}

في تتبع تاريخ التعب على مدى عشرة قرون

عمر كوش عمر كوش 27 ديسمبر 2023

يصعب كثيرًا تتبع تغيرات الأحاسيس الإنسانية عبر الزمن، خاصة حين يتعلق الأمر بالتعب، فهو الأكثر حضورًا في الاهتمامات المشتركة للناس، إذ لازم الإنسان منذ القدم، ولا يزال يمثل ظاهرة غنية بالتحولات والمفاجآت، جذبت العديد من الفلاسفة والمفكرين والباحثين، وتناولوه بالدراسة والتحليل، فيما لم ينقطع سعي الإنسان الحثيث للتخلص من التعب، وما يترتب عليه من شعور بالإرهاق والوهن واستنفاد القوى. وأصبح مثل هذا السعي حلمًا عزيز المنال في عصرنا الراهن، حيث اشتد التعب الجسدي والنفسي، وازدادت الإكراهات والمعيقات، إضافة إلى تفاقم القلق إلى أبعاد غير مسبوقة، وبما حول الناس إلى حفنة من المتعبين، تحمل أجسادها المنهكة.

مع تقدم الزمن، شكل التعب أحد أبرز سمات المجتمعات البشرية الراهنة، ويمتد مكان العمل إلى البيت، ومن السلوك اليومي إلى أوقات الفراغ، ولا تنفك أعراضه عن التغير مع التقدم التكنولوجي والعملي، لذلك، بات يحظى باهتمام أكبر في العصور الحديثة، بالنظر إلى ازياد انتشاره، واشتداد تأثيره على الناس، واتساع مجالاته عبر الضغط النفسي والإجهاد الجسدي والذهني. وفي هذا السياق، يقدم الأنثروبولوجي الفرنسي جورج فيغاريلو في كتابه "تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى أيامنا هذه" (ترجمة محمد نعيم، صفحة 7، الجبيل، 2023) بحثًا جامعًا، هو الأول من نوعه، يستعرض فيه تاريخ التعب على مدار عشرة قرون كاملة، ويتخذ من بلده فرنسا نموذجًا للبحث، وذلك بالاستناد إلى عدد كبير من المعطيات والحكايات والروايات الثقافية والأدبية والعسكرية والدينية، ودراسات ووثائق علمية وتقنية، مع التصدي لأسئلة ظلَّت تؤرق البشر طوال قرون عديدة حول تاريخ التعب، الذي جرى التعامل معه باعتباره ظلًا للإنسان وشاهدًا على محدوديته وشيخوخته وفنائه، وليس مجرد عرض لعصر بعينه، أو نتيجة لممارسات خاطئة.

شهدت مظاهر التعب تطورًا رهيبًا من عصر إلى آخر مع تغير منظومة العمل والقيم والعادات، بالتالي اختلفت مفاهيمه وتنوعت طرق وصفه وعلاجه من حقبة إلى أخرى، حيث طاول التعب كل جوانب حياة الفرد، وظل يلاحقه في حياته اليومية، وفي علاقاته بأقاربه وجيرانه إلى أصحابه وأهله، ليتغلغل في كل أيامه ولياليه، ويسطو على أكثر لحظاته حميمية.

ينطلق فيغاريلو من فرضية، تعتبر أن تحقيق الفرد للاستقلالية، حقيقية كانت أم مفترضة اكتسبها في المجتمعات الغربية، واكتشاف "أنا" أكثر استقلالية، وتزايد الحلم بالانعتاق والحرية، قد زاد من صعوبة العيش مع كل ما يكره ويعيق، خاصة إذا أضفنا الوعي بالعقبات وبصنوف الهشاشة والقابلية للعطب، وبالتالي لا يمكن للتعب في هذه الحالة إلا أن يشتد وينتشر في صمت، مهددًا اللحظات العادية أو غير المتوقعة، حيث يفرض نفسه في الفضاء العام والخاص، وفي مختلف أصناف العمل، وفي العلاقات مع الأقارب، وكذلك في علاقات الإنسان مع نفسه.

يفرض إدراك التعب في هذا الإطار التاريخي الذي يتبدل تقويمه، وتتغير أعراضه من فترة إلى أخرى، عبور تواريخ عديدة، تخص تاريخ الجسد، وتاريخ تمثلاته وممارسات الصحة، وتاريخ أشكال الوجود والكينونة، وتاريخ البنيات الاجتماعية، وتاريخ الحرب أو الرياضة، فضلًا عن تاريخ البنى النفسية للإنسان وصولًا إلى حميميته. إضافة إلى أن الإطار الجنيالوجي للتعب يظهر كيفية ترسخه في الأجساد البشرية، فهو مسجل عبر القرون في الوعي، وفي البنيات الاجتماعية وتمثلاتها، ويتسع من جديد ليصيب البشر في العمق.

يبدأ البحث من العصور الوسطى، حيث نال التعب من المشاة والمسافرين، وكان صناع الأدوية والعقاقير يتوجهون إلى من كانوا يريدون شدّ الرحال، ومن أنهكهم الطريق: تجار أو حجاج أو فرسان واجهوا فضاءات غير آمنة. كما نال من المحاربين، أولئك المدافعين عن المدن الذين تناولت الروايات والحكايات أخبارهم، وتناولت أيضًا سيَرَ القديسين الطامحين إلى الخلاص، وكرسوا أنفسهم لقاعدة الحرمات. إضافة إلى تعب العمل، أو التعب اليومي، الأقل قيمة بعد القتال والسفر و"الخلاص"، كان تعب المحارب أمرًا أساسيًا في العصور الوسطى، في حضارة يجسّد فيها الجيش القيمة الأولى، فهو مبجل ومكرّم، ويستحق التقدير، في حين أن تعب الفلاح كان محتقرًا. وقد وصل الأمر إلى احتساب التعب حتى في خوض المبارزات، التي كانت في القرن الخامس عشر، ويجري رفع شأن المنتصر، بحسب عدد الضربات التي يسددها المتحاربون في وقت التحدي، حيث كان المتفرّجون، في ذلك الوقت، يقومون بحساب عدد الأشواط والضربات، بين المتبارزين وتقدير قسوتها، "ويثمنون الضراوة ويقومون مدتها، مثل تحدي 15 ديسمبر 1445 في مدينة غنت البلجيكية، حيث واجه جاك دي لالينغ في نزال فارسًا حتى الليل". وقد حكمت صورة مركزية التعب القديم، تجسدت في صورة الفقدان، فالإضعاف يتوافق مع النقصان والعجز في المواد الأساسية للجسم، ذلك أن تمثلات الجسد، وتجددها، توجه الإحساس بالتعب، إذ ارتبطت أقدم صورة للجسد تلك التي تربط حالة التعب بفقدان الحالة المزاجية، فالجسد المتعب هو جسد ذابل، والإرهاق يفضي إلى تسرّب المادة وانهيار الكثافة، فيما يمكن الكشف عن التعب خارجيًا بالقدر الذي يظهر داخليًا، لذلك اتجه الديبراندين من مدينة سيينا، وهو طبيب إيطالي في القرن الثالث عشر، نحو الأشكال أو الألوان في الجسد، من دون إبراز دقتها، ففائضها يجعل الجلد محمرًّا، ونحيلًا أيضًا، بينما يبقى الغضب والهموم والمرارة والأوهام التي يمكن أن ترتبط آثارها بالمتاعب.

يستعرض جورج فيغاريلو  تاريخ التعب على مدار عشرة قرون كاملة، ويتخذ من بلده فرنسا نموذجًا للبحث


سادت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مشاهد التوبة ومواكبها إذ كان الحجاج يسيرون حفاة، ويصفها فيغاريلو بـ "الإماتة الجسدية"، التي كانت تتجسد في ممارسة الزهد الديني المتمثل في تعذيب الذات، كما تقول كارين أولتشي، حيث يمسي قبول الألم، طريقة لضمان الغفران. وكانت رحلة الحج شأنًا قضائيًا عندما كانت تطلقه الكنيسة أو القضاة عقوبة وتوبة، ففي عام 1387 جرى العفو عن جان بيغو دي سان موريس دي نو، المدان بجريمة قتل، "على شرط أن يذهب إلى كاتدرائية نوتردام دو بوي" سيرًا على الأقدام، "ويقوم بمائة قداس لنجاة روح القتيل". كما منح في عام 1393 عفوًا لاثنين من سكان أبرشية أزاي لو برولي اللذين شاركا، قبل أربع سنوات، في قتل لص ونهب امرأة شريطة أن يذهب أحدهما إلى دام دو بوي، والآخر إلى سانت جاك دو غاليس، لكن هذه الممارسات اختفت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ليحل محلها الجلد والتعذيب. أما الأقنان فذاقوا كل أنواع الحرمان، وكل المشاق، وكل الأحزان، إذ كان القنّ كائنًا يمكن تشكيله وتشغيله واستغلاله حسب رغبة سيده، منكبا ليل نهار، ومكلفا بمهام كثيرة. وكان المشتغل محكومًا بالعجز، وخاضعًا لقانون صارم منزل من السماء، بمجرد وجوده، وبما يجعل التعب أمرًا إلزاميًا. ومع نهاية القنانة في القرن الثالث عشر، سمح التوسع الاقتصادي في المدن للعديد من الأقنان باسترداد حريتهم، وقلب العمل من مدة غير محدودة إلى مدة معدودة، وتحولت المدن إلى مكان للمبادلات، حيث استقرت فيها مجموعة من المهن، وتمايزت مجموعة من الأحياء، وتمأسست أنماط حياة، وانتشرت قوانين.

اختلفت ألوان التعب مع عصر النهضة الأوروبي، وزادت وطأته مع العمل لساعات طويلة، بغية تحقيق المردودية الإنتاجية التي كان يطلبها أرباب العمل، حيث كان أغلب العمال يواصلون العمل "من أربع عشرة ساعة إلى ثماني عشرة ساعة في أكثر المواقف إيلامًا". وظهرت أعراض جديدة للتعب، وتجسدت في الإرهاق المرتبط بالإثارة الفائضة، والضعف الناجم عن التوترات المتكررة أو المستمرة بشكل دائم. ولم يعد نقص الجسد مرتبطًا بفقدان المادة أو الأخلاط، بل في الذبول أو الهزال الذي أصاب الطبقة العاملة، إلى جانب وهن لا يمكن قهر تأثيره على الفرد، نتيجة العوز بقدر العناء المفرط، فالحدود كانت تتغير، كي تنشأ مستويات جديدة من خلال خراب النفس والجسد. بالمقابل، تكشفت أعراض الاكتئاب الجسدي أو المعنوي التي أثارها أثرياء القرن السابع عشر، الذين كانوا يشكون من نقاط ضعف لم تكن معروفة من قبل، وتلك الأوجاع والآلام، التي استحضرت مع ثقافة القرن الثامن عشر الحسية، وكانت تشير إلى آلام غير ملفتة، ومهملة سابقًا. أما في القرن التاسع عشر، فقد ترسخ المجتمع الصناعي، وبات ينظر إلى الجسد بوصفه جهازًا نشطًا، يجسد الاحتراق الكيميائي قوته، ويجسد احتياطي السعرات الحرارية إمكاناته، ومع هذا التغير تغيرت علامات التعب، لتتحول إلى فقد الأكسجين وانطفاء الحرارة، كما تغير كذلك التخلص من التعب، كي يصبح استعادة السعرات الحرارية وإمدادات الطاقة، وإزالة بقية الخبث المتبقي في الجسم من الكيمياء العضوية. وفي نهايات القرن التاسع عشر اعتبر إرهاق العمال موضوع تقييم ومحاولة تبرير، لكن مع بداية القرن العشرين، بدأ التفكير في التغلب على ذلك الإرهاق ومقاومة التعب والإجهاد من خلال أنشطة جديدة، تمثلت في الرياضة والاسترخاء والاستجمام، في حين أنه، خلال الحرب العالمية الثانية، جرى تحدي التعب، بواسطة إنتاج الأمفيتامينات، بغية تمكين الجنود من القتال دون نوم لأيام، فيما ذهبت الأنظمة النازية والفاشية إلى إطلاق العنان لدعايتها، التي راحت تمجد العامل الذي لا يكلّ ولا يتعب، وقامت بأسطرة التعب، من خلال نماذج مصطنعة، مثل أليكسي ستاخانوف، العامل السوفياتي الذي استخرج أكثر من مئة طن من الفحم في دورية ليلية، ولقب بـ"سيزيف الأحمر"، وقام نظام ستالين بتقديمه كنموذج أسطوري لرجل جديد، أكثر صلابة من أي وقت مضى.

مع تقدم عالم القرن العشرين، ازدادت أهمية الإرهاق النفسي، وكثرت أسبابه، كاشفة عن الجوانب الاجتماعية المختلفة مع تغير ظروف العمل، وتحول المجتمع إلى مجتمعات مركبة، الأمر الذي فرض خلق علاقة مع الآخرين، وأفضى إلى إرهاق نفسي بحت. ومع التقدم التقني للمجتمعات نما الشعور بالذات، والوعي الحيّ بالضعف البشري، ولم يعد التعب الجسدي يغزو العقل ويطارده، بل إن التعب النفسي بات يغزو الجسم إلى درجة تحطيمه. وقد جرى التركيز بشكل كبير على علم النفس لدراسة السلوكيات والحساسيات، وظهرت اختلافات غير مسبوقة، فلم تختفي المشقة الجسدية، وبات الاهتمام يتركز على أكثر الآثار المتعددة، الممثلة بالقلق، وعدم الراحة، واستحالة تحقيق الذات، إضافة إلى التعب الناتج عن مقاومة الأشياء، والتعب الناجم عن مقاومة الذات، وهي عملية داخلية وشخصية وحتى حميمية، حيث تكتشف في داخل كل فرد العوائق والعجز، وتنشأ في داخله أيضًا نقاط الضعف والانهيار، وذلك في ظل تجاهل إدارات المصانع والشركات والمؤسسات القيم الفردية لصالح الأرباح الفورية.

بات التعب سمة بارزة في عالمنا الراهن، ولم تعد هذه السمة تقتصر على المحارب أو العامل أو الموظف، بل تشمل جميع شرائح المجتمع، وعلينا أن نتخيل "سيزيف منهكًا من التعب وقد توقف عن دحرجة صخرته، كي ندرك حينئذ كم نحن قريبون منه"، ونكتشف إلى أي مدى تطور إدراك التعب من النفي إلى الإقرار بالاحتراق النفسي، فامتداد مجال التعب يستجيب لتطور أعمق، ويرجع إلى المسافة المتزايدة في المجتمعات بين الأنا المتضخمة بفعل علم النفس والاستهلاك والتقدم، وبين استمرار القيود التي ازدادت أكثر من أي وقت مضى، والمعاناة من الحدود المفروضة، في الوقت الذي تؤكد فيه الأنا نفسها، باعتبارها أحد المصادر المهمة للإرهاق في عصرنا الراهن، وبالتالي ينبري التساؤل عما إذا كنا نعيش لحظة اكتمال حركة بدأت مع عصر التنوير، حينما أوجد تضخم الذات أملًا وتوقعًا سرعان ما خاب مع التعب الوجودي منذ أن أضحت الأنا التي تؤكد وجودها معاناة لحاملها، حيث تسود عالمنا مختلف الظواهر العصبية، لتأتي كلمة إرهاق للتعبير عن استنكار الوجه المظلم للتقدم، وكل ذلك يؤدي إلى أنماط غير مسبوقة من الانهيار النفسي.

يصل فيغاريلو إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، كي يعرض مظاهر التعب الذي بات مزمنًا، بعدما تضخمت مخاوف الفرد في عصرنا الراهن، واستحوذت التقنيات على انتباهه، وكشفت عن أنيابها، حيث أضحت الحياة على الإنترنت غاية في الإرهاق، فضلًا عن ظهور الأمراض والأوبئة والهذيانات، وخير مثال على ذلك ما فعله فيروس كورونا (كوفيد 19)، مؤخرًا في العالم، الذي فرض على مئات الملايين من البشر ما يشبه العزلة الذاتية، ضمن إجراءات الوقاية ومنع تفشي الفيروس، وترك آثارًا مدمرة ما تزال مجتمعاتنا تعاني من مرارتها وتبعاتها، بعد أن باتت الطبيعة المتناقضة للعزلة مصدر قلق كبير في عالمنا مع ظهور ما يسمى وباء الوحدة والعزلة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.