}

الأمومة والشعر: أطفالٌ داخل القصائد

مناهل السهوي 21 نوفمبر 2023
إناسة الأمومة والشعر: أطفالٌ داخل القصائد
ضياء البطل

نادرة هي المهن التي تستطيع فيها الأم اصطحاب ابنها معها إلى العمل، لكن في الشعر يمكن ذلك، وكأن الشعر مهنة تسمح للأمهات باصطحاب أطفالهن معهن، ولكن في هذه المهنة تحديدًا فإن وجود الطفل قد يصبح جزءًا من العمل، وقد يكون جزءًا محببًا أو على العكس. في الغرب والشرق ومنذ عشرات السنين تحاول الشاعرات التعامل مع تجربة الأمومة والكتابة، ولأن الشعر والأمومة يحملان من المشاعر الكثير منها يبدو للحظة أن صراعًا غير مقصود نشأ بينهما.

"القصيدة السيئة التي بداخلها طفل"

واحد من الكتب المثيرة في هذا المجال هو كتاب "التفاني الطويل: الشعراء يكتبون عن الأمومة"، تحرير كل من الأميركيتين إميلي بيريز ونانسي ريدي، وتأتي أهمية الكتاب من كونه يطرح العديد من الموضوعات المرتبطة بالأمومة والتي قد لا تخطر على البال، فيحوي قصائد ومقالات عن التجارب الفردية للأمومة والإجهاض وحتى العقم وغير القادرين على إنجاب الأطفال، ومن بين الشعراء والكتاب المشاركين كتّاب هم في الحقيقة أزواج أمهات وآباء بالتبني ومن اختاروا البقاء بدون أطفال، يشمل الكتاب الكثير من الجوانب المرتبطة بالأمومة مثل اكتئاب ما بعد الولادة، وتربية طفل مصاب بالتوحد، وتحديات الصحة العقلية، وآلام القلب أثناء الحمل والولادة والأبوة وحتى بنك النطاف، إنه ببساطة مجموعة واسعة وشديدة التنوع من وجهات النظر حول الأمومة.

ترى إميلي بيريز في مقال لها أن المخاوف الأساسية حول أنواع هذه الكتابة هي رفض هذه المواضيع باعتبارها غير مرتبطة بجمهور واسع من القراء، أو عدم اعتبارها مناسبة أو حتى كتابة جادة، ولذلك كانت المحررتان خائفتين مما سمته جوي كاتز، إحدى المساهمات في الكتاب، "القصيدة السيئة التي بداخلها طفل".

تحدد المحررتان السؤال الأساسي من كتابهما في المقدمة وهو: ماذا يعني أن تكوني أمًا تكتب؟ وإذا كانت الأمومة والكتابة بحاجة إلى التنافس مع بعضهما البعض! وللوصول إلى إجابة يطرح الكتاب أكثر من 90 قصيدة ومقالًا لوجهات نظر مختلفة. كل القصائد والمقالات تقريبًا توصلنا إلى اعترافٍ بأن الأبوة والأمومة معادلة لا يمكن موازنتها بشكل كافٍ مع الكتابة.

سيلفيا بلاث والصراع المبكر مع الأمومة

تتحول النساء بعد أن يصبحن أمهات، ويفقدن جزءًا من شخصيتهن الذي يتحول، وربما يُنسف في أسوأ الأحوال. بالنسبة للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، كان عدوها الأساسي هو معيار الحياة المنزلية في الخمسينيات في أميركا والذي كان من شأنه أن يجعل النساء يتخلين عن الفن والتعليم والحياة العامة لصالح الطفل. لم تكتشف بلاث إجابة محددة لمسألة الكتابة والإنجاب والأمومة، إلا أنها انغمست من خلال كتابتها بشكل كبير في مكانتها كأم وشاعرة.

نستحضر سيلفيا هنا لأنها تجسد أزمة الأمومة المعاصرة في قصائدها وترفض التماهي مع صورة الأم المتوقعة اجتماعيًا لكنها في الوقت ذاته تتمسك بدورها كأم.

كتبت بلاث العديد من القصائد حول الأمومة، من أشهرها "أغنية الصباح" و"طلوع القمر"، وحاولت من خلالها نقل فكرة أن الأمومة تحمل الكثير من الألم والمعاناة، لكن في ذات الوقت هي أمر ضروري، تنقل هذه القصائد كذلك السلبية الطبيعية المقيدة لدورها في المجتمع.

في قصيدة "أغنية الصباح" نقرأ صراعًا بين الحميمية والاغتراب، بين الأم والشاعرة، تقول: "بكاؤك أخذ مكانه بين الأشياء/ أصداء أصواتنا تحتفي بوصولك!/ وصول التمثال الجديد/ إلى متحف تذروه الريح العاتية"، وتصف سيلفيا طفلها حديث الولادة بصور من قبيل الساعة والتمثال والقطة، تعكس الصور التي استخدمتها بلاث اغترابًا عن طفلها وغيابًا للارتباط معه في تلك المرحلة.

كذلك تصف بلاث نفسها بالبقرة، فالأم التي تستيقظ باكرًا لإرضاع طفلها تجد نفسها ثقيلة وأقرب إلى حيوان مجبر على القيام بدوره الطبيعي. نهاية يتوجب ألّا ننسى أن الكثير من شعر بلاث كان إيجابيًا فيما يتعلق بالأمومة وتربية الأطفال، ففي قصيدة "امرأة عقيمة"، تكتب بلاث من منظور امرأة تريد الحمل لكنها لا تستطيع ذلك.  

يعتبر شعر بلاث بمثابة ضوء تستهدي به النساء المعاصرات اللاتي يرغبن في التحرر من المعايير الأبوية الصارمة وبخاصة بما يتعلق بالأمومة دون التخلي عن تجربة الأمومة وعيشها بحدودها القصوى.

أوجه كثيرة لصراع الأمومة

الخوف من الأمومة ليس متعلقًا بالشعر بشكل خاص، لكن يبدو أن الشاعرات هن الأقدر على نقل هذه المعضلة والخوف من أن تبتلعهن الأمومة ومهامها وكل ما يتعلق بها، في عالمٍ يرى كل النساء في النهاية كأمهات، كما يعتقد أنهن تلقائيًا سيُخلصن بشكل كامل لأطفالهن ويتجردن من رغباتهن الذاتية فداء لذلك.

تقول الشاعرة المصرية آلاء فودة: "فأنتِ اعتدت اختراع الونس/ ونسٌ تدركينه حين تمتلأ أحبال الغسيل بملابس العائلة/ أو حين تفرغ الأواني من الطعام/ ونسٌ يصحبك وأنتِ تشترين مؤونة البيت".

لا يتعلق الأمر بالخوف فقط من الأمومة، فالتحدي الآخر هو القوالب المجتمعية حتى لشكل الألم الذي قد تعانيه النساء خلال الولادة، إذ يسود اعتقاد بأن كل تجارب الأمومة هي نسخة مكررة ولا مجال حتى لتفاوت في نسبة الألم، تقول الشاعرة السورية نسرين أكرم خوري في مدونة لها: "القابلات في تلك التسجيلات وفي صفحات "السوشيال ميديا" كنّ قاسيات، ويردننا أن نتألّم لأن ذلك هو الشيء الطبيعي الذي قامت به أمهاتنا وأمهاتهن: الولادة مع الألم".

لكن الأمومة ليست سهلة كما قيل وليست قابلة للسرد كتجربة واحدة ومكررة، تعيش الأمهات الشاعرات ككل الأمهات شعورًا حادًا بالذنب، هل يقمن بأمومتهن بأفضل صورة؟ وهل يمنحن أطفالهن الحنان الكافي؟ والكثير من الأسئلة الأخرى.

تقول الشاعرة الكويتية عائشة العبد الله: "الأمومة مؤلمة وجارحة/ جارفة مثل نهر/ حادّة مثل قلبٍ مكسور/ قلبٌ يربّي الخوف/ ذنبٌ يكبر ويصير تنّينًا/ تركضين معه وتقفزين بلا توقف/ تعلمين أنكِ في كل قفزةٍ تفقدين/ شرفةً في روحك/ تعلمينِ أيضًا أنك لو توقفتِ لحظةً/ ابتلعتكِ نيرانه"

في صراع الأمومة، نبدو كنساء نعيش في مواجهة مع الأمومة، قد يعود الأمر إلى تربيتنا التي جهزتنا لأن نكون أمهات في النهاية أو ربما لغريزة الأمومة داخلنا، لكن بوعي أو دونه، وحتى لو لم نكن أمهات ندور حول فكرة الأمومة، نقترب أو نبتعد... تقول الشاعرة المصرية آلاء حسانين في مقال لها: "ما أعرفه أننا نختبر طوال الوقت أشكالًا متعددة من الأمومة، فنحن نهرب منها وإليها، ونحن، أمهات وبنات في الآن ذاته، لذلك صراع الأمومة داخليّ وخارجيّ، ممتد وغير متجَاوز، ولا أحد ينجو منه، لأن لا أحد، لا أحد إطلاقًا، مولود بلا أم".

 

مصادر:

The Long Devotion: Poets Writing Motherhood by Emily Pérez and Nancy Reddy - University of Georgia Press

 “The Long Devotion” reflects on the intersection of motherhood and art - Emily Pérez- the Colorado sun

أولمبياد الأمومة- نسرين أكرم خوري - أوان

التصدّع الأمومي المحتفى به… شاعرات في فخّ الأمومة - آلاء حسانين- رصيف 22

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.