}

الأناشيد الوطنيّة العربيّة: المسافةُ بين الشِّعار والواقع

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 13 أبريل 2024
آراء الأناشيد الوطنيّة العربيّة: المسافةُ بين الشِّعار والواقع
نشيد "فدائي" في افتتاح بطولة كأس العرب في الدوحة
يتردّدُ، منذ اندلاع الطوفان، في غيرِ منبرٍ وَقناةٍ ومنصّة وَمناسبة، النشيد الوطني الفلسطيني المُستهلُّ بأشرفِ الناس وَأنبل المَعاني "فدائي... فدائي"، ما يعيدُنا إلى صيرورةِ الأناشيد الوطنية العربية، التي اُعتمد أقدمها في عام 1869 (السلام الوطني، أو الملكي المصري في عهد الخديوي إسماعيل)، وَأحدثها جرى تأليفه وَاعتماده في عام 2017 (نشيد موريتانيا الوطني).
هي صيرورةٌ مرتبطةٌ، بشكلٍ وَآخر، بصيرورةِ الدول العربية نفسِها، وَبمفهومها حولَ استقلالِها عن محتلّيها، أو المنتدبينَ لإدارةِ شؤونِها. تاريخُها من تاريخِ أعلام دولِنا العربية، فالنشيد يرتبط منذ لحظة ولادتِهِ، جدلًا، بالعَلَم، وَكلاهما يرتبطانِ بالسيادةِ. أما السؤال الأول الواجب طرحه هنا، فهو: عن أيّ سيادة نتحدّث؟ وَإذا بحزمةِ أسئلةٍ تلحقُ بِه: من أقرّ الأناشيد الوطنية العربية؟ من أقرّ ألوانَ أعلامِنا وَتفاصيلَها؟ هل جرى استفتاءٌ شعبيٌّ لأيّ نشيدٍ وأيّ عَلَم؟

عن مرحلة المدّ القوميّ
معظم الأناشيد الوطنيّة العربية اعتُمِدت في مرحلة المدّ القوميّ العربيّ التي بدأت مع ثورة الحسين بن علي (الثورة العربية الكبرى) في عام 1916، وَتبلْورت مع الحركات القومية المتأثّر كثيرٌ منها بِشعارات التنْوير الأوروبية، وبعضها بِالليبرالية الغربية، من دون أن نستثني بعض الملامح الاشتراكية في عددٍ قليلٍ من الدول العربية التي مَارت وضجّت بعد رحيل المستعمِر بِالانقلابات والتغيّرات والتبدّلات والانْكفاءات والصّعودات والإقْواءات.
ارتباطٌ أدّى إلى تغيير بعض تلك الأناشيد، وحتى تغيير بعض الأعلام، في مرحلة ما بعد القومية وما بعد الاشتراكية العربيّتين.
لا ننكر أن بعض أنظمة الدول العربية ما تزال تصرّ على شعارات القومية العربية (سورية نموذجًا: أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، رغم كل أفعالها التي تضرب تلك الشعارات في مقتل، فهل أخلدُ من رسالةِ احترام حق الشعوب بِالكرامة وَالحرية وَالحياة؟ ناهيكم عن شعب تلك الأنظمة نفسه. ولعلّ هذا الإصرار خالي الوِفاض وَالمحتوى وَالقيمة الأخلاقية، هو ما دفع بعض الذي انغمسوا في ثورات الربيع العربي إلى تغيير إما العَلَم الذي يأْملون أن يكون عَلَم بلادهم في حال انتصرت ثوراتهم، أو تغيير النشيد كلّه، أو جزءٍ مِنه.
الروح القومية باديةٌ في كثير من الأناشيد الوطنية العربية، رغم ما يشوب الكثير منها من توجّهٍ قُطْريٍّ في إشارةِ خضوعٍ جليّةٍ لِتقسيمات سايكس بيكو. حتى النشيد الوطني العراقيّ الذي يشعّ قومية عربية صادِحة (نشيد "موطني" من تأليف الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان)، فإن استهدافًا طاوله، وإنْ كان لم يُعتمد بعد، عندما صوّت مجلس النواب العراقي عام 2012، على اعتماد نشيد آخر يرتدُّ للقُطْريّة ويطلّق القومية العربية: "سلامٌ على هضباتِ العراقِ وشطّيهِ والجُرفِ والمُنحنى" من تأليف الشاعر محمد مهدي الجواهري.
النشيد الوطني الكويتي من كلمات أحمد العدواني، وَألحان إبراهيم الصولة، وَتوزيع أحمد علي (ثلاثتُهم كويتيّون)، أبقى على شَعرة العروبة بين سطوره، حيث يردُ فيه: "وطني الكويت سلمت للمجدِ... يا مهد آبائي الأُلى كتبوا... سِفْرَ الخلود فَنادت الشهبُ... الله أكبر إنهم عربُ".
النشيد الوطني الموريتاني أبقى، بدورِهِ، للعروبةِ بين حروفِهِ نصيبًا: "نَماك الأماجد من يعربِ... لِإفريقيا المنبعِ الأعذبِ". عروبةٌ مطعّمة بروحٍ أفريقيّة، كيف لا وَموريتانيا هي اسم أفريقيا القديم ونبضُ عربِها وأمازيغِها وَمن شدّ الرّحال إلى الأندلس من القارّة السمراء.
أمّا النشيد اليمنيّ، الذي أنْبتَ كلَّ فكرةِ هذه السطور، المبجّل في معانيه، النديّ في لحنه، البهيّ في توزيعِهِ الموسيقيّ الكرنفاليّ، الشجيّ في تدابيرِ أثرِهِ داخل النفس وَالروح (نفسي أنا وَروحي أنا على الأقل)، فالعروبة فيه نابتةٌ أصيلة، عروبةٌ تستعيد لقب (الأمّة) حين تقصد العرب، وتودّ العرب وَترْجو حين تريد أن يكون لنا أمّة، وَأن نكون أمّة:
"ردّدي أيّتها الدنيا نشيدي... ردّديه وَأعيدي وَأعيدي... وَاذكري في فرحتي كلَّ شهيدِ... وَامنحيه حللًا من ضوءِ عيدي... ردّدي أيتها الدنيا نشيدي... ردّدي أيتها الدنيا نشيدي... وحدتي... وحدتي... يا نشيدًا رائعًا يملأُ نفسي... أنت عهد عالقٌ في كل ذمَّة... رايتي... رايتي... يا نسيجًا حِكته من كل شَمسِ... أُخلدي خافقةً في كل قمَّة... أمّتي... أمّتي... امنحيني البأس يا مصدر بأسي... واذخريني لَك يا أكرم أمّة... عشتُ إيماني وحبّي أمميّا... ومَسيري فوق دربي عربيّا... وَسيبقى نبضُ قلبي يمنيّا... لن ترى الدنيا على أرضي وصيّا".
عروبةٌ طالعةٌ من جبال اليمن السعيد؛ العودُ والعيبانُ وَبعدان... المنارُ والعصْر وصبْر... السَّرَوات والمَدْيَن والنِّد... حزْرُ والأيوبُ وشُبام... من عتاقةِ العروبة في تعز وَصنعاء وَعدن وَصعدة وَالحُديدة وَعمران وَذمار وحجّة وإِب وَمأرب... وَباقي البلاد التي أنجبت بلقيس وَسيف بن ذي يزن وَما انْحنت يومًا لمعتدٍ...

رددي أيتها الدنيا نشيدي 

يكفي أنَّ نَشيدَ اليمن كافأ الشاعر اليمنيّ عبد الله عبد الوهاب نعمان (الملقب بِالفضول) بعد رحيله باعتمادِ قصيدةً له تنشدُ الوحدة، نشيدًا وطنيًا في عام 1990 (عام الوحدة)، فالشاعر رحل عام 1982 (عِلمًا أنه من مواليد عام 1917)، وأُنْصِف كفاحُه وهو مؤسّس حزب الأحرار اليمنيين ومستشارُ كلّ الحكومات اليمنية، حتى رحيله، في شؤون الوحدة بين اليمنيْن آنذاك: اليمن الجنوبيّ وَاليمن الشماليّ. وهو صاحب الرسالة المنسيّة لِصانع السيوف (ثمّة قصيدة منسيّة لِلفضول عثر عليها الصحافي اليمنيّ محيي الدين سعيد في عام 2023، تحمل عنوان "رسالةٌ إلى القِين"، وَالقين هو صانع السيوف، يفجّر نعمان فيها، وَكما لو أنّه كتبها للتوّ، غضبه وَحنقه على كل من تسبّبوا بِتدمير اليمن وَأجياله الواعدة، وإِبقائهِ لِعقودٍ طويلةٍ في مربّع الفوضى وَتكالب الجغرافيا عليه: "أيُّها القينُ لِمن هذي السيوفُ... وَلمن أنت بِها اليوم تطــوفُ... قِينُ... إنَّ القينَ في أيديهم مثلُ أسيافك، قد ذلَّتْ ألوفُ").
وفي حين لا يحمل أيّ بعدٍ قوميٍّ لا النشيد الوطنيّ المغربيّ (1956) من تأليف الشاعر مولاي علي الصقليّ (1927 ـ 2007)، وَلا النشيد الوطنيّ التونسيّ "حُماةُ الحِمى" (1987) من تأليف الشاعر وَالأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (1888 ـ 1937)، مضافًا له بيتيْن للشاعر التونسي أبو القاسم الشابيّ (1909 ـ 1934): "إِذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرَادَ الْحَيَاةْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ... وَلَا بُدَّ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِي وَلَا بُدَّ لِلْقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِرْ"، وَلا النشيد الوطنيّ المصريّ (1979) من تأليف الشاعر والمسرحيّ المصريّ محمد يونس القاضي (1888 ـ 1969)، فإنّ كلمات النشيد الوطني السوريّ (1936) فيه وصفٌ لسورية يرى فيه مؤلّف النشيد، الشاعر السوريّ الدمشقيّ خليل مردم بك (1895 ـ 1959)، أنَّ بلدَه عرينُ عروبةٍ وبيتٌ حرام: "حماةُ الديار عليكم سلام... أَبَتْ أنْ تَذِلُّ النفوسُ الكِرام... عرينُ العروبةِ بيتٌ حَرام... وعرشُ الشّموسِ حِمَىً لا يُضَامْ". حتى النشيد الوطنيّ السوريّ القديم "سورية يا ذات المجد" (1923) الذي نظَمه الشاعر اللبنانيّ مختار التنّير ولحَّنه اللبنانيانُ (الأخويْن) فليفل (محمد (1899 ـ 1999)، وأحمد (1906 ـ 2000)) ملحِّنا النشيد الوطني السوري الثاني المعتمد حاليًا "حماة الديار"، وأنشودة "موطني" ومئات الأناشيد الوطنية والدينيّة والقوميّة واليساريّة والإنسانيّة، فقد حملت لازمتُهُ بعدًا قوميًّا: "سنُدافع عنكِ من القلبِ فبكِ قد سال دمُ العُرْبِ".




أمّا السلام الملكي الأردني (1946) فيصف كاتبَه الشاعر عبد المنعم الرفاعي (1917 ـ 1985)، المَليك الذي يعيّشُ النشيدُ له أنّه ملكُ العرب العائد بنسبِهِ إلى النبيّ الهاشميّ: "يا مليكَ العربِ... لكَ مِن خيرِ نَبي... شرفٌ في النَّسَبِ"، ثمّ يختمُ قفلةَ النشيد/ السلام بِالقول: "تحتَ أعلامِك مجـدُ العربِ"، دون أن ينسى، قبلَ ذلك، رَبْطَ حُكْمِ الملك الهاشميّ عبد الله الأول بالنهضةِ العربية التي تحقّقت، كما يرى الشاعر، بعد الثورة العربية الكبرى، قائلًا: "نحنُ أحْرزنا المُنى... يومَ أحييتَ لنا... نهضةً تَحْفِزُنا".
وعلى منوال السلام الملكيّ الأردني، يذهب محتوى النشيد الوطنيّ العُمانيّ (2020)، لِمؤلّفه الشاعر العُماني حفيظ بن سالم السيل الغسّاني ابنُ صَلالة، إلى أن العُمانيين هم أوفياءٌ من كِرام العربِ منذ عهد النبيّ: "نحنُ من عهدِ النبي... أوفياءُ من كِرامِ العربِ".

قصصٌ وحكايات
كثيرٌ من القصص وَالأحداث ترتبط بالنشيد الوطني لِهذا البلد العربيّ، أو ذاك، فمن الطريف أن نعرف، على سبيل المثال، أن مستهل كلمات النشيد الوطني المصري مأخوذة من خطبةٍ وجدانيةٍ وطنيةٍ مؤثّرة ألقاها الرمز السياسي وَالوطني المصري مصطفى كامل (1874 ـ 1908)، قال فيها: "بلادي بلادي لكِ حبي وَفؤادي... لكِ حياتي وَوجودي، لكِ دمي، لكِ عقلي وَلساني، لكِ لُبّي وجِناني، فأنتِ أنتِ الحياة... وَلا حياة إلّا بكِ يا مصر".
من الحكايات اللافتة المرتبطة بتأثّر بعض حِراكاتنا العربية خلال العشرية الماضية، بِدعوات الليبراليّة الغربيّة وَعناوينها من حقوق المرأة والطفل وَما إلى ذلك، فإنّ الحِراكيين اللبنانيين قرروا، فجأة، إضافة كلمة لِلنشيد الوطني اللبناني، جاعلين المقطع الذي يقول: "سهلُنا وَالجبلْ... مَنْبَتٌ لِلرجال"، فإذا بِهذا المقطع يصبح بعد اجتهادِهم: "سهلُنا وَالجبلْ... مَنْبَتٌ لِلنساءِ والرجال" ما أدّى ليس فقط لِكسرٍ في اللحن، بل إلى اغترابٍ وَخلْخلةٍ في وزن البنية الإيقاعية الأصلية والوزْن الشعريّ لِلقصيدة التي كتبها الشاعر اللبنانيّ رشيد نخلة وَوضع لحنَها الموسيقي وديع صبرا عام 1927. المعنيون بالشأنِ اللبنانيِّ يرون أن فكرة التغيير الفاقِعة هذه ألْحقت بـ"الشاعر الكبير" رشيد نخلة (1873 ـ 1939) ظلمًا صارخًا، فهو لم يقصد، بحسبِهم، عند قوله "الرجال" أيَّ انحيازٍ ذكوريّ، وإنّما "قصد الصلابة والقوّة ولمْ يسعَ إلى التّقليل من شأنِ المرأة، وهُو الذي كتب عن المرأة أجمل القصائد".
"يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وَطويناه مثلما يطوى الكتاب، يا فرنسا إنّ ذَا يوم الحساب، فاسْتعدي وخُذي مِنّا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب، وَعَقدنا العزم أن تحيا الجزائر... فاشْهدوا فاشْهدوا"- مقطعٌ من النشيد الوطني الجزائريّ كان محذوفًا إلى أن أصدرَ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون، العام الماضي 2023، مرسومًا رئاسيًا يفرض الأداء الكامل لِلنشيد الوطني بِمقاطعه الخمسة، ليشمل المقطعَ الوارد أعلاه، علمًا أنه نفسُه المقطع الذي لَطالما أثار غضب (الأخت) فرنسا. إعادة المقطع الذي يهدّد باقترابِ يوم حساب الجمهورية الفرنسية التي استعمرت جزائرَنا عشرات السنين، يشكّل جزءًا من سلسلة ضربٍ متواصلٍ تحت الحِزام بين المستعمِر والقديم، والحُر الذي تخلّص من الاستعمار؛ حيث أن ارتفاعَ دعواتِ فرنسيينَ إلى مراجعةِ قانون الهجرة "التفضيليّ"، هو الذي دفع السلطات الجزائريّة إلى إعادة المقطع المحذوف، ناهيكُم عن المطالبات الجزائرية المتواصلة بأن تعتذرَ فرنسا عن جرائمها بحقِّ الشعب الجزائريّ، وقصّة متحفِ الجماجم داخل أنفاق باريس (عاصمة النور)، فَكيف لِصفاء علاقات أن يسود بعد 130 عامًا من الجرائم المروّعة التي بلغت ذروتها في مطالع النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد انتصار فرنسا في الحرب العالمية الثانية متفرغةً بحقدٍ وعنفٍ وكراهيةٍ عنصريةٍ لِمستعمراتِها في أفريقيا وَآسيا (مسلسل "تاج" السوري اللبناني يتناول هذه المرحلة من الجرائميةِ الفرنسيّة، خصوصًا جرائم ما بعد أيار/ مايو 1945).

فدائي يا أرض الجدود 

من الوقائع العابرة المرتبطة بِالأناشيد الوطنية العربية وَغيرها، امتناع لاعبي بعض المنتخبات الرياضية عن تأديةِ نشيد بلادهم الوطنيّ في مناسبات رياضية وَمونديالات عالمية، تعبيرًا عن الاحتجاج على قمعِ متظاهرين، أو عن التعاطف مع مظاليم في بلادهم، أو معتقلين وما إلى ذلك من هذا القبيل.

مارشاتٌ فصيحة
بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ تنحاز معظم كلمات الأناشيد الوطنية العربية إلى لحنٍ وتوزيعٍ موسيقيٍّ يقترب كثيرًا من النوع الموسيقيّ الغربيّ المُسمّى "المارْش"، وهو عبارة عن قطعة موسيقية تعزفها الآلات، وتسمى نشيدًا إذا كانت مصحوبة بكلامٍ مُغنّى. وبعيدًا عن التفاصيل الموسيقية التقنيّة حول تلحينِ "المارْش" عادةً على ميزان ثنائي (2/4) يوافقُ زمن الخطوةِ العسكرية، وبسرعةِ 120 وحدة في الدقيقة على النّقرات السوداء، فإن النشيد يُلحّن عادة، كما "المارْش"، على مقاماتٍ خاصةٍ وَيختار اللّحن بحسب مطابقتهِ لِمعاني الكلمات، فإن كان المعنى حماسيًا اختير له مقام حماسيٌّ كَالعجمِ أو الرّاست، ويقابَل في الموسيقى الغربية بِالمقام الكبير لِما له من طابع لحنيٍّ يُثير الحماس ويلهِبُه.
إجمالًا، احتلّت الأناشيد حيّزًا لا بأس به في الفتوحات الإسلامية (منذُ هجرة الرسول إلى المدينةِ المنوّرةِ كَمقدّمةٍ لِفتحِ مكّة، وكلّنا يتذكّر، في هذا السّياق، نشيدَ "طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع/ وَجَبَ الشُّكرُ عَلَيْنا ما دعا للهِ داعْ" بلحنِهِ المتداوَل حتى يومِنا هذا)، وَمختلف الحروب وَالغزوات التي توالت في ما بعد، خلال العصرين الأمويّ والعباسيّ وصولًا إلى العصر الأندلسيّ، حيث استُعملت الصُّنوج والطُّبول وَآلات النّفخ، وكان النشيد يُؤدّى غنائيًا بمصاحبةِ الآلاتِ الإيقاعيةِ وبعضِ آلاتِ النّفخ التي أُدخِلت في العصر الأندلسيّ نظرًا لِتمازجِ الحضارةِ العربيةِ بِالحضارة الغربية.




كما أن الحركات الوطنية العربية والحروب والثورات وحركات التحرّر من الاستعمار شكّلت مُلهمًا أساسيًا لِانتشار الأناشيد الوطنية العربية، فها هو سيد درويش يحثّ، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، المصريين على النهوض وَالمطالبة بحريّتهم وَاستقلالِهم: "قوم ما مصري... مصر دايمًا بِتناديك... خُذْ بِنصري نصري دين واجب عليك"، بِتوزيعٍ هارمونيٍّ لِلنشيدِ ألّفه د. محمود الخطاب، أستاذ الهارمونيّ في المعهد الموسيقي بِالقاهرة.

فدائي... فدائي...
في عودة لِمستهلِ موضوعِنا، وَما ذكرناه من استعادةِ النشيد الوطني الفلسطيني عافيتَهُ وَمَعناه وروحَهُ وَموجباتِ الصّدح بِه، فإن دماءَ 40 ألف شهيد، أو أكثر، ضُخَّت في عروق النّشيد النّشيج الطّالعِ من براري الذاكرة وَابتسامات العناقيد... المتمسّك بِحكايات الجدّات وَوصايا الجُدود... نشيدٌ مضمّخٌ بِالعزيمة... مُجَلْجِلٌ بالثّأر... مباركٌ بِنارِ الغضب... مشعٌّ بِأشواق الشهادة لِلبلاد وَبيوت الحجر وَباسِقات الشجر... وهُو في معاني كلماتِهِ وَلهيبِ محتواه، يقودُنا إلى نتيجةٍ حتميةٍ، يبدو أن كلَّ ما فعلته الأنظمةُ العربيةُ مُحتكرةُ النشيد وَالعَلَم، غيّبتها عن شعوبِها، أو غيّبت شعوبَها عنها، ألا وهي أن الإكسيرَ الوحيدَ القادر على اختصارِ المسافةِ بين الشِّعار وَالواقع في الأناشيد الوطنيّة العربيّة، على طريقِ محوِها، هو الشعب، رغم أن هذا الشعب هو الغائب الكبير عن حسابات تلك الأنظمةِ وَخياراتِها وَهيَ تواجهُ عدوًّا مُحتملًا، أو مُفترضًا، أو مُختلقًا. تؤوبُ إليه، تعدلُ معه، تردّ له حقوقه، تشاركهُ قرارتِها الكبرى، فِإذا بكلِّ قسمٍ في كلِّ نشيدٍ يصبح حقيقةً ناصعةً من مجدٍ وانتصاراتٍ وانتزاعِ مكانةٍ في المحفلِ الكونيّ المسمّى معمورةَ الأرض... وَإذا بِيوم النّداء وَيوم الفِداء يجد من يلبّيه ويضخّ دمَ بسالتِهِ فيه... وِإذا بِنا كلّنا نصبح حقيقةً لِلوطن والعَلَم... ندفعُ كيدَ الأعادي وَالعَوادي... وَإذا بِميراثِ الجدود لا يعود حكرًا على طبقةٍ بِعيْنِها تستأثرُ بِه وتدّعي ملكيّته وحدها... وَإذا بالشعبِ العربيّ كلّه يهتف: "رضعنا لِبان النّدى والإِبا سَجايا حملنَ جَنَى طيّبا وَمرعى خصِيبا"... وجميعُنا نعقدُ العزمَ أن تحيا بلادُنا... وجميعُنا نردِّدُ: "اللهُ أكْبَر يَا مَوْطِنِي مَوْطِنِي"... وَنُقْسِمُ أنّنا "نتحدّى الموتَ عندَ المِحَن"... ونهتف: "الشبابُ لنْ يكِلَّ هَمُّهُ أنْ تستَقِلَّ أو يَبيدْ... نَستقي منَ الرَّدَى وَلنْ نكونَ للعِدَى كالعَبيدْ كالعَبيدْ... لا نُريدْ لا نُريدْ... ذُلَّنَا المُؤَبَّدا وعَيشَنَا المُنَكَّدا... لا نُريدْ بلْ نُعيدْ مَجدَنا التّليدْ مَجدَنا التّليدْ"... وكلّ منّا يحدبُ على وطنهِ ويقول له: "سلمتَ للمجدِ وَعلى جبينكَ طالعُ السَّعدِ"... ونصدحُ جميعُنا بِعالي الصّوت مع نشيد يمنِنا الحبيب: "ردّدي أيّتها الدنيا نشيدي... ردّديه وَأعيدي وَأعيدي... وَاذْكري في فرحتي كلَّ شهيدِ... وَامْنحيه حُللًا من ضوءِ عيدي... ردّدي أيتها الدنيا نشيدي... ردّدي أيتها الدنيا نشيدي"... مؤمّلين وحدةً عربيةً حقيقيةً مُشتهاة... صارخينَ بوجهِ كلِّ ظلّامنا: إمّا حياةٌ كريمةٌ عزيزةٌ نكونُ فيها الرقمَ الصّعب... أصحابَ قرارِ الشَّعب، أو مَمات.
ولأنّ النشيدَ اليوم هو من حقِّ أصحاب الطّوفانِ... مَن جعلوا لِرقم سبعة كلَّ هذي المعاني... فَتعالوا نقفُ جميعُنا، وَنتْلو معًا نشيدَ فلسطين:  
"فدائي فدائي فدائي
يا أرضي يا أرض الجدود
فدائي فدائي فدائي
يا شعبي يا شعب الخلود
بِعزمي وَناري وبُركان ثاري
وَأشواق دمّي لِأرضي وَداري
صعدتُ الجبال وخضتُ النضال
قهرتُ المُحال حطمتُ القيود
فدائي فدائي فدائي
يا أرضي يا أرض الجدود
بِعصف الرياح وَنار السلاح
وإصرارِ شعبي لِخوض الكفاح
فلسطين داري فلسطين ناري
فلسطين ثاري وأرضُ الصمود
فدائي فدائي فدائي
يا أرضي يا أرض الجُدود
بحقِّ القسم تحت ظلِّ العلم
بِأرضي وَشعبي وَنار الألَم
سَأحيا فدائي وَأمضي فدائي
وَأقضي فدائي إلى أن أعود
فدائي فدائي فدائي
يا أرضي يا أرض الجُدود".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.