}

خان يونس: نفقٌ قديمٌ مُقيمٌ يَلْمَعُ في مُرتقاه ضوء

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 2 ديسمبر 2023
أمكنة خان يونس: نفقٌ قديمٌ مُقيمٌ يَلْمَعُ في مُرتقاه ضوء
خان يونس تحت القصف
هِكْسوسِيّةٌ هِيَ مدينة خان يونس، كنعانيةٌ قديمة. في قلب مثلثٍ عمرانيٍّ حضريٍّ تليدٍ عتيدٍ معتّقٍ تقع؛ زوايته الشمالية غزّة، والجنوبية رفح، والشرقية تل الفارعة، أما غربها فبحر غزّة الذي نقول لكل طامعٍ فيها وفي أخواتها من مدن القطاع ومخيماته: "اللي مش عاجبه يشرب من بحر غزّة"، مُقتبسين ردّ الراحل ياسر عرفات على المشكّكين بجنوحِه للحلول السلميّة دربًا إلى الدولة والقدس والأماني: "هيَّ خطة واحدة هتنتصر... هيَّ خطة الشعب الفلسطيني لتأسيس الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، شاء من شاء وأبى من أبى، واللي مش عاجبه يجي يشرب من بحر غزّة"، بلهجته المطّعمة بمصريّةٍ خفيفة الظل.
خسر رهان السلام يا أبا عمّار، ليس بسبب سوء تقدير منك، بل بسبب سوء تموضعٍ إسرائيليّ داخل خنادق التاريخ، وبؤس المنطوقات المحرّفة، وخبث الاسترْزاق الصهيونيّ من مسروقات النصوص، وانتهازيةٌ استعماريةٌ وجدت في كل هذا وذاك ضالّتها الكبرى، كي تزرع الإسْفين في أرض فلسطين.
عتيقةٌ تلك المدينة الموشّحة بأنفاس الأرض والحقول، المُلقيةُ على بئر السبع سلام المشتركات بينهما. ليس بعيدًا عن خزاعة وهي منها، ومن عبسان فيها اثنتان؛ الكبيرة والصغيرة، وفيها بني سهيلا ومعِن والقَرَارةُ غربُها نحو البحر، بهوائها الذي كان قبل الحرب نقيًّا، وأجوائها التي كانت قبل الخسّة هادئة، وقِيزان النّجار والسّطر الغربيُّ والشرقيّ.
عتيقةٌ من عتاقةِ الكنعانيين في أرض فلسطين، أهلها الذين منحوها اسم "تل العجول" والمثل يقول: "ما يحرث الأرض إلا عجولها".

نفقٌ وضوْء...
الطريف في حكاية خان يونس وسرديّتها التاريخية أن الأنفاق قدرها منذ بدايات نشوئها قبل زهاء خمسة آلاف عام، حيث يروي عالم الآثار الإنكليزيّ السير وليام ماثيو فلندرزبيتري (1853 ـ 1942)، الذي اكتشف في عام 1933، النفق القديم المقيم في المدينة الكنعانية منذ آلاف السنين، أن أهالي خان يونس كانوا يَتوارون داخل ذلك النّفق في أوقات الشدّة، حيث يبدو أن تلك الأوقات هي قدرٌ آخر، كُتِب على المدينة المجبولة بالإِباء، أن تواصل مواجهته من أوّل الزمان حتى آخر الزمان.
فلندرزبيتري عالم المصريات ومكتشف تل العمارنة ولوحة مرنبتاح، الذي أعجبه أن يجعل تقاعده حتى رحيله في القدس مع زوجته (ولا نعرف دوره بالتمهيد لادّعاءات العصابات الصهيونية في أرضنا، وليسامحنا، غفر الله له ولنا، على سوء ظنّنا، فمعظم مستشرقي أوروبا وعلمائها هم من دفعونا لكلِّ سوء الظّنِّ هذا)، تحدّث عن ملامح عمارة كانت موجودة في نواحي تل العجول، وعن سماتٍ تتقاطع مع سماتٍ تشبهها في بئر السبع، وعن أساسات وبقايا مباني تعود للألف الثالثة قبل الميلاد.
في آخر النفق ضوء، ليس فلندرزبيتري من يقول هذا، بل أوجاع خان يونس، وعشقها السرمديّ للحياة والمسرّات.

حضارةٌ مَنيعة
لن نتوقّف كثيرًا عند قصة اسمها الجديد: خان يونس، بعد "تل العجول"، بين من يُرجع الاسم للأمير المملوكيّ الداودار يونس التوروزيّ، مقسّمين اسم المدينة إلى مقطعيْن: خان وهو النُّزُل، مكان استراحة المسافرين وإراحة الدّواب، ويونس اسم الأمير الذي بنى الخان فيها في النصف الثاني من القرن الرابع عشر (السنة الهجرية 777 تقريبًا)، على اعتبار أن المدينة بصيغتها المتجددة هي من صنيع المماليك ومنتوجِ عمارتهم، وبين من يرجع الاسم إلى جنيس Jenysus بحسب المؤرّخ الروماني هيرودوت، أو هيرودوتس.




ولكنّنا سنتوقّف كثيرًا عند أوجِها ووهجِها ومناعتِها، حيث كان يحيطها (كما كل المدن المنيعة في الزمن القديم) سور، وحيث عصيّة كانت تردّ عن حرماتها الطامعين، وتحمي الثغور، لنسائِها وُشوم، ولرجالِها هِمَمُ العَماليق.
زهوُها حفّز نشوءَ مدنٍ رئيسيةٍ عديدةٍ حولَها، مثل وادي الشريعة شرقها والشلّالة غربها. وفي الفترة الهكسوسيّة زادت مناعة المدينة، وتطوّرت كلُّ مؤشرات الحضارة والعمارة فيها. ازدهرت الزراعة، وغدت قاعدة عسكرية منيعة (يبدو أن المناعة والاستعصاء على الأعداء ديدنُها، فها هي اليوم تردّ كل مناورةٍ صهيونيةٍ بريّةٍ جبانةٍ ردًّا مزلزلًا، ما يلبثون أن يتقدّموا حتى تحترق الميركافا، وتُبتر أقدام المعتدين). كما حفّزت نشوء مدينة دير البلح شمالها. امتدّ زهو "تل العجول" حتى مطالع الألف الأولى قبل الميلاد (أي أن ينابيع الحضارة ظلّت قائمة في المدينة وحولها زهاء ألفي عام، من الألف الثالثة قبل الميلاد، وحتى الألف الأولى قبل الميلاد).

قلعة برقوق في خان يونس 

واصل الفلسطينيون (نسبة إلى فلستي أحد أبناء كنعان) الزهوَ الذي أسّسه في المدينة أبناء عمومتهم من أحفاد كنعان الآخرين (ومنهم الهكسوس)، فحافظت المدينة على سماتِها الكنعانية، وبلغت تحت سيطرة الفلسطينيين ذروة مجدها الاقتصاديّ والعمرانيّ، من دون أن تَرْفُض بعض الإضافات المصرية والآشورية في أزمانها اللاحقة، فاتحة عنفوانَها للقبائل العربية التي جاءتها من شرقها وجنوبها، معبّرة عن ترحيبها هذا بإعفاء أراضي تلك القبائل من الضرائب (تعفي خان يونس القبائل العربية من الضرائب، ولا يعفونها، بدورهم، من الخذلان). ولعل في ما قاله هيرودوت، ذات إقامة فيها، ما يوضح، أو ما يعقّد، أو ما يتوه بين الوضوح والالتباس: "إن الأرض الممتدة من جنوب فينيقيا، حتى مدينة غزّة، يسكنها سوريون (كنعانيون) يُسَمّوْن بالفلسطينيين، وجميع الموانئ من غزة إلى مدينة أينوسوس تتبع ملك العرب، وتنتمي للسوريين (الكنعانيين)".

موعد مع المذبحة...
شأنها شأن كثير من مدن فلسطين الحديثة، فقد أخذت خان يونس نصيبها من المذبحة الممتدة منذ قررت عصابات صهيونية إقامة كيان فوق أرضنا، ففي عام 1956، وبعد العدوان الثلاثيّ (الصهيونيّ الفرنسيّ البريطانيّ) على مصر، تعرّض أهل خان يونس إلى مذبحة مروّعة بتهمة قتالهم مع مصر، ومساندتهم لها في دفاعها عن نفسها، واشتراكهم في المقاومة (يبدو أن المقاومة قدرٌ ثالثٌ من أقدار الغزيّين). يقول الباحث الفلسطينيّ سامي الأسطل، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأقصى: "بدأت خيوط المجزرة بإلقاء الاحتلال منشورات من الطائرات تحذّر السكان من مقاومة القوات الإسرائيلية، قبل أن تدفع بآلياتها العسكرية نحو شوارع خان يونس، وتطالب عبر مكبّرات الصوت بخروج الذكور من عمر 16 وحتى 50 عامًا. ثم سرعان ما استعرت عمليات القتل الجماعي للمدنيين المسالمين، وتقتيل المرضى على أسرّتهم في المستشفيات والأطباء أثناء تأديتهم واجباتهم الإنسانية، والطلبة والفتيان والأطفال والنساء والشيوخ بالجملة. وبينما أطلق الجنود الرصاص على المتجمّعين بالساحات العامة بشكل عشوائي، لم ينج من بقوا في منازلهم من القتل أمام أعين عائلاتهم، تحت نار القصف والإعدامات الميدانية".
سامي الأسطل يصف مجزرة خان يونس بـ"الفريدة"، كونها "ارتكبت بإرهاب دولة إسرائيل المنظّم، وليس من عصابات يهودية، كما حال مذابح أخرى، إضافة إلى أن معظم المذابح كانت تحدث ليلًا، ولساعات محدودة، لكن خان يونس شهدت مذبحة في وضح النهار، واستمرت لأيام عدة".
أقدار أخرى تضاف إلى قدريّات غزّة القطاع، وخان يونس المدينة: اقتحام المستشفيات، استهداف الأطباء والقطاع الطبيّ على وجه العموم، قتل الأطفال والفتيان، تقصّد تحويل المدارس والأسواق والساحات العامة إلى أماكن غير آمنة، قتل الجميع الذين يخضعون للتعليمات والذين يرفضونها.




الأرقام الموثّقة تشير إلى أن عدد شهداء تلك المذبحة بلغ 520 شهيدًا، إلا أن باحثَنا يرفض هذا الرقم، مؤكدًا أن الأعداد تتجاوز ذلك، "إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشهداء غير الموثّقين" (قدرٌ عاشر يتمثّل بوجود شهداء غير موثّقين، كما هي حال المذبحة القائمة حاليًا، قابعين تحت الأنقاض).

غربُها مخيمُها
إلى الغرب من مدينة المسافرين نحو البحر يقع مخيم خان يونس، وهو، على كل حال، أقل كثافة من مخيميّ جباليا والشاطئ على سبيل المثال، إذ يمتدّ على مساحة كيلومترين مربعين، وليس كيلومتر واحد كما في حالة مخيم جباليا، أو أقل من ذلك كما في حالة مخيم الشاطئ، ويقطنه زهاء 50 ألف لاجئ جاءوا إليه من مدن: حيفا، ويافا، واللد، والرملة، والمجدل، وقرى: بيت دجن، وصرفند، وأسْدود، وبرقة، وياصور، وعرب صقرير، وعرب أبو سويرح، والمسميّة الكبيرة، والمسميّة الصغيرة، والبْطاني الغربي، والبْطاني، وحنين، ويبْنا، وغيرها.
صامدٌ مخيمُها غربها، كما هي صامدةٌ شرقه، فَالصمود في غزّة عابرٌ للجِهات.

خيام اللاجئين في خان يونس 

الزراعة والعمارة
بعبقِ الجوافة، يزرع أهل خان يونس الفواكه والمحاصيل والحبوب. ومنهم من يتخصصون بتربية الماشية والدواجن. وبعد تفكيك مستوطنات غزّة في عام 2005، وصل بعض سكانها إلى البحر، وجرّبوا حظهم في صيد الأسماك. أما البطيخ والشمام فهو لعبتهم، ويبدعون في زراعته، وأما الحمضيات فهم يزرعونها كما كان يفعل أهل يافا وحيفا، وغيرهما، ويزرعون، إلى ذلك، اللوز، والزيتون، والقصب، فَمياههم عذبة وَتربتهم رطبة.
عمارتها تجمع في سماتها أكثر من طراز، منها المصرية المعتمدة على طوب اللبن، ومنها المشيّدة بحجارة نابلس. أما نظام الشوارع في المدينة فيتألف من خطوط متعامدة وشبْه متوازية، وهو ما يعرف بالمخطط المستطيل الذي يتناسب مع طبيعة المدينة السهليّة المُنبسطة.
شارعان رئيسيان متعامدان يشكّلان قلب المدينة، حيث الأسواق والأرزاق. أما شارع جمال عبد الناصر، الذي تطل قلعة برقوق على امتداده الشمالي الجنوبي، فإنه يعد من أكثر شوارع المدينة قِدمًا. شارع البحر من الشوارع الحديثة نسبيًا باستثناء الجزء القريب من شارع القلعة والمتعامد عليه، فهو من أكثر أجزاء شارع البحر قِدمًا. هذان الشارعان الرئيسيان أسهما في نموّ مدينة خان يونس، وفي إعطائها شكلها العام.
في خان يونس مدينة رياضية، وفيها مكتبة عامة، وجامعة الأقصى، ومستشفى ناصر (يتكرر اسم ناصر كثيرًا في خان يونس، ما يؤشر، ربما، لتأثّرها بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، ويعكس روحها القومية). أما قلعة برقوق فهي من أبرز معالمها التاريخية.
ولأزيدكم من الشِّعر بيتًا، فإن أول سيارة سباق فلسطينية صُنعت عام 2011 في خان يونس.
ومن الصناعات الممكنة فيها، والأقرب، في معظمها، من روح المشاريع الفردية، ومبادرات المشاريع الصغيرة: صناعة الألبان، والخبز، والحلويات، وغزل الصوف، والتجارة، والحدادة، الورش المختلفة، وصناعات أخرى، مثل: الصناعات الغذائية، الكيماوية، السجاد والملبوسات، ومواد البناء، صناعة الأخشاب، أما صناعة الغزل والتريكو والأقمشة فقد ازدهرت منذ خمسينيات القرن الماضي وستينياتِه على أيدي أبناء المجدل وعسقلان الذين لجأوا إلى المدينة وأقاموا فيها بعد هجرة عام 1948.
عبر نسيمٍ عابرٍ للبِحار، مع لمحة من الصحراء المتوسطيّة، وغير بعيدٍ عن إقليم النَّقب، تتوزّع المدينة أحياء وحارات ونواحٍ كثيرة، منها: حي الشيخ ناصر، البطن السمين، المعسكر، الأمل، جورت اللوت، قيزان أبو رشوان، السلام، قاع القرين، المنارة، المحطة، الكتيبة، الجلاء، النصر، التحرير، المواصي، القرى، وغيرها.
بزهاء نصف مليون نسمة، يتوزّعون مساحة لا تتعدّى 54 كيلومترًا مربعًا، تصبح خان يونس مدينة للتكاتف وشد الأزْر. بُقعةٌ غاضبةٌ ترفع أكفّ الدعاء بعد كل صلاة في مسجدها الكبير، ليس بعيدًا عن مقام إبراهيم الخليل في عبْسان الكبيرة، وليس قريبًا من مصر التي في خاطرها، وقفت معها في عدوان 1956، وها هي اليوم تنتظر الوقفة المقابلة، وردّ الجميل الأصيل. وهي في انتظارها الطويل، تمدّ يديها نحو جذع النخلة الأخيرة في دير البلح، علّه يسّاقط فوق أفواه أبنائها رُطَبًا نديًّا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.