}

القراءة المبعثرة والجيل الرقمي الجديد

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 8 يونيو 2023
اجتماع القراءة المبعثرة والجيل الرقمي الجديد
(Gettyimages)

في مذكراته الشخصية يقول الروائي أنطوان دو سانت أكزوبري، وهو طيار فرنسي: "شيئًا فشيئًا ستصبح الآلة جزءًا من الإنسانية". كان هذا عام 1939 لما تم تصنيع القاطرات البدائية والسكك الحديدية في القرن التاسع عشر. واستشراف أكزوبري ليس نبوءة بالمُقبل من عجائب الصناعات، بقدر ما هو صورة ممكنة لصيرورة الصناعات في تشكيل أفق علمي يساعد الإنسان على تخطي عقبات حياته، وتسهيل يومياته الوظيفية والعملية، وأن تكون الآلة جزءًا من الإنسانية فعلًا تشارك في ضبط إيقاع الحياة حوله.

باعدنا عن مقولته زمن طويل، يوم كانت أوروبا تتعامل في المنطق الصناعي واكتشافاته السريعة التي حولتها من قرية زراعية إلى صناعية آلية. ويقينًا فإنّ التعامل مع خيال أكزوبري وقتها هو حدس إنساني بأن الآلة ستصبح جزءًا من الواقع الإنساني والبشري في تعاملاته الوظيفية والأخلاقية والجمالية والعلمية، وهذه هي حقيقة الحدس السردي التي تطورت أكثر من خياله بكثير، حتى عبرت أفق التوقعات بعد الثورتين الزراعية والصناعية التي شهدتها أوروبا والعالم، وصولًا إلى ثورة الإلكترونيات الثالثة التي فاقت الثورتين بتقنياتها الكبيرة وأدخلت المجتمعات الإنسانية في العوالم الافتراضية السريعة. كأننا نعيش في عصر أشباح وإيماءات متواترة، لا يصعب فيها شيء ولا يستحيل.

ومع التطور الصناعي الفذ، تطور الجانب الثقافي كتحصيل حاصل لمنجزات الآلة، ومع أن الإنسان اعتاد على الكتاب والمطابع ورائحة الورق والأحبار فيه كسلوك قرائي طبيعي قديم المعنى والأثر، حتى لم يكن يتخيل أن الحياة العلمية والإلكترونية ستغير هذا المعنى إلى سلوك آخر في القراءة بمرور عقود طويلة، وينشأ جيل رقمي، تتواتر قراءته بطريقة القفز على الصفحات في علوم وآداب متفرقة وفرتها شبكات التواصل الإلكترونية متعددة الأقطاب والاتجاهات.

بطبيعة الحال فإننا نشير مبدئيًا إلى تغييرات لا في سلوك القراءة حسب، إنما في الأذواق والاهتمامات الثقافية والمعرفية عامةً، تلك التي تشكل الوعي البشري وتستقدم المعرفة إليه. فإن كان الكتاب قد رافقنا أجيالًا وعقودًا، وأنشأ الحضارات الإنسانية برمتها، وإن مصادر المعلومات والمعرفة ذاتها ليست متعسرة الآن مثل الأمس، بل تتوفر بجميع اللغات، وبات الإنتاج الثقافي والمعرفي غزيرًا بطريقة واضحة لا يحتاج المرء فيها إلى رائحة الورق والأحبار والمطابع. بل تحول كل شيء إلى كتل رقمية ونصوص مجردة وخرائط وتصاميم سريعة، بما يعني إنشاء قراءات اصطناعية جماعية عبر تلك المسالك الإلكترونية. وأصبحت القراءة سريعة تبعًا لإيقاع الحياة العصرية. أي أصبحت تغادر فرديتها في الكتاب الورقي منذ إطلاق شبكة الإنترنت عام 1993 إلى القراءة الجماعية الافتراضية. بما يشي؛ ظاهريًا؛ بازدهار المجتمع المعلوماتي، نظرًا لجاهزية المعلومات من كل صنف علمي وثقافي وسياسي واقتصادي. وانغلاق ما يسمى بالفجوة الرقمية، وهي (الهوة الفاصلة بين الدول المتقدمة والدول النامية في النفاذ إلى مصادر المعلومات والمعرفة والقدرة على استغلالها) كواقع فرضه تدفق المعلومات، بانحسار الكتاب الورقي؛ كجزئية مهمة من التعامل الثقافي؛ وشيوع الثقافة الرقمية والبرمجيات على نطاق عالمي واسع نافست على نحو لا يقبل الشك رائحة الأحبار التي ستنطوي بمرور الزمن الرقمي.

السياسة التي استفادت من الإلكترونيات الواسعة، أطلقت المجتمعات الديموقراطية في ثورات في العالم العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي اختصرت الزمن والمسافة والإشهارات الثورية المتعددة

هذا المتحصل من ثورة الإلكترونيات، بمجموعاتها الكبيرة ربما هي متقاربة الأذواق، ما يزال مثار جدل بطريقة تسخين الحوار المتجاذب بين الأطراف، فالثقافة الرقمية قد تؤثر على مسارات الإبداع، وتخلخل القراءة والكتابة في جاهزياتها المعروضة إلى الجميع. وعالم النصوص الرقمية هو عالم التشظي والسهولة، هكذا يرى الضدّيون، بينما يرى محللو هذه الثورة الإلكترونية، أن الثقافة جزء من الحياة الاجتماعية وليست كلها، فالسياسة التي استفادت من الإلكترونيات الواسعة، أطلقت المجتمعات الديموقراطية في ثورات في العالم العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي اختصرت الزمن والمسافة والإشهارات الثورية المتعددة. ومن جانب آخر فإن التقنيات الرقمية والهواتف الذكية وقارئات الموسيقى ومنافذ التواصل الاجتماعي الكثيرة، بقدر ما فيها من ملاحظات، حولت العالم إلى قطعة واحدة في الاتصال والتواصل على حساب ثقافات الورق والكتب والمكتبات، وكوّنت المجتمعات التقليدية بطريقة منسجمة إلى حد كبير، والعالم في النهاية بات قرية صغيرة، لا يحتاج إلى كل المسافات الجغرافية والقارات المتباينة سلوكًا وثقافة ووعيًا.

التعامل مع خيال أكزوبري هو حدس إنساني بأن الآلة ستصبح جزءًا من الواقع الإنساني والبشري في تعاملاته الوظيفية والجمالية والعلمية (Getty, france, 1936)


صحيح أن التكنولوجيا والمجتمع كوحدتين غير مستقلتين لا تتجاذبان في الحد الأدنى من ذلك، لكنهما (في حالة تفاعل مستمر ودائما في حالة تشابك والواحد يغني الآخر) وهذا التفاعل يُنتج الكثير بما يعزز وحدة الحياة والثقافات، أما شرط الإبداع الفطري والعفوي، فهو باقٍ في المواهب بالرغم من تشظي المعرفة وإيجادها من دون الحاجة إلى المزيد إلى الأساطير والخرافات والكتب والعلوم القديمة. وقد يكون هذا المنطق مستثيرًا إلى حد ما، يهدف إلى طي صفحة الإلهام الأسطوري الذي تعامل معه كتّاب الماضي، لذلك فإن الباحث ريمي ريفيل له رأي حاد عندما قال: منذ أن أصبح الوصول إلى المعلومة على الويب بدأت تتضاعف التفاهة...!

هذا الرأي الذي يتكرر دائمًا ليس قياسًا أخيرًا في التنمية الذاتية، التي ترى في أن السلوك الثقافي قار على الوعي القديم؛ وعي الكتاب والورق والأحبار؛ فكلا الآراء تثير الجدل المعرفي في الوقت ذاته. فالمجتمع المعلوماتي الذي أصبح ينتج الشاعر والصحافي والسياسي والمحرر ورئيس التحرير ومخرج الأفلام، لا ينتج العبقري والعالِم والفيلسوف والمكتشف والمخترع. على عكس المجتمع المعرفي القديم الذي أنتج الفيلسوف والعبقري والمكتشف والعالِم، بجهود ذاتية ليست سهلة في الأحوال كلها. لكن المجتمع المعلوماتي أعطى القليل من المؤشرات الحسنة التي يمكن لها أن تتفاعل مع الحياة بواقعية، ويمكن أن يكون عطاء القليل في مستقبل الحياة الإلكترونية مجزيًا في الثقافة والعلم والحياة الاجتماعية. فالغد الإلكتروني ربما يكون فاعلًا في توفير نبوءات ثقافية لسنا قادرين على تخيلها والإمساك بمعطياتها المحتملة.

إن التفاهة التي أشار اليها ريمي ريفيل ليست ضد العصر الرقمي كناتج حضاري مهم في تكنولوجيا الإلكترونيات، لكنه يؤشر بوضوح إلى عدم العدالة والمساواة بين البشرية، إذ لم تحل مشاكل العالم ولم توحد نظرياتهم النفسية والأخلاقية في بناء عالم أكثر تسامحًا وعدلًا ومساواة، حتى حينما وسعت من إطارها المكاني بين القارّات لبث المعرفة الإنسانية في علومها واقتصادياتها وثقافاتها العامة فإنها من جانب آخر أبقت رقابتها المجهولة على الحياة بشكل عام. والحياة الرقمية ليست بمنأى عن التلصص الاستخباراتي العالمي، وبهذا لن تكون ثمة عدالة ومساواة في هذه الثقافة التي تزحف إلى المجتمعات البشرية يومًا بعد يوم.

قبل زمن طويل قال أكزوبري إن الآلة ستصبح جزءًا من الإنسانية، في وقتٍ كانت فيه الصناعة تتقدم، منتقلة من عصر القرية الزراعي، إلى مدنية الحياة بكل ما فيها من عوامل التقدم الصناعي. ولم تكن الإلكترونيات متاحة وقائمة آنذاك، لأنها ببساطة كانت في علم الغيب...!


مصادر وهوامش:

  • أنطوان دو سانت إكزوبيري: طيار وكاتب فرنسي، ولد في التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1900 في مدينة ليون ومات في مهمة من أجل فرنسا عام 1944، حيث لقي حتفه في أعقاب إحدى المهمات الاستطلاعية، ولم يعثر على جثمانه إلا في عام 1988 على الساحل الفرنسي قبالة مدينة مرسيليا. من أشهر رواياته: (أرض الرجال 1939) و (طيار الحرب 1941)- ويكيبيديا.
  • الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟ ريمي ايفيل ت: سعيد بلمبخوت. مراجعة: الزواوي بغورة- عالم المعرفة - الكويت -2018
  • المعلوماتية بعد الإنترنت (طريق المستقبل) بيل جيتس. ت: عبدالسلام رضوان - عالم المعرفة الكويت- 1998
  • الفجوة الرقمية- رؤية عربية لمجتمع المعرفة. تأليف د. نبيل علي - د. نادية حجازي - عالم المعرفة - الكويت - 2005

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.