}

قناطر القرية وكونكريت الحداثة

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 12 أكتوبر 2023
آثار قناطر القرية وكونكريت الحداثة
(كاثلين موراي)

(1)

لكثرة القناطر التي عبرتها في طفولتي الريفية، أتخيل أن العالم الآخر- عالم ما بعد القرية- لا يعرف القنطرة ولا يعرف سرًا من أسرار الطبيعة فيها (العالم الآخر لم يكن حافيًا على ما أعتقد) لذلك بقيتُ على صلة مع أقدامي الحافية، بالرغم من وجود الأحذية البلاستيكية والنعال الاسفنجية في خمسينيات القرن الماضي، التي جعلت الإنسان ينسى بأنه كان ذات يوم حافيًا عندما يضع ثقله على الأرض ويسعى إلى الحياة. غير أن الطفولة الحافية على مدار سنواتها البطيئة، كانت هكذا. تعبر الأنهار والسواقي الصغيرة، تاركةً جذوع النخيل الساقطة بين ضفتي النهر إلى العابرين من كبار السن، آباء وأجداد الزرع والحصاد، وأصحاب المواشي، وتلاميذ المدارس القصبية، وغرباء القرية الباحثين عن طلاسم لفك السحر عن مواشيهم ونسائهم.

(2)

كل صباح وكل مساء، يعبر الغنّام بغنمه من ضفة إلى ضفة على جذع نخلة هوتْ في يومٍ عاصف، وانطرحت بين ضفتي النهر الصغير. تتقاطر أغنام الراعي واحدة بعد الأخرى على قنطرة العبور في طابور من رائحة الصوف المتربة. وفي المساء يعود بها، كمن هو عائد بغنيمة من معركة العيش الأعزل في البراري الوحيدة. يجمعها في حظيرة النوم، وينتظر صباحًا آخر لعبور نهرٍ وقنطرة أخرى، إلى ضفة العالم في طبيعته العظيمة.

(3)

القناطر عشوائية. نبّهت إليها العواصف الموسمية التي تطيح بجذوع النخيل والأشجار الهرمة. ليست هندسة مثالية للعبور من ضفة نهرية إلى أخرى. فطرةُ الإنسان القروي قادته لأن يكوّن صلة مع الطبيعة من جذوع النخيل. ينقل أقدامه الحافية فوق الماء، ويؤسس اجتيازه من النقطة أ إلى النقطة ب وعادة ما يكون المجاز قصيرًا وضيقًا، بحجم جذع أسطواني، والعبور سهلًا، لا يتطلب سوى انتباهة عابرة وانحناءة بسيطة لتثبيت الأقدام على الجذع المُحرشف، حامل أقدار الآخرين، العابرين فوقه أجيالًا وأجيالًا في متتاليات الزمن القروي السعيد. لذلك فإن الغنّام مثلًا لا يمكن له أن يتصور أن أحفاده سيعيشون هندسة الحضارة في جسور عملاقة، ويعملون قناطر اسمنتية وحديدية للمشاة والسيارات، فوق أو تحت الماء. وأن العوائق بين الأنهار الصغيرة والكبيرة، سيتم علاجها بهذه الأجساد الممدودة، فهذا من ضروب الخيال المستحيل، لذلك مات ذات صباح على قنطرة من جذوع النخيل؛ بينما عبرت أغنامه وشياهه إلى الضفة الأخرى، وعادت مساء، عابرةً - على جثته المتروكة- إلى حظيرة الليل... صار هو قنطرة عبور إلى عالم القرية الآخر.

(4)

لا يمكن أن تبقى الطبيعة بلا قناطر، مهما تطور بها الزمن وعالجته تكنولوجيا البناء والإعمار. فقبل هذا بتاريخ طويل من الحياة، قبل اللغة ومجازاتها واشتقاقاتها وتعريفاتها وإيماءاتها المباشرة وغير المباشرة، كانت الحضارات الأولى أكثر بناءً وابتكارًا وموهبةً في معالجة شؤون الحياة. فالملك الآشوري سنحاريب ابتكر عام 690 ق.م. مشروع القناطر في العاصمة نينوى، لتوفير المياه من الجبال وري السهول. وبلا شك أن مفهوم القنطرة السنحاريبية كان يختلف عن مفهوم القنطرة القروية، المخصصة للعبور بين ضفتي الأنهار، فقناطر الآشوريين آنذاك كانت تستجلب المياه من الجبال، وقناطر القرويين تنقل الإنسان والدابّة والماشية من وإلى الضفتين. حتى أن الحضارة المصرية القديمة شيدت القناطر على نهر النيل وتفرعاته أيضًا، وهذا لا يمنع من أن القنطرة؛ وهي جسر من جذع نخلة؛ كانت أيضًا سقفًا أسطوانيًا لاجتياز الأنهار الصغيرة، من الجذوع التي تطيح بها العواصف وسَوْرات الأتربة والغبار. وفي بعض الأحيان تكون الشيخوخة سببًا لسقوطها.

(5)

لو تصورنا "القنطرة" من أصل عربي كما يقول الأب أنستاس الكرملي، فسنمنع التاريخ القديم من أبوّته لهذه المفردة القديمة. الباحث طه باقر يشير إلى أن كلمة جسر "وردت في اللغة الأكدية بهيئة گ‍شرو" والگشرو قريبة النطق من "جسر" والزمن السنحاريبي كان يمد بين الضفتين لأي نهر جذعًا لنخلةٍ أو شجرة، وكلما اتسعت الأنهار، اتسعت معها معارف البناء، فصارت القنطرة جسرًا أو  گ‍شرو، من حجر ثقيل أو سد مانع أو حاجز من الطوب، إلا أن اللغة العربية بارعة في استضافة المفردات الموازية، وتوجيهها إلى مجازاتها الكثيرة، حيث يرتبط الإنسان بالإنسان بجسور المعرفة والمودة والرحمة والأخوّة، لكنه لا يلغي المفردة الأساسية، كما هو مرتبط؛ فطريًا؛ بقنطرة العبور إلى الآخرة والصراط المستقيم وميزان الحق بأفعاله الحسنة.

(6)

القنطرة قرية، وبغير هذا لن تكون قنطرة للطفولة والبراءة والعفوية. فالقرية التي استحوذت عليها حداثة المدينة، لم يبق فيها مكان فطري للعبور الحافي، لكن بقيت الذاكرة تحتفظ لها بجمال الزمن البعيد، فالقناطر (تعني طفولة القرية، وأن الجسور شيخوخة المدينة...) بتعبير الناقد المكاني ياسين النصير، لهذا تشيخ الأمكنة عندما تغادرها الطفولة، وتقطع رحمها مع مصدر النمو الفطري، ويتجلى ذلك في إنشاء الجسور الطويلة، فالإنسان فيها مرغم على أن يغادر فكرة القرية، ويتجه إلى حداثة المعمار، لتتمدّن القرى، ويصبح الماضي صعب المنال، ويستقر في أراشيف البلديات كجزء من ذاكرة القرى، التي مسختها حداثة المعمار وهندسة الجسور التي لفظت القنطرة، بوصفها البدائي- الحافي، وعليه نجد اليوم الكثير من الشعوب، كرد على وحشية الحداثة المدمرة للبيئة، تمارس أدوارًا انتقالية في الطبيعة بما يشبه الحنين إلى أسطورة الماضي والقرية الأولى التي أعقبت الحضارات البعيدة بمنجزاتها الكثيرة، وتمثُّل القناطر البدائية، فهي الصوت القديم الأكثر صفاءً في ضجيج الآلة وتكنولوجيا الهندسة المتقدمة. حتى في السرديات الأدبية، بعدما أدان الكثير منها جرثومة المدينة، فإن العودة إلى سرديات الطبيعة أمر لا مفر منه، وكأنما دورة الحياة تريد العودة إلى الماضي، لكن بوسائل أحدث، مع الحفاظ على بكارة الطبيعة والقرية والماء والأشجار والأنهار والأعشاب والنخيل وبيوت القصب.

القناطر عشوائية. نبّهت إليها العواصف الموسمية التي تطيح بجذوع النخيل والأشجار الهرمة


(
7)

على نحوٍ أحدث من الزمن السنحاريبي، في متتاليات العبور إلى حداثة الوصف العمراني، ابتكر الرومان القناطر المائية ولكن من الحجارة. استعاضوا عن الأشجار الأسطوانية بالحجارة الثقيلة (أطولها قنطرة آنيو نوڤوس) فقوّسوا القناطر لتصبح جسورًا. إذ لم تعد مستقيمة باستقامة الجذوع الساقطة. فالحجر الثقيل ليس بخفة جذع النخلة الساقط بين ضفتي النهر، الذي يمتد في زمن القرية طويلًا. لذا فالوراثة غير ممكنة لزمن سنحاريبي أو روماني متقدم أو متأخر. بل القرية جزء من الطبيعة، والحجر دخيل على إمكانياتها الفطرية، والحضارات الحجرية انقرضت، وبقي ما هو شاهد على ابتكاراتها، كالحالة الرومانية القديمة التي بقي منها اليوم (جسر فابريسيوس فوق نهر التيبر الذي يعود إلى عام 62 ق.م.) ولم تنقرض القرية، بل بقيت متجمّلة بالطبيعة وأسرارها العظيمة، بالرغم من وجود ما هو حضاري في تفاصيلها، لكن حضارتها بأنها ما تزال بين الأنهر، تحت سماء وفيرة النجوم في الليل.

(8)

الأجيال التي تلت العصور القديمة، ورثت منهم الأنهار والأشجار والهواء والماء والنسائم والمراعي والأغنام والشياه، ولم ترث منها "صناعاتها" و"ابتكاراتها" وإبداعاتها الكبيرة، لذلك فالعصر القروي الذي لحقنا به ولحق بنا، كان بدائيًا وظريفًا وجميلًا وفطريًا إلى حد كبير. تعامل مع القناطر الجذعية بعد الرياح الشمالية، ولم ينتبه إلى ما تركه الأسلاف في ابتكاراتهم المعقدة نسبيًا... لم تكن الآلة معروفة في القرى البعيدة آنذاك، فبقيت الأنهار على جريانها، وبقي الناس على فطرتهم. يعبرون الجذوع بين من ضفة إلى ضفة، مثلما كان أسلافهم القريبون في الزمن.

نعتقد في مستقبل هذه الكتابة، أن القرية الريفية ذات المواصفات الشخصية في طبيعتها، قد تغير فيها مفهوم القنطرة باتساع المعارف والأنهار في كل مكان. بل حتى البحار العميقة وصلتها القناطر/ الجسور العملاقة، فاختصرت الزمن والمكان، وأدخلتنا معها في عصور أكثر ضراوة، لنصبح جزءًا من الآلة، وجزءًا من الضمير الاسمنتي الذي اختزل الحياة، كأنما يريد أن يطوي مفهوم القرية إلى الأبد.

(9)

التاريخ العربي، العراقي مثلًا، يعرف القناطر القديمة، لكن الآلة التي غيّرت مفهومها، أوقعتها في مشكلة التسمية، لتصبح القنطرة "جسرًا" واصلًا من النقطة أ إلى النقطة ب وأدخلتنا في شيخوخة المدينة بتعبير ياسين النصير، فمنذ 1000 سنة تقريبًا كانت "القنطرة العباسية" أحد معالم منطقة " أسكي كلك" على نهر "المر" في مدينة الموصل وتعد "من عجائب الهندسة المعمارية لأنها تتكون من صخور كبيرة جدا، وترتفع نحو عشرين مترًا، بعرض خمسة أمتار على شكل قوس دقيق في تصميمه"، ونرى في هذه المعلومة قِدم الفكر الهندسي الذي يعود إلى العصر العباسي، وريث السلف، بمعنى الاستغناء عن فكرة القرية البدائية، التي بقيت محافظة على تشكّلها الأول، فالمدن تُصمم منذ زمن بعيد على أنها تتفوق على القرية، هندسيًا ومعماريًا، فيما تبقى الأخيرة على فطرتها وسليقتها، فالطبيعة قادرة على أن تمدّها بكل ما هو مثالي، جذوع نخل وشجر وأخشاب، لتكون ضفتا النهر أكثر قربًا، وأكثر سلامة للأقدام الحافية التي اعتادت العبور على قنطرة الطفولة، حتى كبرت معها.

(10)

قد يكون العصر العباسي متأثرًا بسلفه الروماني؛ في القرن الثالث الميلادي؛ في تأسيس قناطر حجرية، كانت كافية لهندسة القنوات وتصريف المياه، أو جلبها من مصادر الأنهار، عبر الجاذبية "حيث كان يجري بناؤها بانحدار خفيف في قنوات من الطوب والحجر ودُفن معظمها أسفل الأرض". وحتى القناطر الخيرية التي بناها محمد علي باشا في مصر، المتحكمة في أحد تفرعات نهر النيل، كانت صوتًا تاريخيًا للسلف العبقري الروماني او السومري، في محاربة تجاوز القرية وعطائها المتواضع، ولا نشك لحظة في أن الأرياف العراقية والمصرية والعربية الأخرى، المبتعدة عن شيخوخة المدن الإسمنتية، ما تزال تضع القنطرة بين ضفتي الأنهار الصغيرة، وتسير حافية عليها، بالرغم من وجود الآلة وهندسة المزارع ومساحات الجغرافية الممتدة كثيرًا في الطبيعة.

(11)

قناطر القرية كثيرة. لأنها ترتبط بالطفولة والصفاء والنقاء والأقدام الحافية. لكن جسور المدينة الكونكريتية باتت أكثر. تعقّدت مع تطورات الحياة وتطور الآلة الهندسية والمعمارية وتطور الأفكار الإنسانية... الأنهار الصغيرة القديمة اندثرت مع الزحف الصحراوي وتغيرات المناخ. فيما بقيت الأنهار الكبيرة والبحار الأكبر، فتوجبت عليها الجسور قبل القناطر، بأطوال آلاف الأمتار وعشرات الكيلومترات. وأخذت أسماء متعددة ومختلفة، كالجسر "المجنون" في الصين، والجسر "المخيف" في اليابان، والجسر الفرنسي "الأطول" في العالم، والجسر "المرعب" في مكاو، والترامبولين الجسر "الأغرب" و"بريتيش" الكندي "المعلق" و"جسر الضحك" و"الجسر الدوّار" و"جسر القرد" وجسر "الحديقة الجيولوجية" و"جسر القطار" و"جسر موسى" الهولندي و"جسر الفراشة" و"جسر سيمون دي بوفوار" وغيرها من الأسماء التي وضعتها شركات هندسية معتبرة في معمارها وخططها البنائية. ولا علاقة لها بالقرية وفطرة الطبيعة فيها. وحتى مع تطور التكنولوجيا العمرانية، وإنشائها لجسور ذات قيمة فنية، وكثير من التصاميم الجسرية، ومع تقدم الوقت الصناعي بقي الكثير منها يحتفظ باسم "القنطرة" منذ العصر العباسي المؤسس لمشروع الحداثة العمرانية، كقناطر أنهار عيسى والصراة وخندق طاهر وكرخايا  وعيساباذ، بما فيها من مسميات فرعية، مثل: الياسرية والرومية والزياتين والأشنان والشوك والرمان والبستان والسمّاكين والصينيات والقنطرة العتيقة والقنطرة الجديدة وقنطرة الزبد وقنطرة باب الحديد وقنطرة باب حرب وقنطرة باب قطربل وقنطرة باب البصرة وقنطرة اليهود وقنطرة درب الحجارة وقنطرة البيمارستان.

وحافظ العصر العباسي على فكرة قنطرة القرية عبر مسمياتها في أقل تقدير.

مصادر وهوامش:

  • سنحاريب: سادس ملوك الإمبراطورية الآشورية الحديثة، دامَ سُلطانه 24 عامًا. كانَ ملكًا كثير المغازي. شُهرته طاولت أراضي الغرب. يُذكر له تدميرهُ لمدينة بَابِل عام 689 ق.م وتجديدهُ وتوسيعهُ لنينوى.
  • الأب أنستاس الكرملي: هو بطرس جبرائيل يوسف عواد. رجل دين مسيحي، ولغوي عربي، عراقي من أب لبناني وأم عراقية. وضع كتبًا مهمة وأبحاثًا جديدة عن اللغة العربية. ساهم في عملية التعريب، وأصدر مجلتين وجريدة. وتميزت مجلة لغة العرب التي أصدرها في عام 1911 بأبحاثها الأدبية والتاريخية.
  • طه باقر: عالمَ آثارٍ ومؤلف مسماري ومؤرخ. يُعد من علماء الآثار في العراق. ترجم ملحمة جلجامش من الأكادية إلى العربية. وفك رموز الألواح الرياضية البابلية، واكتشف قانون إشنونا. يتقن اللغات العراقية التاريخية الأربع (العربية والآرامية والأكدية والسومرية) إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية.
  • جريدة اليوم السابع، 18 فبراير 2019.
  • وكالة الأنباء العراقية، 19-1-2021، مقال لياسين النصير.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.