}

الحَج: عبادةٌ جماعيةٌ تبحثُ عن تعاضدِ الإيمان وجماهيريّة البَوْح

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 1 يوليه 2023
اجتماع الحَج: عبادةٌ جماعيةٌ تبحثُ عن تعاضدِ الإيمان وجماهيريّة البَوْح
مناسك الحج تترابط ظاهريًا وباطنيًا، ماديًا وروحيًا
على عكس كثير من العبادات المجلّلة بالوحدةِ والرّوحانيةِ والخصوصيةِ والهدوءِ والخُشوع، يَتَمَظْهَرُ الحجّ بوصفِه أكثر طقوس الأديان (السماوية وغيرِ السماوية) وشعائِرها، صخبًا وجماعيةً وانْغماسًا جسديًّا، وأكثرها وضوحًا وشموليّة.
هذا ما نلمسه في حجِّ المسلمين، وحجّ غيرِهم، وهذا ما يجسّده مفهوم الانتقال بالجسدِ الحاملِ لِلروح من نقطةٍ ألف إلى نقطةٍ باء، في مواعيد ومواقيت متعيّنة، لأداء شعائر ومناسك وطقوس وعبادات محددّة، ترمي، في معظمها، لِتأكيد التابعية، وإعلان جاهزيّة الفِداء والتفاني (تفاني العبْد لِصالح المعْبود)، والذّوبان الكليّ الانقياديّ المُتعاضد، لحظةَ التّنفيذ، مع حيَوَاتٍ وأجسادٍ وكتلٍ أُخرى.

حجُّ المسلمين
لعلّ في تعريف البوسنيّ علي عزّت بيغوفِيتْش (1924 ـ 2003) لِلركن الخامس من أركان الإسلام، ما يذهب إلى تأكيد البُعدِ الجماعيّ لِهذا الرُّكن، حيث يقول بيغوفِيتْش إن الحج هو: "شعيرة دينية، وتجربة روحية، ولكنه أيضًا تجمّع سياسيّ، ومعرضٌ تجاريّ ومؤتمرٌ عامٌ للأمّة".
أمُا بعدهُ الجسديّ، فهُو ما يؤكّده الألمانيّ مراد هوفمان، الذي يرى في كتابه "رحلة إلى مكّة" أن مناسك الحج تترابط ظاهريًا وباطنيًا، ماديًا وروحيًا، وأنّ هذا الترابط ليس غريبًا على المسلمين؛ فـ "العقيدة الإسلامية تؤلِّف بين الروح والمادة معًا، ولِذا فإنّ التوجّه إلى الله في الإسلام لا ينحصر في الروح فقط، أو الجسد فقط؛ والمسلم في صلاتِه، وفي صومِه، وفي نحرِه للأُضحية، وفي حجِّه، ليس حاضرًا بروحهِ وعقلهِ وقلبهِ فقط، وإنّما بِلحمهِ ودمهِ أيضًا؛ فهو إما أن يكون حاضرًا كلّه، وإما ألا يكون حاضرًا البتّة؛ وهذا ناتج عن التّوحيد بوصفهِ مبدأ جامعًا من منظورٍ إسلاميّ".
العلّامة د. أحمد العساف اللبنانيّ البيروتيّ (1937 ـ 1982) يرى أنّه "مَهما تنوّعت الرّحلات واخْتلفت؛ فإنَّ أعظم رحلة يقوم بها إنسانٌ هي تلك الرّحلة التي تسبقُ مشاعرُه فيها جوارحَه، وترْنو إليها روحُه سابقةً جسدَه، ويهيمُ بها فؤادُه قبلَ الشّروع فيها، ولا تجتمعُ هذه الصفات إلا لِقاصدي البيتِ العتيقِ للحجّ والعُمرة؛ ثمّ اهْتبال فرصة القُرب لِزيارة المدينة النبوية والصّلاة في مسجدها، وَيا لها من رحلة تسْتعذبها الأرواح، وتستروِحُ النّفوس عبيرَها، وتظلُّ ذِكراها الجميلةُ عالقةً في ذهنِ منشئِها زمنًا طويلًا".
وَلا تبتعدُ عن ذلك كثيرًا، رؤية الفقيهِ المغربيّ المقاصديِّ أحمد الريسونيّ: "لقد أكرمنا الله تعالى وشرّفنا بعباداتٍ متعددةٍ ومتنوّعة، حتى يَجِدَ كل الناس ـ على اختلافِ ظروفهم وقدراتِهم ـ فرصتهم ونصيبَهم ومجالَ قوّتهم منها. وأيضًا حتى يجد كل مكلّفٍ أنواعًا من العبادات تتسع لكلِّ ما فيه ومَا لديه من جسمٍ وعقلٍ وروحٍ ومالٍ ووقْت. فَالصلاة عبادة لروحِهِ وعقلِه، والصيامُ عبادة أخرى لِبدنِه، والزكاةُ عبادة لمالِهِ ونفسِه، والذّكر عبادة لقلبهِ وعقلهِ ولسانِه... ولكنّ الحج يجمع كل هذا ويزيدُ عليه. فالحاج يعطي غير قليل من وقته في رحلته ومناسِكِه، وهُو يضحي بِماله الذي ينفقه وَبماله الذي يتركه، أوْ يفوّت كسبَه. والحاج يُجاهد ويُعاني ببدنِهِ وحواسّهِ كافّة. وهُو ينهمك في حِجّه بقلبهِ وروحِه، ويلبّي ويذكرُ ويدعو بقلبِهِ ولسانِه، ويمشي بقدميهِ ويرمي بِيديه".
فهل أوضح من ذلك حوْل كليّانيّة عِبادة الحج وشمولِها مختلف متعلّقات الوجود الحيّ لحظةَ تأدِية الشّعيرة/ الرُّكن/ الفَريضة.

الحجُ المَسيحيّ
إلى الأرض/ الأراضي المقدّسة يحجُّ كل عام ملايين المسيحيين من مختلف طوائفِهم.
أمّا أين تلك الأراضي، فإنها في فلسطين والأردن؛ في فلسطين المهد والقيامة ودرْب الجُلجلة (طريقُ الآلام)، ومعالِم أُخرى، وبين فلسطين والأردن النهر المقدس، حيث تعمّد السيد المسيح عليه السلام، وفي الأردن، وتحديدًا فوق جبل نبّو، حيث قُطعَ رأسُ يوحنا المعمدان. عمومًا، وبحَسب وزير السياحة الأردنية، مكرم القيسي، فإن معالِم الحج المسيحيّ هي أردنيًا: المغطس (بعض العلماء اليوم يختلفون حول مكان العمّاد، فيرون أنه قد يكون في بيتِ عِينا شرقي نهر الأردن قرب أحد الأودية الصغيرة المُسمّى بِوادي الخرار)، جبل نيبو، كنيسة مار الياس، كنيسة سيدة الجبل (في عنْجرة/ عجْلون) ومكاوِر. ولعلّ في تصريح الوزير (وكالة الأنباء الأردنية "بترا"، 4 أبريل/ نيسان 2023) خلطًا بين الحج المسيحيّ والسياحة الدينية المسيحية، والله أعلم.



في العودةِ لِصروح الحج المسيحيّ في فلسطين، فإن ارتباطها باستهلالِنا حول جماعيّة الحجّ وظاهريّته مقابل باطنيّة بعض الشعائر والعبادات في عديد المعتقدات والطّوائف والمَذاهب والدّيانات، واضحٌ للعَيان، فمِن باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، يستحضرُ الحجّاج المسيحيون مراحلَ تعذيب يسوع، ويعبّرون بشكلٍ جماعيٍّ تراتيليٍّ عن كلِّ محنةٍ تعرّض لها؛ بدءًا بِالمحاكمة، مرورًا بِالعقاب (الجَلْد وحمْل الصليب)، وبالسقوطِ الأوّل والثّاني والثّالث، ولِقاء السيد المسيح بوالدتِه مريم العذراء، ومرورًا بِإعانة سمعان القيرواني للمسيحِ على حمْل الصليب، (التي يجسّدها حجرٌ قرمزيٌ محفورٌ عليهِ طبْعة يَد)، ثم قيامُ امرأةٍ بِمسح وجهِ يسوع المُمتلئ بِالعرق بِمنديلها الأبيض، ثم قول يسوع لِنساء القدس "إذا فعلوا بالعود الأخضر هكذا (ويرمزُ لِنفسه) فكيفَ يفعلون بِالعود اليابِس؟" وصولًا إلى الصّخرة التي صُلب عليها السيد المسيح، حيثُ لحظةُ تعريةِ يسوع من ثيابهِ، وتثْبيته على الصليب، ونُزولهِ عن الصليب وتوديعِ أمّه له، وصولًا إلى غرفة المَلاك والقبرِ الخالي.
طقوسٌ تتكرّر كل عام بمواقيت مرتبطةٌ بآلامٍ وصلبٍ وقيامةٍ كبرى؛ يبذلُ الحجيجُ المسيحيون خلالَها أجسادَهم الصائمة، ويقدّمون ظهورهم المنحنيةَ تحتَ صُلبانِ صبرِهم وإيمانِهم وتفاعلهِم مع عَذابات يسوعِهم، ويعلنون آلامهم المُتعالقة مع آلام رسولهم وإلهِهم، ويجسّدون قيمَ دينِهم.
وفي القدس (المقدّسة في كلِّ العهود وعندَ أتْباع الديانات السماوية جميعها)، معالِم مسيحيةٌ أُخرى كثيرةٌ، إضافةً إلى كنيسةِ القيامة، منها: ضريحُ السيّدة مريم، كاتدرائيةُ الثّالوث الأقْدس، كنيسةُ كلّ الأُمم، كاتدرائيةُ القدّيس جرجِس، وَكنيسة مريم المجدليّة.
وبعد قرونٍ من الاضطهاد الذي تعرّضت له المسيحية، وتعرّض له أتْباع يسوع في روما، وفي بقاعٍ أخرى كثيرة، صار لهم اليوم، إضافةً إلى أماكنِ حجّهم، أماكن كثيرة تتبعُ عنوان: "السياحةُ الدينيةُ المسيحيّة".
في هذا الإطار، تدخل كنائس ومَساحات وكاتدرائيّات، وحتى مسارح، جوقةَ التنافس على نيلِ حصّة من القداسةِ، أو القيمة، أو المعنى، الكفيلَةَ بجعلِها مَحَجًّا، أو على أقل تقدير، مقصدًا سياحيًا دينيًا عند أبناء المسيحية، سواء من الأورثوذكْس، أو الكاثولِيك، أو البروتسْتانت، أو طوائف مسيحية أُخرى. من الأماكن التي يؤمّها المسيحيون، إما بوصفهم حجاجًا، أو بوصفهم زائرين لمعالِمهم، أو مؤمنين بكراماتِ دينهِم، ومعجزاتِ إيمانِهم: كنيسة سيدة غوادالُوبي في المكسيك، مزار سيدة فاطمة في البرتغال، ومَزار السيدة لُورد في فرنسا. فضلًا عن معْقل الكاثوليكيّة وكنيسة القديس بطرس في الفاتيكان في روما، عاصمة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ومن الأماكن الحديثة متحف الخلق الذي تأسس عام 2007، في ولاية كنتاكي الأميركيّة، وكذلك مكتبة بيلي غراهام المرتبطة بالقائد الدينيّ الأميركيّ الأنْجلوساكسونيّ بيلي غراهام (1918 ـ 2018).

يغطس الحجاج الهندوس في نهر الغانج ويتمسّحون بالرّماد


زحفٌ جماعيّ
لعلّ أكبر زحفٍ جماعيّ موثّق في أيامنا هذه هو الحج الهِندوسيّ عندما يتوجّه زهاء 100 مليون هندوسيٍّ إلى نهر الغانْج (بَلغوا رقمًا قياسيًّا عام 2013، وصل إلى 120 مليون حاجٍّ هِندوسيّ)، وينتشرونَ على طوله، ويكونونَ أكثر، على وجه الخصوص، قرب مدينة الله آباد وحوْلها وفِي قلبها، للمشاركةِ في مِهرجان الهندوسية الأكبر "كومبِه مِيلا" نهايةَ يناير/ كانون الثاني، وكلَّ فبراير/ شباط، حتى مطالع مارس/ آذار، من كلِّ عام. (يحدث أربع مرّات كل 12 سنة، ويتنقل بين أربعة مواقع. ولمرَّةٍ واحدة كل 12 سنة، يحدث كُمبه مِيلا عظيمٌ في مدينة الله أَباد).
طقسٌ جماعيٌّ منصاعٌ يمثّل صراعَ الآلهة والشياطين على قارورةِ رحيقِ الخُلود، يصلّون خلاله ما بين السابعة صباحًا وحتّى السابعة مساء، يقدّمون البَخور، يُلقونَ مئات ملايينِ بَتلات الورْد في النهر المقدّس بالنسبة لهم، يغطسونَ فيه ويتمسّحون بالرّماد.




صورة خلّاقة لِما عليه حال الدِّيانات، وَكيف يجري تسييرُ المُعتقدات، فالهِندوسيّة، بحسبِ كثيرٍ من الموثّقين، هي أقدم ديانة حيّة في أيامِنا هذه، وهيَ بمحمولِها من القيم الروحيّة، والآلهةِ المتعدّدة، بحسبِ المكان والزّمان والظّروف وبيئةِ التجمّعات التي تتبعها، وَمع تباين المعتقدات الهندوسيّة بين منطقة وأُخرى، وتعقيدات أدبياتِهم، وصعوبة التواصل مع تفاصيلِ تعاليمِهم، تمثّل أعقدَ ديانةٍ، وأصعب تعاليم، وأكثرها تباينًا واختلافًا، إلا أن مِهرجان حجّهم يجمعُهُم جميعَهم، ويوحّدهم، ويطلقُ العِنان لمكبوتاتِهم وأسئلةِ حيرتِهم حول الحقّ والباطِل والخيرِ والشرّ، فعلى مدى عقود تدافعت في بردياتِ ديانتهِم الآلهة، وتوالَت التعاليم، واضطربَت، أحيانًا، في ما بينها، وتعارضَت مع نفسِها، فإذا بالحجّ/ المِهرجان بابُ وحدةٍ عندَهم، ولحظةُ صفاءٍ جماعيةٍ قُصوى.

على المُنوالِ نفسِه
على المُنوالِ نفسِه، يمكن النظر إلى الحجّ في الديانات والمعتقدات الأُخرى؛ من الزرادشتيّة (يحجُّ الزرادشتيونَ إلى المعبدِ الأخضرِ في مدينة يزْد الإيرانيةِ مطلعَ كلِّ صيف)، إلى البوذيّة (الحج إلى مدينة كاتماندو النيباليّة، وَسْتوبا، والأدْيَرة القريبةِ منهما)، إلى ديانة السيخ (الحج إلى المعبد الذهبيّ)، إلى الشنتويّة (الحجّ إلى أضرحةِ آيسي الكبرى في اليابان)، إلى البهائية (البهائيّون يحجّون إلى عكّا وحيْفا)، على أنه تعبّدٌ جماعيّ، تحرُّكٌ جمعيّ، تعاضدٌ وقتَ التصاغُرِ أَمام الإله/ الآلهة.

أضرحةِ آيسي الكبرى في اليابان

أخيرًا
بقي أن نقول، أخيرًا، إنه قد يصعب كثيرًا أن يقوم شخصٌ وحده، مهما بلغ إيمانهُ، بِرمْي إبليس بِجمراتِ حصى صغيرة، ولكن، ومع جماعيةِ هكذا طقسٍ ضمنَ مناسكِ حجّ المسلمين، فإن بعض المُهتاجين خلال رمْي الجَمرات قد يتحمّسون، فيقذفونَ إبليسَ (شيْطانهم الشخصيّ، أو شيطانُ انحرافاتِهم، وكلَّ شياطين الجِنّ) بأحذيتِهم، وأي شيءٍ حولهم، بِما في ذلك المَكانس والأخْشاب، مع عبارات غضبٍ من/ على ذلك الشيطان الرّجيم، سببِ كلِّ شر، وأساسِ كلِّ خطِيئة.  
الحجّ، على ما تقدّم، هو ممارساتٌ جماعيةٌ يلجأ إليها أتْباعُ كل دين لِمزيدٍ من تطهيرِ ذواتِهم، وتمْتينِ عُرى إيمانِهم، بشكلٍ جماعيٍّ طقسيٍّ، عارضه، في سالفِ العصرِ والأَوان، الفيلسوفُ اليونانيّ بارمِينيدس (512 ـ 450 ق.م) (وهنالك من يقول بموتِه 460 قبل الميلاد، وصولًا إلى 480 قبل الميلاد، مع استبعادي الرقم الأخير الذي يعني أن لا يكون عاش أكثر من 32 عامًا)، أحد رواد المدرسة الإيليّة في الفلسفة، الذي تشكّلت معه جِينالوجيا تاريخ المِيتافيزيقا الغربيّة التقليديّة، الرّافض للإيمانِ المرتبطِ بِالمظاهر، مقابل تمسّكه بِمفهوم الوجود الثّابت، والجوْهر المُطلق الأبديّ والنظاميّ المُتناسق والمُتطابق مع ما هو ضروريٌّ في العقل وليس عرضيًّا في النّقل. منطقٌ يتعارَضُ مع ظاهرةِ الرأي العام opinion commune، وعُموم الطقوسِ الجَماعية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.