}

مخيّم الشاطئ: هادئٌ بحرُ غزّة كأنّه بُركان

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 نوفمبر 2023
أمكنة مخيّم الشاطئ: هادئٌ بحرُ غزّة كأنّه بُركان
تأسس المخيّم بعد النكبة بعام
ليس خبْط عشْواء، وَلا مُصادفة، أن يواصل مخيّم الشاطئ صمودَه العصيّ على آلة الحرب الصهيونية كلّها، فإليه لجأ أهلُ بلادٍ جبّارين، ومن رحمه، وبين زقاقه الضيّقة حدّ الانفجار، وُلِدت أجيال المقاومة المتعاقبة، جيلٌ يسلّم جيلًا.
فوق مساحة لا تزيد على 700 مترٍ مربّعٍ، ترسم أحياء المخيّم وحاراته ما يشبه الطريق الحالم نحو البحر الأبيض المتوسط (بحر غزّة)، الذي لا يبعد عن شوارع المخيّم سوى أمتار معدودة، ويشيّد الناس هناك جسر عبور نحو الوطن الأسير.
هو المخيّم الذي كبُر فيه الشيخ الشهيد أحمد ياسين (1936 ـ 2004)، مؤسس حركة حماس، وولِد فيه الشهيد فتحي الشقاقي (1951 ـ 1995)، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الترهونيّ الزرنوقيّ الأصل (نسبة إلى مدينة ترهونة الليبية، والزرنوقيّ نسبة إلى قرية زرنوقة قضاء الرملة التي استقر فيها جدّه بعد زواجه من امرأة سورية). وهو مخيم المخرج السينمائي الفلسطيني رشيد المشهراوي المهاجرة أسرته من يافا، ومخيّم إسماعيل هنيّة (العسقلانيّ الأصل)، وقائمة تطول.
هو ثالث أكبر مخيمات قطاع غزّة. وأمّا عن كثافته السكانية، فيكفي أن نعرف أن مساحته الصغيرة التي أشرنا إلى أنها لا تصل إلى كيلومتر مربّع واحد، يقيم داخل حدودها زهاء مئة ألف لاجئ فلسطيني (بل إن هنالك إحصائيات تؤكد أنهم يزيدون على المئة ألف بثلاثة آلاف).
وهو، إلى ذلك، ثالث مخيّم فلسطيني من مخيمات القطاع ينخرط في فعاليات الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) بعد مخيميّ جباليا، وخان يونس. في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1987، أصدر الشيخ الشهيد أحمد ياسين (معلنًا عن تأسيس حركة حماس) أوّل بيان للحركة روّسه بالعبارة الآتية: "وأنا الغريق فما خوفي من البللِ". وقد حوصر المخيم أيامها، بسبب مشاركته في الانتفاضة الأولى، 15 يومًا، فالحصار، على ما يبدو، قدرٌ يحيا معه أهل غزّة ويكبرون، إلى أن يدوسوا مرّة، ومن دون سابق إنذار، على زرِّ الانفجار.




تأسس المخيّم بعد النكبة بعام، أي في عام 1949، وتورِد جهات فلسطينية أنه أقيم لإيواء لاجئين كانوا يقيمون في ثلاثة مخيّمات متفرقة داخل مدينة غزة: مخيم "حلزون" غرب السّرايا، مخيم "الجميزات" جنوب مستشفى الشفاء (مجمّع الشفاء الطبي)، ومخيم "قرقش" شمال ملعب اليرموك.

من يافا إلى غزّة...
يشكّل لاجئو مخيم الشاطئ طيفًا جغرافيًا يبدأ من يافا، مرورًا بالرملة، وبعض قراها، وصولًا إلى القرى والبلدات الأقرب لقطاع غزّة، وبما يمنح روح المكان تنوّعًا خصبًا بين أهل المدن والقرى، وما يقترب من البادية (مِدِن وفلاحون وبدو).
ومن أهم المدن والقرى الفلسطينية التي وصل أهلها لاجئين إلى مخيّم الشاطئ: هرْبيا وبرْبرة وبْرير والجُورة ودير سْنيد وبيت دْراس ودمْرة والجيّة وجولِس والسّوافير والمجْدل والفالوجِة وحمَامة وأسْدود والبْطاني وعبْدس وسِمسم وهُوج وكرْتية (أو كرْتيا) ونعْليا والمسميّة والقْبيبِة ويافا واللد والرملة وبئر السبع والخْصاص ويبْنة، وغيرها.
معظم القرى الواردة أعلاه مدمّرة (أو زائلة كما في مصطلح آخر)، وأمّا القرى المحسوبة منها على محافظة غزّة بحدودها ما قبل عام 1948، مثل كَرْتيا وجْسير التي كانت حتى مطالع القرن العشرين محطة للحجاج في أثناء توجههم إلى الديار المقدسة وغيرها، فقد جرى تطهيرها عرقيًّا على يد لواء غفعاتي بالتعاون مع كتيبة القوة المحصّنة التاسعة يوميّ 17 و18 يوليو/ تموز 1948.

لا حدائق عامة في مخيم الشاطئ


حيطان الطوفان...
يبدو أن إطلاق اسم "طوفان الأقصى" على العملية التي باغتت كتائب القسّام العالم بها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لم يأت من عبث، وليس خارج سياقات الحال في قطاع غزة على وجه العموم، ومخيماته على وجه الخصوص. فالحيطان في مخيم الشاطئ على سبيل المثال لا الحصر، بِضيقها، وانتفاخِها بالنّاس يمرّون عبْرها لا يكاد يفصل بين جداريّ الزقاق مترٌ واحد، أو، حتى، أقل قليلًا، تكاد تنفجر محدثة طوفانًا لا يُبقي ولا يَذر... تكاد تنفجر إعصارًا... بركانًا من لظى الشّواظ يحرق الأخضر واليابس، ويعيد ترتيب العالم على إيقاع العدل والقسْطاط المُبين.
تشبه حيطان مخيم الشاطئ بالكتابة عليها حيطان مخيم جباليا كثيرًا، وربما كانت هذه حال مخيمات القطاع جميعها، وخصوصًا ما يتعلّق بكتابات التّهاني للعريس وأهل العريس، إضافة إلى كتابة أسماء أشخاص بعينهم، إما بِكنيتهم: أبو ماهر... أبو زياد... أبو جهاد... أبو صبحي... إلخ، أو بأسمائهم الأولى: عز الدين (بخطٍّ ملوّن)، أشرف... محمود... إلخ. الحاجة أم زهير نالها من جداريات الحائط نصيب: "أهلًا وسهلًا بالحاجة أم زهير"، ولا ندري هل هو ترحيبٌ بعودتها من الحج، أم أن للترحيب سببًا آخر، علمًا أن الترحيب بالعائدين من الديار المقدسة يشتمل، عادة، على عبارة "حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا". على كل حال، لِجدران مخيم الشاطئ ميزة قد لا تكون موجودة في باقي مخيمات القطاع، ألا وهو ميل ألوانها جميعها تقريبًا، إلى الأحمر الداكن الموشّح بِرَشٍّ لونيٍّ خشن. أما شبابيك البيوت، فهي شبابيك وهمية، لأنها جميعها، تقريبًا، مغلقة بألواح خشبية، ولا زجاج فيها، إذ يبدو أن ضيق أزقة المخيم، وتقاربها إلى حد التغوّل، فرض على سكّان المخيّم المحافظين، طبعًا، هذا الحل للحفاظ على حِشْمةِ بيوتهم، وسَتْر عيالِهم. بيوتٌ متراصّة متباينة التفاصيل ومستويات المعيشة، من بيوت مغطّاة جدرانها الخارجية بالبلاط الملوّن والبورسلان المُزخرف، إلى بيوت سقوفها من (الإسْبِسْت)، وأبوابها عبارة عن قطعة قماشية، في تناقض عجيب بين شبابيك خشبية وأبواب قماشية. الفقر المدقع، والغِنى النسبيّ يتجاوران في المخيم، كما تتجاور الأحلام والأيام وحِبال الغسيل.
من جداريات التهاني: "ألف مبارك للعريس" وتحت المباركة: "أبو آسِر صالح"... "بالرفاه والبنين"... "عقبال عند عبد الله"... "تهنئة من أبناء عم العريس: أدهم... محمد... وسيم... عمر... كريم".
لا حدائق عامة في مخيم الشاطئ، ولا فضاءات حضريّة، ولا مرافق خدميّة، ومع تقليص كيلومترات الصيد أمام أهالي المخيم الذين لم يجد كثير منهم باب رزق سوى سمك البحر، فقد وصلت البطالة أرقامًا قياسية ونسبًا مقلقة بين شباب المخيم من الذكور، فالإناث هناك لا يعملن عادة، أو يعملن بمهن محددة؛ معلمة، أو ممرضة، وما إلى ذلك. ولعل نِسب البطالة وصلت في المخيم هذه الأيام إلى أكثر من 80 في المئة.




إن الحدَّ الذي بات مسموحًا به للصيد في مدينة غزّة ومناطق شمالها يبلغ ستة أميال بحرية فقط. وقد أثّرت القيود الإسرائيلية المفروضة على المساحة المخصصة للصيد بشكل خاص على مخيم الشاطئ، ما أدّى إلى انخفاض كميات الصيد، وبالتالي فقدان سبل العيش، وزيادة معدلات الفقر. إضافة إلى ذلك، فإن ممارسات البحرية الإسرائيلية لفرض مساحة الصيد بما في ذلك استخدام الذخيرة الحيّة نحو الصيادين الغَلابا، أثارت مجموعة من المخاوف التي تتعلّق بِالحماية. وبشكل عام، سُجلت في شمال غزة في النصف الأول من عام 2023، حوالي 90 حادثة إطلاق نار، وهو ما تسبّب في جرح تسعة صيادين، واعتقال 13 فلسطينيًا.
ليست الحيطان وحدها، إذًا، ما يمْكن أن تدفع مخيم الشاطئ وغزّة كلها إلى الطوفان؛ الحصار الظالم الطويل، يؤدي، منطقيًا، إلى الطوفان، إهانة الناس والنظر إليهم بوصفهم أقل إنسانية من غيرهم، خنق أحلامهم، انتزاع خصوصيّاتهم، تحويل الرجال إلى مشاريع شهداء، أو معتقلين لِمددٍ تصل أحيانًا إلى مئات السنين، كل هذا... وهذا... وذاك، يشكّل أسبابًا ممكنة لطوفانٍ هو بالباب واقفُ والمدى منه خائفُ.

معظم سكّان غزّة يطلقون على المخيّم هناك اسم "معسكر"

ليس مصادفة، أيضًا، وأيضًا، أن معظم سكّان غزّة يطلقون على المخيّم هناك اسم "معسكر": معسكر النصيرات... معسكر البريج... معسكر المغازي... وهلمّ جرًّا... إذ يبدو أنهم يترجمون مفردة (كامب) camp الإنكليزية ترجمة حرفية، فهي في حالة اللاجئين المحشورين فيها، المضغوطين فوق فوّهة بركان، صارت معسكرات تدريبٍ وإعدادٍ وتأهيلٍ للتخرّج منها برتبة شهيدٍ رُكُن، تحت عنوان "فإمّا حياة تسرّ الصديق... وإمّا مماتٌ يَغيظ العِدا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.