}

في سيرة المكتبات: من الطين إلى الخشب

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 24 مارس 2023
إناسة في سيرة المكتبات: من الطين إلى الخشب
أطلال مكتبة آشور بانيبال
بين الأرجنتيني بورخيس، والملك العراقي آشور بانيبال، والمغولي هولاكو، حضارات وأجيال وقرون ومسافات طويلة في الزمن. فالأول عاش ترف الكتابة الورقية، ومات فيها، والآخر عاش في زمن الطين الورقي، وقضى فيه، والثالث أحرق مكتبة بغداد وجعل حبرها يُسوّد نهر دجلة كما نقرأ في كتب التاريخ. لكن بورخيس وبانيبال تركا بصمتيهما في التاريخ الكتبي بشكل مثير. وهولاكو بقي لعنة في التاريخ الثقافي والعلمي والإنساني... والكتبي.
بورخيس أنشأ جدلًا نقديًا أدبيًا ومعرفيًا لا يستهان به في مجمل أدبياته القصصية والفكرية والنقدية والتنظيرية. وبانيبال ترك مكتبة عظيمة قاومت صروف الزمان، حتى وصلت إلى الحاضر بآلاف الألواح المفخورة في نينوى. بينما هولاكو كان ملعونًا بمذبحته الكُتبيّة، عندما احتل بغداد وقتل خليفتها، ولوّث دجلتها بأحبار المخطوطات الثمينة والنادرة.
بين هؤلاء الثلاثة حبرٌ وطينٌ وورق... وزمن طويل لا يتشابه.
كان الأرجنتيني بورخيس أكثر تصالحًا مع ذاته، وأكثر صدقًا مع موهبته الإبداعية الكبيرة، في مقولته الشهيرة "لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة"، وهذا التصور المحلّق من الأرضي إلى السماوي هو ما يبرر ذلك الخيال الجميل الناجح في استقدام ما هو غير متاح واقعًا، وتحويله إلى خيال وحلم يدور في فَلك الكتاب والمكتبة، باعتبار أن فردوس الجنة يتضامن مع جوهر المكتبة. والانتقال من الأرضي إلى الفردوسي هو أحد مؤشرات الجمال في الجنة السماوية.
هذا الإلهام الغريب في المخيال البورخيسي أحد شواهد الجمال على فرادة التفكير المبدع في عقليته. فالأرضي هنا أنموذج مصغّر ـ متخيّل  للسماوي الكُتبي بكل الوصف الديني ـ التاريخي ـ التراثي ـ الفولكلوري ـ العلمي ـ الثقافي ـ الأسطوري ـ الجمالي ـ المعرفي له. غير أن مواطنه ألبرتو مانغويل (صاحب كتاب المكتبة في الليل ـ وتاريخ القراءة) ليس حصيفًا كأستاذه، بالرغم من انشغاله بالقراءة والكتب والمكتبات، إلا أنه لم يتجلًّ كبورخيس، ولم يرتفع عن الأرض في خيال المبدع الأرضي الذي يطوف ويحلّق ويرى ما لا نراه، مع أنه القائل: القراءة مفتاح العالم... لكنّ هذا الإنشاء نفهمه على أنه من تجليات الانغمار في الكتاب والمكتبة الوطنية الأرجنتينية التي كان يعمل فيها. وهكذا نجدهما؛ بورخيس ومانغويل؛ كاتبين ومكتبيّين. مبدعَين معاصرين. نسجا من روائح الأوراق والكتب وخشب المكتبات خيوط الكتابة الأدبية. وعاشا في العصر الحضاري الذي غادر الكتابة على الطين منذ وقت طويل، ومثلهما كثيرون من الأدباء العالميين والعرب الذين وطّنوا في كتاباتهم المعرفية روح الكتاب ورائحته. في حين أدرك آشور بانيبال أن الثقافة هي سلاح المعرفة الفتّاك، وهي الموجة الصادمة للعدو وللآخر، فأنشأ صرحًا معرفيًا ضخمًا من الألواح الكتبية ما تزال ماثلة حتى اليوم، بما يُنبئ عن ثقافة عامة في عصر لم تكن الكتابة فيه موجودة، ولم يكن الورق وسيلة حضارية لتطويع الأفكار وتدوينها. إنما كانت الأفكار تدوّن على الطين. فبقي الطين الجامد حتى هذا اليوم أنموذجًا للثقافة القديمة الثرية بالمعارف.

عاش بورخيس ترف الكتابة الورقيّة (21/ 10/ 1977/Getty)

ونحن نتصفح تاريخ الغزاة، سنجد مفارقة تخص فعل هولاكو الهمجي أوردها جورج لاين في كتابه "عصر المغول"، تقول بأن قصة جريان نهر دجلة بلون الحبر الأسود لعدة أيام بعد الغزو المغولي لبغداد تملأ المراجع والكتب، وأن مثل هذه القصص دعاية مضادة عن المغول انتعشت وتطورت بمرور الزمن، وصارت أشبه بالحقيقة (لأن المعروف عن جنكيز خان إظهاره التقدير والاحترام الشديدين للعلماء والعلم. وكذلك هولاكو خان الذي ترعرع في بيت تسوده المعرفة، وكان محاطًا على الدوام لنصائح العلماء ومشورتهم، مما يشكك بقصة تدميره لتلك  المكتبات). وهكذا يبدو التاريخ القديم والمعاصر محاطًا بألغاز وأسرار غير ثابتة، فمرةً يُكتب بالوقائع والوثائق، وأخرى بالتحليل والاستنتاج، وثالثةً بالأهواء والانحيازات.


لفائف الثقافة القديمة
نعتقد بأنه يتاح لنا في معرض الحديث عن المكتبات في عالمها الحروفي ـ الورقي ـ الخشبي ـ الخيالي ـ المعرفي أن نذهب إلى التأسيس القديم، ونقف على نماذج ثقافية مختارة عبر المكتبات الطينية والجلدية ولفائفها من البردى، حيث وُلدت المعرفة وانتشرت إلى البلدان المجاورة، ثم إلى العالم القديم. ومن اليقين أن نجد في البدايات كثيرًا من المفاهيم القرائية التي لا تشبه مفاهيمنا الحاضرة. فالمعرفة الأولى قديمًا اشتبك فيها الدين وتراتيله وأناشيد الكهنة في المعابد والأسطورة التي بقيت مرجعًا للحاضر في قراءة السلوك النفسي والديني والسياسي أيضًا، على ألواح طينية أفصحت المكتشفات المتتالية بأنها تشكل نواة للمعرفة التي وصلت إلينا، لكن قد تكون بطريقة مختزلة في أحيان معينة، وتفصيلية في أحيان أخرى في ضوء السائد من المعرفة والثقافة في تلك العصور الأولى. كحال مكتبة الإسكندرية، ومكتبة آشور بانيبال في نينوى. وسيبدو تقليب صفحات التاريخ كتقليب صفحات الكتب. فهي سرود متتالية عن الماضي والحاضر. وشيء عن خيال المستقبل (العلوم الفلكية والفيزيائية والرياضية والهندسية ـ الأهرامات مثلًا).




وما بين الكتب والتاريخ هنالك ما يبقى مستمرًا في التآليف المتعاقبة في العصور كلها. لذلك نجد أن بلاد الرافدين ومصر القديمة تتنازعان على المعرفة العامة، وتقدمان الأطباق الثقافية في تنافس مع حضارتين شقّتا طريقهما إلى العالم الآخر؛ روما واليونان. ولكن عبر المكتبات التي سجلت وعيًا مبكرًا، وأنشأت حاضنة ثقافية أشارت وتشير إلى النوع الاجتماعي في ظرفه. كما تشير إلى النوع السياسي الحاكم، لأن الحكّام آنذاك هم الذين تولوا إنشاء المكتبات من دون العامّة. فمكتبة الإسكندرية مجمّع ثقافي للنسخ والتأليف والترجمة، ومكتبة نينوى تكونت بفضل ملك آشوري مثقف هو آشور بانيبال، ومكتبة بيت الحكمة تُنسب إلى هارون الرشيد بعد أن ورثها من أبيه عن جده ـ المهدي والمنصور، وخزانة العباسيين في بغداد التي قتلها المغول، وفي روما أقام الإمبراطور ترايان (تراجان) مكتبة في حمّام عام. وفي اليونان، دمر الفرس مكتبة ميليت، ولم تكن في أثينا مكتبة عامة حتى زمن أرسطو... وهكذا، فإن الحضارات تولد معها أفكار ثقافية، كما يولد بينها متعلمون ومثقفون وعلماء وفلاسفة وكتّاب وشعراء.


مكتبات الحضارات
في مصر القديمة، بدأت المكتبات مع مقتنيات الملوك والأمراء والوزراء من الكتب للتزيين والديكور. فالثقافة في كل زمان ومكان في مثل هذه الصروح أشبه ما تكون فائضة عن يوميات بعض الملوك. لكن ربما هي سبيل إلى المعرفة والجمال في أحيانٍ أخرى. وفي هذه النسبية يمكن أن تولد المواهب وتتفتح زهور المعرفة وتنشر بين الجميع. ولو نظرنا إلى مصر القديمة في عهد البطالمة سنجد أثرًا كبيرًا اسمه مكتبة الإسكندرية، كشاهدة حضارية متقدمة، وصرح معرفي وحدث عظيم في تاريخ الثقافة والمكتبات. اجتهد الملوك المصريون في عصور متعاقبة كي يجمعوا الكتب من مصادر كثيرة كـ(جمع أدب اليونان كله)، وهو الأشهر في زمنهم، حتى قيل إن السفن التي ترسو في ميناء الإسكندرية تصادَر منها لفائف الكتب، لتعزز المكتبة، التي كانت مؤسسة علمية، ومركز بحث، ومكان نسخ وترجمة. كما هي مكان للشعراء والفنانين الذين يزورونها من مختلف أنحاء العالم.
يُعدُّ اكتشاف مكتبة آشور بانيبال في أواسط القرن التاسع عشر حدثًا علميًا لفت أنظار الأوساط العلمية والثقافية بين الباحثين والأركيولوجيين في العالم، وأعاد النظر في منظومة التاريخ الرافدينية من زاويتها الثقافية في الأقل، إذ سجل هذا الاكتشاف سبقًا معرفيًا في بلاد النهرين. وهذه المكتبة التي أسسها الملك آشور بانيبال، أشهر ملوك الإمبراطورية الآشورية، واحدة من مقتنيات الماضي الذي يبتعد عنا بنحو 2500 سنة (تأسست في القرن السابع قبل الميلاد)، واحتوت على آلاف الألواح من الطين، وبقايا نصوص باللغة الأكدية. وهي واحدة من أقدم خزائن الملوك في العراق. عُثر عليها في قصر سنحاريب، وتضم نحو 25 ألفَ رُقيم طيني. ومن البديهي الاستنتاج بأن الفضل يعود لبانيبال، الذي تغلب عليه حدس الثقافة والعلم والمعرفة، بالرغم من الحروب التي خاضتها الإمبراطورية الآشورية. وقد ذكرته ألواح الطين بأنه (راعي الكتب والمكتبات)، و(كان من فرط اهتمامه ورعايته للثقافة والعلم أن بعث بنسّاخه إلى مراكز العلم والأدب في زمنه، كبابل، وبورسبا... فنسخوا له كل التآليف المهمة...).



نجد أن العالم القديم شهد إنشاء المكتبات وعزز وجودها على مر التاريخ، كمكتبة القسطنطينية في تركيا، ونظيرتها مكتبة أنطاكية الملكية (221 ق.م. في عهد أنطيوخوس)، ومكتبة سيلسوس في تركيا، كثالث أكبر مكتبة في العالم القديم (تخزينها لـ12000 مخطوطة)، وأن التطور الضمني لأدوات الكتابة، ونوع الورق، أو الجلد، شهد نوعية أخرى من الكتابة على لفائف الرق في العصور الأوروبية الوسطى، بدلًا من لفائف البردى التي اعتمدها كتبة العصر المصري القديم، فهي أسهل حملًا، وثمة إمكانية الكتابة على وجهيها.


مكتبات الحمّامات
انتشرت المكتبات في روما خاصة بعد أن رأى يوليوس قيصر مكتبة الإسكندرية، فقرر أن يبني في روما مكتبة كبيرة عامة على نمطها، وعهد بذلك إلى أشهر كاتب روماني في عصره (مارك ت فارون)، لكن هذه المكتبة لم تنجز بسبب اغتيال قيصر سنة 44 ق.م. أما أضخم مكتبة عامة في روما فبُنيت سنة 113م، من قبل الإمبراطور ترايان، وما زالت آثارها باقية إلى اليوم. في ذلك الوقت، كانت روما تؤكد مكانتها كأقوى مركز ثقافي في حوض المتوسط، فقد أصبحت المكتبات الضخمة التي أقامها الأباطرة مكانًا يجتمع فيه الشعراء والفلاسفة والعلماء وباعة الكتب في ساحة ترايان التي صممت لتكون مجمعًا للعالم الثقافي المتنوع. وبهذا الشكل صار الكتاب جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية.
إقامة المكتبات في الحمّامات اختراع روماني، فلم تكن للاغتسال والاستحمام وحسب، بل كانت مكانًا يجتمع فيه الشعراء لإنشاد قصائدهم، والفلاسفة والعلماء الذين يستعرضون أفكارهم ويدافعون عنها. ولعب المهندس الدمشقي المعروف (أبولودور) دورًا كبيرًا في بنائها، هو صمم حمام ترايان، وجعله متعدد الأدوار في الحياة اليومية للسكان في روما. وقد أدخل في تصميم الحمّامات قاعة للكتب اليونانية، وقاعة للكتب الرومانية، وقاعات أخرى للنشاطات الثقافية التي أصبحت تتم تحت سقف الحمامات، بالإضافة إلى النشاطات الصحية والرياضية.
وتلعب بغداد، ودمشق، والقاهرة، أدوارًا متباينة في انتشار خزائن/ مكتبات/ الكتب، لتمتد إلى فاس، وحلب، وسمرقند، وبخارى، وقرطبة. ويروى بأن الخليفة المأمون أصر على أن يكون أحد شروط الصلح مع الإمبراطور الرومي ثيوفيلوس تسليم محتويات إحدى المكتبات في القسطنطينية، فنقلها إلى مكتبة بغداد فوق مئة بعير، وهذا التمظهر الثقافي والعلمي والأدبي لم يكن وليدًا هامشيًا للسلطة، بقدر ما كان انفتاحًا زاهرًا على علوم الآخر، وتوقًا إلى المعرفة من مصادرها، مهما بعدت المسافات وراء البحار.




وشبكة المكتبات في العصور الإسلامية المختلفة (الأموي والعباسي) متاهة من متاهات المعرفة الحيّة التي وصلت إلى الحاضر المتقدم في علومه التكنولوجية والرقمية، وفي الأحوال كلها، ونحن نحفر في التواريخ المختلفة، فهي مظاهر ومصادر قوية الحجة في استدراك الماضي ولونه الثقافي والجمالي، حيث ازدهرت الحياة الثقافية والعلمية والمعرفية، بشكل عام، فإنشاء مكتبة "بيت الحكمة" جعل من بغداد مكتبة أكاديمية فريدة. أسس بيت الحكمة  الخليفة هارون الرشيد، متماشيًا مع ازدهار حركة الترجمة إلى العربية. وترك ابن خلدون، وابن رشد، بعض مخطوطاتهما في مكتبة القرويين (859 ميلادية) بما يشي بأهميتها العلمية الرصينة.


مصادر وهوامش
ـ عصر المغول: جورج لاين ـ ت: تغريد الغضبان ـ كلمة ـ 2011.
ـ آشور بانيبال: سيرته وحياته ـ رياض عبد الرحمن أمين الدوري ـ دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 2001.
ـ آشور بانيبال: آخر الملوك الآشوريين العظماء. غزت الإمبراطورية الآشورية في عهده مصر حتى طيبة في الغرب، وهزم عيلام في الشرق. تحمل المكتبة الملكية العظيمة في نينوى اسمه حتى اليوم.
ـ صحيفة البيان ـ 1  فبراير ـ 2023 .
ـ صحيفة مكة ـ الخميس ـ 1 أغسطس 2019.
ـ مكتبة الإسكندرية: شيدها بطليموس الأول. ويقال إنه تم تأسيسها علي يدي الإسكندر الأكبر قبل ثلاثة وعشرين قرنًا. ويقال أيضًا تم تأسيسها على يد بطليموس الثاني في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد.  تعرضت إلى عدد من الحرائق، وانتهت حياتها في عام 48 ق.م.
ـ الموسوعة الحرة ـ ويكيبيديا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.