}

حكايات من مخيمات اللجوء الفلسطيني: الجرح المستمر

رباب دبس رباب دبس 18 أبريل 2024



تستدعي الكتابة عن مخيمات اللجوء، التي يعيش فيها الفلسطينيون في لبنان، تصورات عدة، من بينها عشوائية العمارة، وانعدام التخطيط المُدني، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع نسبة البطالة التي أكثر ما تتأثر بها الفئات التي تترواح أعمارها بين 19-35 عامًا، وتبلغ نسبة هذه الفئة 63 بالمئة من مجموع اللاجئين في لبنان.

تستحضر الأرقام المذكورة، أسئلة عن أحوال عيش الفئات الشبابية في المخيمات، واستنطاق آرائها في الأحداث السياسية والأمنية والإجتماعية، ونظرتها إلى المخيم والهجرة وفلسطين.

تطلعنا شهادات أحد عشر شابًا وشابة، يعيشون في مخيمات اللجوء الفلسطيني، بين لبنان وسورية، على دواخل أفكارهم في كتاب "11- حكايات من اللجوء الفلسطيني"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2017، والكتاب هو ثمرة ورشة تدريب على الكتابة الإبداعية.

تعكس السير منابت الكتّاب المتنوعة، وجلّهم من الجيل الثالث، الذي عاش وشهد تحولات الحياة الاجتماعية. منهم المدرس والعازف والشاعر والمسرحي والرسام، والمقاتل، والعاطل عن العمل، والمتطوع في المنظمات الإنسانية والاجتماعية، ومنهم من هاجر. ثلاثة من الكتّاب فقط كانوا شهودًا على حروب واجتياحات إسرائيلية للمخيمات.

المخيم: فلسطيننا الصغرى

أن تعيش في مخيمات اللجوء الفلسطيني، يعني ذلك أنك تعيش في مجتمع له خصوصيته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكل ما يقع في داخل هذه المخيمات، يختلف عما هو خارجها. هذا ما تخبرنا به السير، التي يقترب المخيم فيها لأن يكون بمثابة فلسطين مصغرة، ينفصل داخلها عن خارجها، بما يشبه المدخل الذي ما إن يتخطاه الفلسطيني حتى يصبح داخل بيته، وفي بيئته، وبين جماعته وجيرانه، وعائلته الممتدة. في المخيمات يحكي الفلسطينيون لهجتهم، ويلبسون زيهم التقليدي في الاحتفالات، ويطبخون أكلاتهم التراثية. يجولون في الحارات التي تحمل كل منها، اسم القرى التي وفدوا منها (عكا، الشيخ داوود، حارة التراشحا…).

هكذا يعيش الفلسطينيون في مخيمات اللجوء فلسطينيتهم. فيها يستذكرون فلسطين، ويحلمون بأن يعودوا إليها وأن يدفنوا في ترابها، كما هي أمنية ميرا صيداوي، التي ترغب في أن تدفن في عكا، التي توازيها مع الخالق: "الله والوجود وعكا"، مستذكرة قول والدها: "كل إشي برات فلسطين، هو خارج الوقت، فش وقت براتها".

المخيم حاضر في رأس ميرا: "أخبّئ المخيم في رأسي"، فهي ترصد كل ما يدور فيه من أحاديث، وأخبار، وأحداث وطرائف عن شخصيات،  من بينها "سوبر مان المخيم"، والببغاء الذي سماه أهل المخيم "نصر" تيمّنًا بالنصر، الذي أكد الطبيب الذي عاينه في مستشفى حيفا بأنه "أسد ولا أبو حسن سلامة بزماناتو". ثم تنقل أحاديث النساء، التي تدور حول التآمر على القضية الفلسطينية، ومواقفهم من حق العودة، والخلافات حول القادة: "النصر وحق العودة وأبو عمار، هؤلاء الثلاثة يتفق عليهم أهل المخيم، رغم أنهم يختلفون على كل ما تبقى".

"المكان الأوفى"

لا يعكس كتاب السير نفورًا من العيش في المخيم، رغم أن المشهد البصري يكاد يتوحد في معظمها في الفوضى، وعشوائية العمارة، وانعدام البنى التحتية، وسوء حال البيوت التي تتحول في الصيف إلى كتل حارة، وتصبح في الشتاء مكانًا شديد البرودة، تتسرب المياه من جدرانها وسقوفها. بل إن ثمة وفاء يحمله الكتّاب للمخيم، باعتباره حاضنتهم التي عاشوا فيها بين أهلهم وأخوتهم وأصدقائهم. يسمي سالم ياسين "مخيم المية ومية" في صيدا، حيث ولد وعاش، بـ "المكان الأوفى". تتأتى سمة الوفاء لدى ياسين، من الفضاء العام للمخيم، وما تتيحه جدرانه من مساحة حرة للشباب، يدونون عليها أفكارهم في السياسة، وفي الحب وفي النضال، وفي القهر، وعبارات الرثاء للشهداء. الجدران في هذه الحال، كأنها "الصراخ الصامت" و"مرآة اللاجئين" و"صحيفتهم الشعبية"، التي تتزايد وتتداخل بعضها مع البعض الآخر مع كل حدث جديد، والحصة الأكبر منها تبقى لفلسطين: "فلسطين يا جرح الزمان الدائم"، "ثورة حتى النصر" "فلسطين يا وطني"، "بحرنا الميت"، "إليك نجئ يا وطني… إذا مستنا ريح هواك، فوق البحر فوق البحر نمتد..."، "قوات الشهيد البطل عارف العقرب"، "أحبك"، "إذا طال الزمان ولم تروني هذا رسمي فتذكروني"، "فلسطين عروس مهرها الدماء".

في سيرة انتصار حجاج، يتجسد مخيم عين الحلوة في صيدا، مكانًا أبديًا للاجئين الفلسطينيين، فتمنحه سمة مركزية رسمية، تسميه "عاصمة اللجوء الأبدي"، بل إنه "العالم الأبدي"، هذا العالم هو الذي ولدت فيه انتصار، وعاشت فيه مع أهلها وإخوتها وأقربائها، وجدّتها التي وفدت إليه وهي في ريعان شبابها، وبقيت فيه إلى أن توفيت بعمر 103 أعوام، تاركة لأولادها وأحفادها، حكاياتها الكثيرة عن فلسطين. 

كل ما يقع في داخل هذه المخيمات، يختلف عما هو خارجها (مخيم شاتيلا، Getty, 19/4/2023) 


في حب فلسطين

يافا التي سماها والدها المقاتل في الجبهة الشعبية باسم مدينته لكي يتذكرها كلما ناداها، يسكنها شوق لزيارتها، فتستحضرها في مخيالها متسائلة عن كل ما فيها: "كيف هي حال الشوارع والبيوت، لا أعرف كيف يسير الناس في الشوارع، ولا كيف يتكلمون في تلك البلاد، أخاف أن أسيء الوصف". أصدقاء يافا القادمون من الأرض المحتلة، يحضرون معهم منها كوفيات. هم بالنسبة لها أصدقاء "من طعم آخر". أما الجنسيات التي يمنحها الغرب للفلسطينيين، فتشبه المهزلة بنظر يافا. فالفلسطيني "إن كان فلسطينيًا فهو لا يسعه العيش في فلسطين"، وإن كانت لديه جنسية من دولة غربية فهو "يستطيع العيش في فلسطين".

الحكايات عن فلسطين، بالنسبة لناديا فهد تبقى في الخيال. بينما فلسطين في الواقع بعيدة المنال، ولأنها كذلك، فإن ناديا تمنّي نفسها بأن تدفن فيها، وتحسد أصدقاءها الذين منّ الله عليهم بزيارة فلسطين، بينما هي "شبعت من الحكايات عنها".

ثمة حب مخبوء وخاص لفلسطين تعبّر عنه وداد طه في سيرتها. هي التي لم تشارك يومًا بأي نشاط أو تظاهرة لهما علاقة بفلسطين، ففلسطين بالنسبة لها شيء خاص. بل كان حبها لها بمثابة عبادة من نوع آخر: "كان حبي لوطني يشبه صلاتي إلى الله، أخفيها عن نفسي لو استطعت".

نقل والد حنين لها حبه لفلسطين عبر الأغاني التي كان لا يمل من سماعها بصوت عال كل يوم: "طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع"، فيما جدتها تحرّضه على أن "يعلّي" الصوت أكثر: "بدي الصوت يهدّ الأرض"، وتدعو له بلهجتها الفلسطينية: "الله ينصركو يما". هكذا هو الفلسطيني برأي حنين: "من مات ولم ير فلسطين ورّث أمنيته لأولاده".

الهجرة والمخيم وحلم العودة

يغادر الفلسطينيون المخيم، يسافرون، ومن ثم يعودون إليه، ليحلموا فيه بالعودة الى فلسطين. بهذا الوصف، يجسد طه يونس في سيرته، كيف يربط الفلسطينيون بين المخيم وفلسطين. فالشعارات التي تنتشر في فضاء المخيم وفي كل مكان "نضال، مقاومة، كوفية، دم، مسيرة، حق العودة، الحدود" تجعل من فلسطين تبدو في الحلم "كأن سكانها لم يخرجوا منها".

معاناة اللاجئين الفلسطينيين للهجرة، حاضرة في قصص اللجوء. ربا رحمة، التي ولدت وعاشت في مخيم اليرموك في سورية قبل أن تنتقل إلى بيروت، ومن ثم إلى ألمانيا، تعكس في سيرتها الصعوبات التي يعانيها الفلسطينيون، في محاولات لمّ شمل عائلاتهم المنتشرة في المهاجر. تتراوح صورة فلسطين في قصة ربا بين الحب والعتب، وبين التخلي والعشق. حين منحها الغرب "إقامة شرعية بصفة عربية"، وقّعت عليها بكامل إرادتها: "سأوقّع بكامل إرادتي تخليّ عنك يا فلسطين، لكني سأحتفظ بك في قلبي، على الرغم من أنك لم تمنحيني سوى التشرد، والقهر والفراق، وإن زدتني تمسكًا بذاتي وهويتي". إلا أن الفلسطيني لا بد أن يعود الى فلسطين، مثلما عادت إليها ربا: "كم أعشق أنني فلسطينية، وولدت في أرض الشام، كم أعشق عروبتي، وأرض ومخيم اليرموك".

حروب ومجازر

من حكايات اللجوء الفلسطيني، ما يصف الواقع السياسي والأمني في المخيمات، انقسام الفصائل الفلسطينية ومن ثم توحّدها، تنامي المنظمات الدينية، المجازر التي ارتكبها العدو الإسرائيلي، في حقبات زمنية متتالية، بحق الفلسطينيين في المخيمات. كلها لا زالت عالقة في ذاكرة يوسف النعنع الذي كان شاهدًا عليها في مخيم الداعوق الملاصق لـ"مخيم صبرا وشاتيلا". مشاهد تلخص فظائع الحرب ووحشيتها، من بينها حرب المخيمات بين حركة أمل والمقاومة الفلسطينية في عام 1985: "تناقل الأهالي حكايات تشبه الخيال، عن رقعة جغرافية أزقتها ضيقة قبل الدمار، لا تتسع لسكانها، تحولت ركامًا تحته بشر".

شهد يوسف بأم عينه أيضًا، قساوة أخرى في الحرب، منها لجاره الذي ترك والدته العجوز، لعدم قدرتها على الحركة، بعد أن ألحت عليه أن يهرب مع أولاده: "يمة الله يرضى عليك حاسة أن الأجل قرب، حاولت تشيلني ما قدرت، ومش رح تقدر تطلع فيي من هون، إطلع يمه ما بدي تنغلب وحس إني كنت السبب بخسارتك عيلتك"، "روح يمه وما تتطلع ورا". في الحكاية يعود الجار بعد انتهاء الحرب، ليحتضن جثمان والدته، "بعد رفع الركام وجرف الدمار المختلط بأثاث المنازل وجنى العمر وبقايا لحم الشهداء".

اجتياح، اجتياحان، ثلاثة، يخبرنا محمود زيدان الذي شهد عددًا منها، عن العيش وسط الحرب والمجازر، ومن بينها الاجتياح البري لصيدا الذي قامت به إسرائيل، والدمار الهائل الذي خلفته في المدينة، حيث كان القتلى في الشوارع والطرقات وفي كل مكان. ثم يأتي دور بيروت التي نفّذ فيها الإسرائيليون مجازرهم الوحشية بحق سكان مخيمي صبرا وشاتيلا، ومغادرة منظمة التحرير الفلسطينية في بواخر في البحر. زيدان الذي عاش الحروب المذكورة، يعكس في سيرته إحباط الفلسطيني وذهوله حيال ما يجري، يشعر بأنه متروك من كل ما آمن به: "رأيت الثورة تتركنا وتمضي".

هي قصص وحكايات كتبها فلسطينيون، عن حياتهم في المخيم، وهي في مجموعها تُجسّد الجرح الفلسطيني المستمر منذ النكبة، حتى يومنا هذا. وما يحدث في غزة اليوم تتمة لهذا المشهد، الذي يعتبر الأكثر وحشية في تاريخ البشرية. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.