميت القيادة البطولية.
* تعريف الأعلام أعلاه من الكتاب ذاته.
* معجم المعاني العربية ـ حرف الباء.
* الموسوعة الحرة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.