}

الجسد الإنساني بوصفه وسيلة للعقاب والضبط

عمر كوش عمر كوش 7 ديسمبر 2023

يعتبر كتاب "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن" من أشهر أعمال الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، ونال اهتمامًا كبيرًا في الأوساط الفكرية والثقافية في فرنسا وخارجها، حيث ترجم إلى العديد من اللغات، وصدرت مؤخرًا ترجمته إلى العربية في طبعة جديدة (ترجمة علي مقلد، صفحة 7 للنشر، الجبيل، السعودية، 2022)، بالنظر إلى أهميته، وراهنيته التي يحظى بها، إذ يقول فيه فوكو إنه أراد كتابة التاريخ في هذا الكتاب عن السجن، وعن التوظيفات السياسية التي يجمعها في هندسته المغلقة، ليس من أجل كتابة تاريخ الماضي، بل من أجل كتابة تاريخ الحاضر. ويعدّ هذا الكتاب بمثابة الركن الأساسي في مشروع فوكو الفلسفي، الذي أثمر أيضًا كتب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، و"الكلمات والأشياء"، و"حفريات المعرفة"، و"المعرفة والسلطة"، و"نظام الخطاب"، و"تاريخ الجنسانية"، و"إرادة المعرفة"، وسوى ذلك. وامتدّ الاشتغال الفلسفي الأركيولوجي لهذا الفيلسوف إلى أكثر من ربع قرن، وجهه نحو الفهم والمساءلة وخلق المفاهيم في مجالات متعددة. وجدد فيه التناول الفلسفي من عوالم الهوامش: الجنون، والسجون، العيادات، ليحاكم مسائل المعرفة والسلطة والخطاب والذاتية والموضوعية والانسان، ومسيرة التاريخ الأوروبي، أملًا في الوصول إلى مبتغاه في نقل الانشغال الفلسفي من عوالم الميتافيزيقا إلى عوالم الاختلاف والتعدّد والأغيار.

ينطلق الكتاب من وصف مشهد تعذيب وإعدام شخص يدعى "روبرت فرانسوا داميان"، الذي اتهم بقتل والده عام 1757، مبرزًا كل تفاصيل التمثيل بجسد هذا الرجل، حيث حُمل على عربة اخترقت شوارع باريس لتصل به إلى ساحة الإعدام، وقام جلاد بتعذيبه باستخدام الشمع المقطر والرصاص المذاب، وتقطيع أوصال جسده وتمزيق أعضائه، لينتهي الأمر بحرقه، أمام مرأى الحاكم وحشد كبير من الناس. وهو ما كان سائدًا في القرن الثامن عشر، إذ كان عقاب المجرم يتمّ علنًا أمام أفراد المجتمع، كنوع من الانتقام للملك والمجتمع. وكان هذا التعذيب العلني مقصود، لأن الغرض منه بيان قوة سلطة الحاكم، الذي تَصدر باسمه الأحكام، وتوصيل رسالة إلى الأجساد المنضبطة من خلال هذا الجسد المتفلت، تفيد بأن الجميع هم مشاريع لهذا المشهد إن خرقوا قواعد الانضباط الكبرى. ومن خلال هذه الحادثة يتناول فوكو كيفية تحول الجسد الإنساني إلى شيء تقع عليه جميع أشكال التعذيب والحرمان من الحرية، ويقارن بين الجسد الانضباطي (الملك، السلطة، الرئيس) والجسد المنفلت الذي تمارس عليه أبشع طرق التعذيب، مبرزًا ذلك من خلال استعراض أشكال التعذيب الممارسة على جسد المحكوم عليه، وعلنية التعذيب، إضافة إلى تبيان أن العقوبة كان يُراد بها تأكيد قوة الملك والحاكمين في مواجهة الرعية، في مشهد يأخذ شكل إرهاب، بالنظر إلى أن العقاب المرعب يطول عدة أيام أحيانًا قبل القتل، بغية إظهار قوة الملك وسطوة سلطاته. وامتدّ ذلك طوال قرون عديدة، خلال ما يسميه فوكو "عصر الرعب" الذي انتهى مع الثورة الفرنسية عام 1789، حيث جرى بعدها رفض العقوبات الفظيعة وإيقاف الرعب ومحاولة أنسنة العقوبة، وذلك مع التطور من استهداف الجسد إلى استهدف الروح، وخاصة سلب حرية الفرد، والانتقال من التعذيب والإعدام العلني الى السجن، حيث بات الهدف من العقاب يتمحور حول منع الجريمة عوضًا عن فرض النظام، الأمر الذي تطلب تطوير القضاء من الحكم المباشر على المحكوم إلى دخول المختصين من محققين وأطباء نفسيين وسواهم، كي يصبحوا جزءًا من الحكم أيضًا، بالتزامن مع تصنيف الجرائم والجنح.

يقارن فوكو بين الجسد الانضباطي (الملك، السلطة، الرئيس) والجسد المنفلت الذي تمارس عليه أبشع طرق التعذيب


أصبح السجن هو المكان المناسب لتنفيذ العقوبة بعد زوال التعذيب العلني، بمعنى أن العقاب أخذ ينحصر تدريجيًا ضمن عقوبة السجن، كي يغدو الاحتجاز الشكل الأساسي للعقاب، لكن هذا التلطيف العقابي يعتبره فوكو تقنية من تقنيات السلطة التي توظّفه فيما يسميه الاقتصاد السياسي للجسد، لأن هذا الاستثمار أو التوظيف السياسي للجسد، ارتبط باستخدامه كقوة إنتاج، ووفقًا لعلاقات معقدة متبادلة في القطاع الاقتصادي.

حدث كل ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث اختفت العروض والمشهديات في ظاهرة العقاب، فأخذ الاحتفال العقابي يدخل في مرحلة الظلّ، وبالتالي "انمحى في مطلع القرن التاسع عشر المشهد الكبير للعقاب الجسدي، حيث أُخفي الجسد المعذّب، واُستبعد من القصاص عرض مشهد الألم، وجرى الدخول في مرحلة الرزانة العقابية"، لكن هذا التحول لم يعلن إلغاء التعذيب بحدّ ذاته، بل تحولت آليّة عرض الآلام الجسدية، من المشاهدة العلنية إلى الإخفاء في غياهب السجون، بشكل أفضى إلى تحويل عقوبة الاعتراف العلني ومشهد التعذيب إلى نوع من التقصّي، من خلال الفصل بين الحكم والتنفيذ، حيث باتت عملية تنفيذ العقوبة مستقلة، ولا تتعلّق بالجانب المهيب للعدالة، وعليه ارتبط الجزاء بالحرمان من الحرية، والانتقال إلى حقبة جديدة وضعت حدًا لعروض التعذيب العلنية، وسنّت قوانين ولوائح جديدة في فرنسا، عملت على التقليل من تعذيب جسد المحكوم عليه، ولم يعد الجسد هدفًا بذاته للقمع الجزائي، بل بات هناك تقنيون وأطباء نفسانيون يتواصلون مع المحكومين عليهم بالإعدام، بغية تفادي الإحساس بالألم أثناء تنفيذ حكم الإعدام.

إذًا، جرت تحولات باتجاه جعل المعاقبة تطاول الروح قبل الجسد، مع نزع الصفة الجرمية عن كثير من الأفعال التي ارتبطت بالكنيسة، وباتت العقوبة تمتلك طرقًا عقابية لها تقنيات خاصة، هدفت إلى أنسنتها وتلطيفها، بغية التخلص من تاريخ العقوبة البشع والوحشي، حيث شهدت نهاية القرن الثامن عشر ثلاثة أشكال لتنظيم سلطة لعقاب، أولها جسده استمرار سلطة الملكية، أما الشكلان الآخران فيرجعهما فوكو إلى نظرية وقائية نفعية، أو بالأحرى تأديبية، أصابت العقاب، وجرت من خلال عمليات تحول بها النموذج الإكراهي الجسدي الانفرادي والسري للعقاب محل النموذج التصوري العلني الاستعراضي والجماعي، وبالتالي حلّت الممارسة الجسدية للعقوبة مع السجن محل العقوبة المجتمعية والاحتفالية الصاخبة.

يرى فوكو أن التحول الذي أفضى إلى تلطيف العقوبة وتحولها من مختلف أشكال التعذيب الواقعة على الجسد إلى العقوبة التي تنصب على سلب الحرية دون إيذاء الجسد، ترافق مع سقوط الإمبراطورية بفرنسا وقيام الملكية، لكن ذلك رُفض لأن السجن كان يستغل مصالح الملك والسلطة ثم استخدم ضد المفكرين التنويريين، وبالتالي اُستخدم السجن خارج نطاق القضاء والعدالة. كما جرى التحول عبر الانضباط الذي يصنع أجسادًا خاضعة وطيعة، مثل جسد الجندي، وتمّتد قواعده من السجن إلى الثكنة والمدرسة والمستشفى، والغرض منه فرض سيادته الواسعة دون إمكانية الانفلات، وهو ما يجسده الصف المدرسي كمثال على صورة الانضباط، باتخاذه شكل مجموعات، يقود كل منها قائد، يعين حسب الكفاءة العلمية أو النظافة والرزانة وغيرها، دون إغفال أن الدين لعب دورًا هامًا في الانضباط. ثم تطور الانضباط لاحقًا ليطاول عمليات التناسق بين الجسد والحركة في الجيش، واتباع تقنية التكوين الخاص بالتلاميذ وتحديدها في الزمان والمكان، الأمر الذي أسفر عن قفزة نوعية، لم يعد خلالها الجسد مجرد آلة، بل كائن حيّ يتسم بالفردانية، التي تتشكل عبر تعليمه وتنظيمه.


يرجع فوكو إلى نموذج السجن حسبما وضعه الفيلسوف والقانوني الإنكليزي جيريمي بنثام (1748-1832)، الذي اقترح بناء سجن بمراقبة عالية جدًا، وسماه بانوبتيكون، ويتضمن تصميمًا معماريًا هدفه تحقيق "الإصلاح والتصحيح"، وهو على شكل دائرة من الزنازين المبنية حول برج مراقبة لحرس السجن المركزي، حيث يسمح بمراقبة جميع السجناء دون أن يكون السجناء قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا، عبر وضع الزنازين في مواجهة البرج، فيما توجد في الجهة الخلفية لكل زنزانة نافذة كبيرة مضاءة، يمكن لحرس البرج رؤية ما يدور داخل الزنزانة، ومتابعة تحركات جميع السجين. أما برج الحراسة فهو مرئي بشكل بارز للسجناء، دون أن يتمكنوا من رؤية ما في داخله بسبب النوافذ العمياء للبرج المجهزة بشكل خاص لهذا الغرض. لكن الغاية التي وضعها بنثام هي كسر روح كل سجين من خلال الإشراف عليه ومراقبته بشكل مستمر، كي يصبح السجن "مطحنة لتطحن الأوغاد بشكلٍ صحيح". لكن النموذج الذي وضعه لم ينفذ، بل جرت عمليات استنساخه في أبنية السجون، وبما يجعل السجن رمزًا للسلطة التأديبية، التي تستند إلى المراقبة الدائمة، حيث يمكن للمراقب غير المرئي أن يكون أي شخص، باعتبار أن الشخص الخاضع للمراقبة يدرك إمكانية مراقبته، لكنه لا يتمكن من رؤية المراقب المحتمل، فالسلطة يجب أن تكون مرئية، وفي الوقت نفسه لا يمكن التحقق من مراقبتها لنا، بغية الوصول إلى نوع من العبودية، عبر إكراه المحكوم على السلوك الحسن، والمجنون على الهدوء، والعامل على العمل… وعليه فإن البانوبتيكونية تمارس مهامها الرقابية على مختلف الأفراد المساجين العاديين، وعلى المجانين والعمال والتلاميذ وسواهم، بحيث تتدخل الرقابة في جميع الميادين، بوصفها أسلوب ممارسة السلطة، من أجل ضبط الأفراد غير المنضبطين وتقويم كل فرد غير سوي، ليطاول مجال تنظيمها كافة المجالات المهمة، الأمر الذي يفسر تكاثر المؤسسات والإجراءات الانضباطية وامتدادها في الرقابة والضبط في العصر الحديث.

إذًا، يمتلك السجن دلالة مكانية رقابية محكمة على السجناء، وينسحب ذلك على باقي المؤسسات، كالثكنة، والمدرسة، والمستشفى، والمصنع... إلخ، التي ارتكزت على الانضباط في اقترانها بتحول العقوبة من الانتقام بالتعذيب إلى الإصلاح بالعزل، عبر فرض الضبط عن طريق المراقبة، بوصفه شكلًا خفيًا وقاسيًا من أشكال السلطة، حيث تمارس السلطة وظيفتها بفرض إجراءات الضبط وعزل الأفراد في المكان، فالمجرم في الزنزانة، والجندي في الثكنة، والمشرد في الحجر... إلخ، لذا ليس من المستغرب أن السجون تشبه المصانع والمدارس والثكنات والمستشفيات، التي هي بدورها تشبه السجون، فكل فرد يخضع لسلطة تدريب على التصحيح والإصلاح، سواء عندما يكون مرتبطًا بصفه في المدرسة أم في خط الإنتاج في المصنع أم في المكتب في مكان العمل الوظيفي. كما أن لكل فرد مكانه الاجتماعي إلى جانب المواقع الوظيفية المتعلقة بالترقيات الوظيفية، فضلًا عن الرقابة على النشاط وفق جدول زمني، يقسم أوقات العمل، وأوقات الراحة والنوم، عبر اتّباع نوع من التراتب والانضباط، إضافة إلى الإكراهات التي تطبّق داخل الجسد، ويتمحور دورها على ضبطه، لأن الهدف الأساسي للانضباط هو الجسد، سواء كان جسد الجندي أم المريض أم التلميذ أم المجرم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.