}

المقاومة الجندرية في الفضاء العام

رباب دبس رباب دبس 20 يونيو 2023
اجتماع المقاومة الجندرية في الفضاء العام
شاهر زغير، سورية

مع أحداث الربيع العربي في نهاية عام 2010، عاد مفهوم الجندر إلى الصدارة مجددًا كأحد مطالب العدالة الاجتماعية، بعيدًا عن الصورة النمطية التي حصرته طويلًا ضمن ثنائية المرأة ـ الرجل. وتبيّن الدراسات الحديثة أن مسألة الجندر وجدت طريقها راهنًا نحو فضاءات متنوعة، رغم ما تواجهه هذه الدراسات من إشكاليات عدة أبرزها عدم تأطيرها ضمن مؤسسات رسمية.

يشير تقرير صدر عن معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنية في الجامعة الأميركية في بيروت، يرصد ويوثق تجارب الدراسات الجندرية والجامعات والمراكز البحثية العربية (2019)، إلى عدد من العراقيل التي تواجه إدراج الدراسات الجندرية في إطار مؤسساتي، وخصوصًا في جامعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منها البيئات الاجتماعية والسياسية السلبية، محدودية الموارد، والتركات الاستعمارية، وعدم المساواة المؤسسية.

حضور المقاومة الجندرية في بحوث العلوم الاجتماعية

العراقيل التي تواجهها الدراسات الجندرية، من حيث عدم تأطيرها مؤسساتيًا، لم تلغ حضورها على مستويات بحثية ذات شأن ثقافي وأكاديمي رفيع. هذا ما بيّنته نتائج المرصدين اللذين أصدرهما المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (المرصد الأول من تأليف محمد بامية، العلوم الاجتماعية في العالم العربي، أشكال الحضور، 2015) و(المرصد الثاني من تأليف عبد الله حمودي، الذي صدر في عام 2018 تحت عنوان: العلوم الاجتماعية في العالم العربي: مقاربة الإنتاجات الصادرة باللغة العربية، 2000- 2016)، إذ كان موضوع المرأة حاضرًا  في عدد يسير من الأبحاث.

الحضور الأكاديمي البحثي والعلمي لمسألة الجندر تؤكده أيضًا المنشورات الثلاثة التي أصدرها المجلس العربي للعلوم الاجتماعية بين الأعوام 2019 - 2023، والتي حملت عنوان "المقاومة الجندرية"، وضمت 24 بحثًا حقليًا استند معظمها إلى دراسات إثنوغرافية وشهادات شفهية. وترد الإصدارات المذكورة  ضمن برنامج زمالة "مشغل النماذج الفكرية الجديدة"، الذي يهدف، كما ذكرت المرشدات اللاتي أشرفن على الأبحاث فيها، إلى "دعم الباحثين/ات والناشطين/ت لكتابة مقالات مبنية على أبحاث تم إنجازها، ثم نشرها بشكل يستهدف جمهورًا واسعًا من القراء، يجمع بين الأكاديميين/ات المتخصصين/ات والعاملين/ات في المجالين النشاطي والسياسي"، ويسعى البرنامج وفق المرشدات، إلى "بناء جسر بين الأكاديمية والنشاطية"، الأمر الذي يعكس دور العلوم الاجتماعية الفاعل في "تفكيك قضايا المجتمع ومقاربتها وفهمها والبحث عن مخرجات وحلول لها".

المقاومة الجندرية في مواجهة السلطات

في نظرة معمّقة إلى مواضيع المشاغل الثلاثة التي انضوت تحت عنوان: "المقاومة الجندرية"، نجد أن معظمها خاض في إشكاليات حضور المرأة في ميادين مختلفة ومن بينها الحياة السياسية، والرعاية الاجتماعية، والأسرة، والسرديات الوطنية، والإجهاض، والشتائمية، والمطبخ، وطقوس الموت، والعنف الزوجي، وغيرها.

وتعكس الشهادات المنشورة في المشاغل الثلاثة ثنائية السلطة بوجهيها (الخاص والعام) التي تواجهها النساء في معظم نواحي حياتهن. يتجسد الخاص في السلطة الداخلية المتمثلة في الأخ والزوج والأب، فيما العام يخضع أصلًا للسياسات الرسمية التي هي امتداد تاريخي لروح المجتمع البطريركي. أما اللافت في معظم المواضيع، فهو حضور الفضاء العام في مدينة القاهرة كموضوع طاغ على ما عداه، وقد حاز على عشرة أبحاث.

يستحضر مكان الفضاء القاهري من خلال إشكالية حضور النساء فيه، النقطة البارزة هي مسألة التحرش الجنسي والعنف الجسدي الذي تتعرض له النساء في أثناء حضورهن في هذا الفضاء، والذي يأتي كأحد العوامل الإقصائية لهنّ عنه، إذ يصبح حضورهن فيه صعبًا وخطرًا إلى حد كبير، بل إنه شكل من أشكال المقاومة الجندرية، وهو ما توضحه العينات التي نضع مثالًا عنها هنا.



الفضاء العام ومرافقه

تبيّن ريم الشريف في بحثها: "مناورات للتنقل: نفاذ النساء إلى القاهرة الكبرى بأضرار أقل ومكاسب مساحية أكبر"، المنشور في أحد المشاغل الفكرية، أن الفضاء العام في القاهرة، ما يقع عليه وما يرتبط به ويتداخل معه من أسواق، ووسائل نقل ونواد ومقاه ومؤسسات رسمية وغير رسمية، يتسم بالهيمنة الذكورية، إذ تواجه النساء في تنقلاتهن اليومية: العمل، الجامعة، السوق، مسؤولية أمنهن وسلامتهن الجسدية والنفسية، في وقت أصبحت فيه الشوارع الكبرى في مصر خاضعة لهيمنة الرجال، فهي للتجمع وقضاء أوقات الفراغ، والمراقبة والتفاعل والانتقاد والمعاكسة وإطلاق التعليقات والتسكع. هذا وتذكر الشريف، عددًا من الحيل والأدوات التي تلجأ إليها النساء بهدف حماية أجسادهن من التحرش، ومن بينها الاحتشام، وحمل دبابيس، أو رذاذ الفلفل باعتباره تكتيكًا فعالًا.

كما تعكس دراسة رنا سيف الدين أحمد "النقل حسب الطلب"، العراقيل التي تواجهها النساء في عملية التنقل في القاهرة في باصات النقل العام والخاص، وتوضح العينة التي استخدمتها أحمد، أن 95 بالمئة من النساء يتعرضن للتحرش الجنسي لدى استخدامهن هذه الباصات. وتخلص أحمد في دراستها، إلى أن شرائح كبيرة من النساء، وخصوصًا الميسورات منهن، يلجأن إلى الخدمات التي أصبحت شائعة، "النقل حسب الطلب"، ومن بينها مثلًا شركة "أوبر" و"كريم" كاستراتيجية مقاومة لإبعاد خطر التحرش اليومي بهن، رغم أن هذه الوسائل لا زالت ترقيعية وليست حلًا جذريًا في ظل سيطرة الفكر الذكوري على المجال العام. فيما تواجه النساء اللاتي يتعرضن للتحرش لومًا من الأهل والمجتمع باعتبارهن مذنبات: "إيه اللي وداها هناك" و"عملت إيه تسببت لنفسها كده؟".

وتؤكد مي أبو الذهب في بحثها "المقاومة الجسدية والجندرية في الأماكن المخصصة للنساء فقط"، أن التحرش الجنسي الذي تتعرض له النساء في النوادي والأماكن المختلطة،  يعتبر دافعًا رئيسيًا لانتسابهن إلى النوادي الخاصة بالنساء التي تضمن لهن ممارسة نشاطاتهن الرياضية بحرية بعيدًا عن الضغوط  المعنوية والعنفية المباشرة، وتضع أبو الذهب مؤشرات مستخلصة من "خريطة تحرش" HarassMap (2014، القاهرة) تشير فيها إلى أن 95 بالمئة من أصل 300 امرأة، ومن بينهن عدد كبير من المحجبات تعرضن للتحرش الجنسي، ما يعني أن الحجاب لا يحمي مرتدياته من التحرش الجنسي.

العراقيل التي تواجهها الدراسات الجندرية، من حيث عدم تأطيرها مؤسساتيًا، لم تلغ حضورها على مستويات بحثية ذات شأن ثقافي وأكاديمي رفيع

الحشد النسوي وتجريم العنف المبني على الجندر في مصر

ترصد مريم مكي في دراستها المعنونة "في تحدي التفاوض: الحشد النسوي، والدولة، وتجريم العنف الزوجي المبني على الجندر في مصر"، النشاطات السياسية التي تقوم بها الحركة النسائية في مصر، والصعوبات التي تواجهها النساء في عملية انخراطهن في الشأن السياسي، مركزة على مجال العنف المبني على الجندر الذي ينطلق من الخاص في المنزل إلى الفضاء العام في الشارع. وتواجه الناشطات في العمل السياسي في مصر اتهامات بالتمويل والنخبوية، ولا تتوقع النساء في هذه الحال، كما تذكر مكي، أي أمل بحماية قانونية أو مجتمعية، إذ لا ينفصل "القانون عن المجتمع"، فهما يتحدان في أحكامهما ضد الحضور النسائي في الفضاء العام.

بدورها أملت إسراء صالح في بحثها "الصحافة كمقاومة جندرية: أخلاقيات التغطية الصحافية لقضايا العنف الجنسي في مصر" بـ "خلق سردية بديلة للسردية الذكورية المهيمنة على المحتوى الصحافي والإعلامي"، مولية أهمية للمعايير التي يجب على الصحافة التقيد بها لسلامة النساء وصون خصوصيتهن وأمنهن، خصوصًا منهن الناجيات اللاتي تعرضن للاغتصاب والعنف الجسدي، إذ أن شريحة منهن، تعاني من التململ والحيرة خوفًا على سمعتهن، في ظل ضغوط الأهل لسحب شهادات المعتدى عليهن.

يأتي كلام الناجيات وفق صالح، كمساحة يكسرن عبرها حواجز الصمت، كما أنها تخفف عنهن الضغط النفسي الذي يعشنه، مثلما ذكرت إحداهن في شهادتها: "مكنتش قادرة أسكت خالص… كنت حاسة باختناق فعلًا وده كان مأثر على حياتي العملية والاجتماعية" و"كنت عارفة أني لو اتكلمت ممكن أتساوم على سمعتي بس في نفس الوقت كنت محتاجة أتكلم عشان أنا مؤمنة إن الكلام أي كلام هو طريقة علاج عشان كده اخترت إني أطلع في الانترفيو ده".

حي خليفة وغاردن سيتي في القاهرة

يستمر حضور الجسد الانثوي كموضوع إشكالي في المجال العام في مناطق مختلفة من القاهرة، حتى في عملية تباينات هذا المجال الطبقية الشعبية والنخبوية، كما هي الحال في منطقة غاردن سيتي التي يسكنها الأثرياء، وحي خليفة الشعبي الذي يؤمه السياح بشكل دائم.

ما يظهره البحث عن حي غاردن سيتي التي أعدته ديانا مجدي تحت عنوان: "الحياة اليومية كموقع للمقاومة الجندرية في غاردن سيتي: إعادة النظر في الأخلاقيات والمناهج في ميدان فوضوي" أن خصوصية هذا الحي والتصنيف الطبقي له، لا يلغيان الرقابة على المقيمات فيه، إذ يواجهن أشكالًا من الهيمنة الأبوية، والمجتمعية والأمنية المتمثلة في العدد الكبير من نقاط تفتيش الشرطة، والمراقبة التي تخضع كلها للسلطة الذكورية.

أما حي خليفة الشعبي، فيخضع لرقابة من نوع آخر، كما تعكس ذلك دراسة ريهام مراد عنه تحت عنوان: "مساحة المقاومة: نساء يناورن المفاهيم الشعبية لحي الخليفة"، إذ ينقسم الفضاء في هذا الحي إلى شقين "شعبي" و"محافظ"، يحدّد الرجال في كل منهما التحرك. تمنع النساء من التدخين والاختلاط والجلوس في المقاهي. يأتي ذلك بهدف إرساء السلوكيات التقليدية في ظل مخاوف من تأثير سلوكيات الوافدين السياح على الفئات الشبابية في الحي، ويغدو ذلك كما تشير مراد، محل نزاع على مستوى الديناميات الطبقية الجندرية. هكذا ينشغل الرجال بمراقبة أجساد النساء ووجودهن في الفضاء العام في محاولة لإرساء التقاليد والأعراف الذكورية في وجه المساحات الناشئة.

جسد واحد ومئة مليون عين

يبقى الجسد الأنثوي والحياة الجنسية الخاصة، وحتى الآراء المغايرة لسلطة المجتمع، تحت رقابة القمع والمحاسبة التي يشترك فيها المجتمع حكمًا وفعلًا. هذا الأمر تؤكده سماء التركي في بحثها المعنون "جسد واحد ومئة مليون عين: عن قوة الرقابة المجتمعية والمقاومة المتخفية في حيز الفاعلية الجنسية والجسدية للنساء القاهريات"، وتضيء فيه على الأحكام والاتهامات التي تواجهها النساء اللاتي خضن في قضايا خارجة عن سلطة التقليد في المجتمع، متخذة من حالة المذيعة المصرية د. ص. نموذجًا، إذ طرحت هذه المذيعة في برنامجها الأسبوعي فكرة الأمومة العازبة، كشكل بديل من أشكال الإنجاب. واجهت المذكورة حكمًا بالسجن ثلاث سنوات، واتهمت بالتحريض والفجور وانتهاك الآداب العامة والترويج للأفكار الهدامة التي من شأنها تدمير الأعراف والتقاليد المصرية.

في الختام، أيًا تكن قوة الخطاب المجتمعي السلطوي الذي يتسم بالانحياز إلى النزعة الذكورية، يأتي حضور النساء، وفق دراسات المشاغل الثلاثة آنفة الذكر، رغم كل ما يواجهنه من مصاعب في مختلف المجالات شكلًا من أشكال المقاومة الجندرية في وجه التهميش والتعنيف والإقصاء. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.