}

فلسطين: حرب الذاكرة

رباب دبس رباب دبس 1 فبراير 2024
اجتماع فلسطين: حرب الذاكرة
طاول القصف الإسرائيلي مكتبة بلدية غزة
ما أن تستشعر الذاكرة خطر المحو والتهميش والإقصاء حتى تستنفر طاقاتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. الحروب هي الخطر الأكبر على الذاكرة من خلال ما تسببه من تهجير وتشتت للشعوب. هي نفسها التي تحفز وتنشط ذاكرة الجماعات لاسترجاع ما فقدته، وما حروب القرن العشرين إلا الشاهد على ذلك.

"إنها لحظة ذاكرة"، قول وصّف به بيار نورا ثورة الذاكرة التي شهدها القرن العشرين. وقد ساهم التطور التكنولوجي المتسارع، في النصف الثاني من القرن نفسه، في تنوع استثمارات الذاكرة وفي برامج التوثيق والأرشفة والترقيم.

مركز الأبحاث الفلسطينية... أشكال من المقاومة

بعد نكبة 1948، كانت للفلسطينيين تجربة واسعة في مضمار توثيق الذاكرة في عدد من البلدان التي التجأوا إليها. تزامنًا مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، برز عدد من المؤسسات التي عملت تحت رعاية المنظمة واتخذت في أهدافها مناحي بحثية سياسية وإعلامية وأكاديمية، من بينها "مركز الأبحاث الفلسطينية" الذي شكّل الجهاز الإعلامي المسموع والمكتوب لدولة فلسطين، ومقره في بيروت.

تولى إدارة المركز، بعد فايز الصايغ، شقيقه أنيس في عام 1966. يقول هذا الأخير في مذكراته، إن توليه إدارة مركز الأبحاث شكّل فرصة له وحقق عبرها حلمه في العمل على إنجاز عمل موسوعي عن فلسطين. الصايغ الذي لم يحمل السلاح يومًا، كما يقول، اعتبر أن المركز، من خلال منشوراته التي تلازمت مع النضال الفلسطيني، شكّل "ساحة من ساحات النضال الوطني، يحضر فيها السلاح إلى جانب الكتابة والعمل".

من أجل حفظ بلدانية فلسطين

هي ذاكرة الشعوب الجمعية التي تهب دفعة واحدة لاستعادة ما همشته الحرب، فتؤرخ لكل شبر من أوطانها. بعد أن أصبحت فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، لعب مركز الأبحاث دورًا هامًا في توثيق وحفظ كل ما له علاقة بجغرافية وحدود أراضي فلسطين وقراها ومدنها. توفرت في مكتبة المركز وثائق تحتوي على إحصاءات وبيانات صادرة عن "دائرة الأراضي في حكومة الانتداب في فلسطين"، وتتضمن كشفًا دقيقا ومفصلًا رسميًا لملكية أراضي فلسطين أيام الانتداب. هذا الأمر، في أهميته، يوضح حقوق أفراد الشعب الفلسطيني بملكية أراضيهم. 

في السياق عينه، أصدر المركز كتاب "بلدانية فلسطين المحتلة 1948 ـ 1967"، وهو توثيقي خاص بالبلدات الفلسطينية، جغرافيتها، حدودها، وأسمائها. الكتاب المذكور، وفقًا للصايغ، هو بمثابة استئناف لكتاب "بلدانية فلسطين العربية" الذي نشره الأب لويس مرمرجي الراهب الدومينيكاني في عام 1948. تعود أهمية "بلدانية" وفق مذكرات الصايغ، لما يتضمنه من تفاصيل لبلدات في فلسطين. يرد فيه الاسم الأصلي لكل بلد بالعربي، ومن ثم اسمه الذي حرّفه الصهاينة، وموقعه الجغرافي وتاريخه واقتصاده وأبرز معالمه. شكل الكتاب المذكور مرجعًا هامًا لغالبية الباحثين والصحافيين والإعلاميين الذين يتناولون موضوع فلسطين.

توضيحًا للتحولات التي طرأت على الأراضي الفلسطينية، بعد عدوان 1967، أصدر مركز الأبحاث كتابًا تحت عنوان: "المستعمرات الإسرائيلية الجديدة بعد عدوان 1967"، شرح فيه كل ما يخص المستعمرات، التي بناها الإسرائيليون إثر العدوان المذكور. الكتاب هو أول دراسة توثق عمليات الاستيطان والتهويد، في المناطق التي سقطت بعد العدوان، ولا سيما سيناء والجولان.

خرائط وطرق مواصلات لإسناد الفدائيين

تزامنًا مع انطلاق العمل الفدائي في جنوب لبنان، واكب الناشرون الفلسطينيون، إصدار المجلات المتخصّصة، التي كانت توزع داخل بيروت، ومن ثم في أنحاء العالم العربي. أصدر المركز، بين الأعوام 1969 و1971، مجموعتي خرائط ميدانية، الأولى تحت عنوان "خرائط فلسطينية"، والثانية حملت عنوان "طرق المواصلات في فلسطين". كان الهدف منها، أن يستخدمها الفدائيون كدليل لتحركهم داخل الأراضي المحتلة. مع ازدياد العمل الفدائي خارج فلسطين، أصدر المركز كتابًا توثيقيًا عن هذا العمل حمل عنوان: "العمليات الفدائية الفلسطينية خارج فلسطين".

اعرف عدوك

تخطيًا لفكرة القائلين أن العربي يعرف عدوه جيدًا، وفق ما يقول الصايغ في مذكراته، اهتم مركز الأبحاث بالشأن الصهيوني، وأصدر في صدده عددًا من الكتب، من بينها: "من الفكر الصهيوني المعاصر"، "الفكرة الصهيونية"، "التضليل في خسائر إسرائيل". تتضمن الإصدارات المذكورة كل ما له علاقة بالعدو، تاريخه وأفكاره ومخططاته، ونواحي حياته الفكرية والثقافية والإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية والأمنية.

لم يقتصر نشاط مركز الأبحاث الفلسطينية على إصدار الكتب، بل تخطاها إلى إصدار الدوريات والمجلات والنشرات التي واكبت تطورات القضية الفلسطينية


دوريات ومجلات

لم يقتصر نشاط مركز الأبحاث على إصدار الكتب، بل تخطاها إلى إصدار الدوريات والمجلات والنشرات التي واكبت تطورات القضية الفلسطينية، وأحداثها عربيًا ودوليًا وإسرائيليًا، فكان المؤلف التوثيقي "يوميات فلسطينية"، الذي استمر إصداره بين الأعوام 1966 و1976.

ومع بدء التوترات الأمنية التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، صدر عن المركز عدد من المجلات، أبرزها "شؤون فلسطينية"، "المستقبل العربي"، "قضايا عربية"، "شوون عربية". تخطى عدد المجلات المذكورة المئة. نشر فيها حوالي ألفي بحث ومداخلة ودراسة. وفق مذكرات الصايغ، ركزت المجلات هذه على قضية فلسطين، في مختلف النواحي السياسية والتاريخية والدولية، والقانونية، والاقتصادية والتربوية. لم يغفل المركز أيضًا إصدار قائمة بيبلوغرافية للقضية الفلسطينية، في المجلات العربية الثقافية، التي رُصد فيها النشاط الثقافي، ابتداء من عام 1948 وحتى العام 1970.

20 ألف عنوان في مكتبة

تعتبر المكتبة التي أسسها مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت أكبر مكتبة، من نوعها، خارج فلسطين، وقد حوت 20 ألف عنوان، من بينها قسم خاص بوثائق المقاومة الفلسطينية، فصائلها، ومنظماتها وإدارتها، والخرائط التفصيلية عن فلسطين، التي تفيد العمل العسكري. يوضح الصايغ، أن ضباطًا، في بعض الجيوش العربية، كانوا يترددون على المركز للاطلاع، على جزئيات هذه الخرائط المفصلة.

الذاكرة المرتحلة

لم تسلم الذاكرة الضخمة، التي وثقها مركز الأبحاث عن فلسطين، من عسف الاحتلال الإسرائيلي. وعلى قاعدة "قتل البشر يقابله قتل الذاكرة"، أقدم جنود الاحتلال، بالتزامن مع المجازر التي ارتكبوها بحق اللاجئين الفلسطينيين، في مخيمات صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982 على اقتحام المركز وسرقة محتوياته. شهود عيان رووا كيف كان الصهاينة ينقلون صناديق الكتب من المركز إلى آلياتهم، ويرمون أخرى في الشارع.

محتويات المركز، والمكتبة التي استغرق العمل فيهما سنوات طويلة، وجهودًا جماعية لمفكرين وباحثين وأكاديميين ومترجمين وكتاب وروائيين، اجتمعوا من كل حدب وصوب، في عمل يصفه الصايغ بأنه "لا يمكن إعادته". شهدت هذه ترحالًا، كما هو شأن الفلسطينيين. الكتب التي نجت من سرقة الجيش الإسرائيلي، تم نقلها إلى قبرص عام 1983. استردت القيادة الفلسطينية، جزءًا منها بعد مفاوضات، أجرتها مع الصليب الأحمر الدولي، الذي نقل بدوره، قسمًا منها إلى جنيف، ومن ثم إلى الجزائر عام 1988.

خبر سرقة وإتلاف مركز الأبحاث الفلسطينية، تصدر الصفحة الأولى في جريدة السفير اللبنانية، التي عنونت عددها الصادر في 30 أيلول/ سبتمبر 1982: "الغزاة نهبوا مركز الأبحاث الفلسطينية والموظفون يستعدون لاستئناف العمل".

إنقاذ الذاكرة: عود على بدء

لم يكن مخطط طمس ذاكرة الفلسطينيين، عبر سرقة مركز الأبحاث وإتلاف محتوياته، بالأمر الجديد. إذ سبق أن قام الإسرائيليون في عام 1948 بسرقة مكتبات فلسطين التي تعود ملكيتها لأفراد ومثقفين وباحثين، من بينها مكتبة خليل السكاكيني، وغيرها، وضموها إلى مكتباتهم.

محاولات الطمس هذه، أدت إلى قيام عدد كبير من المؤسسات التي أنشأت لحفظ وتوثيق الذاكرة، كيفما كانت، وأينما وجدت. كان من بينها مشروع "فلسطين في الذاكرة"، الذي تأسس عام 2000، وهدف إلى توثيق التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، بالاعتماد على الذاكرة الشفوية الحية، التي ما زال كبار السن يملكونها.
كما لا بُد من التنويه بالمشروع الذي أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مطلع عام 2016 لبحث وتوثيق الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي حدّد اهتمامه ببناء مكتبة للوثائق والأوراق والشهادات والبحوث المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والقيام ببحثها، وإتاحة مصادر المعلومات والبيانات الأوليّة للباحثين المختصين.

مكتبة بلدية غزة

ما بعد الحرب ليس كما قبلها، إلا أن حروبًا لا تنتهي مثلما هي حال الفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل، أمر يجعل من ذاكرتهم متأهبة ومتلازمة مع تاريخ حياتهم. ها هي المجزرة بحق الذاكرة، تستمر من خلال الحرب على غزة، وتبيد إلى جانب شعبها، كل ما فيها من حياة. بعد أن طاول القصف مبنى البلدية الذي يحوي بداخله المكتبة، وأتلف محتوياتها. وفق تصريح رئيس البلدية يحيى سراج، تحتوي المكتبة على مقتنيات تاريخية، ومجلدات وصحف فلسطينية، وكتب، ووثائق يتراوح عمرها بين 100 و150 عامًا، إضافة إلى أرشيف ومخططات لمباني البيوت القديمة، وطلبات بناء منازل مقدمة للبلدية، مكتوبة بخط اليد. كما طاول القصف أيضًا مركز رشاد الشوا الثقافي، وهو أحد أقدم المباني الثقافية في فلسطين، ما أدى إلى تدميره بالكامل.

حملة (ما اسمهاش)

غزة اليوم، هي حدث الساعة، ومع كل قتيل وجريح ومصاب وعضو مبتور، ومبنى مهدم، هناك ذاكرة تبنى. ولأن الفلسطينيين فرض عليهم أن يعيشوا خارج قراهم ومنازلهم وبلداتهم، في الخيم والعراء والطرقات، حيث لا وسيلة سوى ذاكرتهم الشفهية، يبتدعون من خلالها أنواعًا وأشكالًا من المقاومة؛ ها هم ناشطون مؤثرون على وسائل التواصل الإجتماعي، يطلقون، تزامنًا مع الحرب على غزة، حملة "ما اسمهاش"، الهدف منها ترسيخ أسماء البلدات والقرى والمدن الفلسطينية الأصلية، بعد أن عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تغييرها، منذ عشرات السنين. في ظل الظروف القاهرة، التي يعيشها الفلسطينيون اليوم، نسمع رجالًا ونساء وأطفالًا وعجزًا يرددون أسماء بلدات وقرى فلسطين، مصححة باللهجة الفلسطينية العامية، "ما إسمهاش إيلات إسمها أم الرشراش، ما إسمهاش تل أبيب، إسمها قرية الشيخ مونس (يافا)، ما إسمهاش بئير شيفع إسمها بئر السبع، ما إسمهاش عكو اسمها عكا، ما إسمهاش كريات شمونة، إسمها الخالصة"... إلخ.


مراجع:

- مذكرات "أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ".

- صفحة بلدية غزة.

- موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

- موقع الجزيرة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.