}

صناعة النخبة: فكرة وسياسة وأمثلة

لطفية الدليمي 27 يوليه 2023
اجتماع صناعة النخبة: فكرة وسياسة وأمثلة
(gettyimages)

 

كلّ الأفعال الجيّدة التي تُعلي من شأن الحياة تتفرّد بميزة نخبوية وإلا فقدت امتيازها النوعي الذي يُعليها عمّا سواها من الافعال. هذه قاعدة لا أظننا نختلف بشأنها.

الأفعال الكبيرة التي ترتقي بحياتنا هي صناعة نخبويين فكرًا وعلمًا وقدرة تقنية وبُعْدَ نظرٍ فلسفيًا. من يستمرئون العيش العادي ولم يتطلعوا للمثابات العالية ومغادرة المحضن الرخو الخالي من الأعباء والمسؤوليات لن يصنعوا فارقًا نوعيًا في الحياة، ولن يكونوا شواخص نخبوية مُعلّمة بمستحقات الامتياز والجدارة.

النخبوية Elitism بهذا الفهم هي قدرة على صناعة انعطافة نوعية في حياة البشر، وهي أبعد ما تكون عن الامتيازات الموروثة. النخبوية لا تعني تفرّد الامتلاك وعظمته بل تعني صناعة شيء وتخليقه من محض أفكار قد تبدو لآخرين أفكارًا عابرة مثل سواها. النخبوية بمعناها الدقيق جهد وفكر وتعب. هنا يحقُّ لنا أن نتساءل: كيف تُصنَعُ النخب؟

جوابي الواضح والمباشر: النخبوية صناعة شخصية خالصة. لا أحد سيشاركك في مسعاك النخبوي. أنت تشقُّ طريقك بجهدك وتعبك؛ لكنّ هذه ليست كلّ الحكاية. هناك عوامل مساعدة للنخبوية أهمّها: السياسات الحكومية. نحن في نهاية الأمر لسنا أفرادًا نعيش في كهوف معزولة. ثمة قوانين تحكمنا ونتحرّك في إطارها الناظم، وهذه القوانين نتاج سياسات حكومية تقودها رؤية فلسفية سياسية واقتصادية. دعونا لا نوغلْ كثيرًا في الكلام العام المرسل ولنتّخذ من وقائع محدّدة مصاديق لما نريد من رؤى وشواهد وأمثلة على سياسة صناعة النخبة.

صناعة النخبة: أهي ميدان تطبيق الداروينية الاجتماعية؟

الولايات المتّحدة هي الدولة العظمى المكرّسة بهالة الوحدانية في العالم؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ نظمها هي الأجود والأعلى والأفضل في العالم. ربما سيندهش كثيرون منّا لو علموا أنّ النظام التعليمي الأميركي ما قبل الجامعي هو نظام أبعد ما يكون عن الجودة، وهو غير قادر على المنافسة مع نظيراته من نُظُم التعليم الصينية والهندية والسنغافورية والكورية. هذا ما تشهد به نتائج المسابقات العالمية في الرياضيات على سبيل المثال. النظام التعليمي الأميركي لا يهتمُّ كثيرًا بمعايير الرفعة الأكاديمية، وطلبة المدارس الأميركية بالكاد يستطيعون إتقان متطلبات التعبير باللغة الإنكليزية وقواعد الحساب، أو – باختصار – المتطلبات التي تجعل المرء يغادر صفة الإنسان الأمّي illiterate person. هذا ما تريده السياسة التعليمية الأميركية؛ لكنّ الأمر يختلف تمامًا عندما نقتربُ من الدراسات العليا في الجامعات الأميركية التي تعدُّ المصنع الأساسي للنخب الأميركية والعالمية في شتى الحقول المعرفية. كيف يمكن فهم هذه الاشكالية؟

يرى الأميركيون أنّ الموارد الرأسمالية المتاحة هي محدودة دومًا مهما تعاظمت، ولا يصحُّ هدرها في غير مواردها الصحيحة. هُمْ لا يعوّلون كثيرًا على الحشود الكبيرة لأنهم يعلمون أنّ الانعطافات المفصلية في تاريخ النوع البشري لا تصنعها سوى نخبةٍ صغيرة؛ لذا فإنّ التعليم ما قبل الجامعي هو إختبار يراد منه اصطفاء نخبة محدودة لها القدرة الذهنية والمعرفية وشغف البحث والتفكّر. هذه النخبة هي التي تتوجه لها الموارد الكبرى في الدراسات العليا وبأشكال عديدة منها: المنح والزمالات ودراسات الدكتوراه وما بعد الدكتوراه.... إلخ.

السياسة التعليمية الأميركية ميدان تطبيق واسع النطاق للداروينية الاجتماعية في ميدان تصنيع من هو قادرٌ على الانضمام لنادي النخبة؛ أما غير القادر فلا خيار سوى استبعاده. أنت عندما تمتلك مقدرة أكاديمية أو مهنية متفردة سيكون بوسعك دومًا الإبحار في لجّة المصاعب كيفما كانت، وفي النهاية لن تكون الدراسات العليا أو التحدّيات التقنية سوى ميدان تجمّع لأفضل العقول وأكثرها رقيًا. هذا بعض ما صنع التفوّق الأميركي رغم سوء وهشاشة مظاهر كثيرة في الحياة الأميركية.

الآسيويون بعيدون عن تطبيق السياسات التعليمية المنطوية على نزعة داروينية واضحة. هُمْ مضادون لوجهة نظر الداروينية الاجتماعية لأنّهم يرون أنّ رعاية الدولة يمكن أن تُنشئ فارقًا في القدرات التي يمكن توظيفها في خدمة المجتمع. تلك سياستان ورؤيتان، وكلٌّ يتطلّع للإمساك بحصته وحجز مقعده في هذا العالم عبر خلق فرادته النخبوية.

يوصفُ معهد ماساتشوستس التقني MIT بأنه المطبخ التقني النخبوي الذي تُطبَخُ فيه أغلبُ البرامج البحثية الريادية في حقول العلم والتقنية


MIT: مثال النخبوية الأكاديمية

ناقش كثيرون من منظّري استراتيجيات التنمية البشرية والاقتصادية العوامل المفضية إلى إرتقاء البلدان وعلوّ شأنها وتعظيم مساهمتها في التقدّم البشري العالمي، واتفق هؤلاء على أنّ التعليم يمثلُ حجر زاوية عظمى يتقدّمُ على كلّ العناصر الأخرى، والتعليم هنا هو التعليم ما قبل الجامعي والجامعي (في مرحلة الدراسات الأولية والعليا). من مصاديق هذه الرؤية أنك يندرُ أن تجد بلدًا أحرز شوطًا عالميًا في مضمار التقدم من غير أن تكون له مؤسسات تعليمية مشهودةٌ بسمعتها العالمية التي جعلت منها أيقونات حقيقية تمثلُ رافعات نهضوية شامخة، والأمثلة في هذا الميدان كثيرة: جامعتا أكسفورد وكمبردج في بريطانيا، جامعتا غوتنغن وهايدلبرغ في ألمانيا، جامعتا السوربون وباريس في فرنسا، وجامعات هارفرد وبرينستون وييل وبقية جامعات النخبة الأميركية.

من الأمور المحرّكة لشغفي – مثلما أحسبهُ سيحرّكُ مكامن شغف كثيرين مثلي – أن يقرأ المرء تأريخ نشوء فكرة الجامعة، وكيف تطوّرت المؤسسات التعليمية من مدارس لاهوتية لتعليم الدين والإنسانيات واللغات الكلاسيكية والآداب حتى بلوغها هذا الطيف الواسع من الجامعات في عصرنا الحالي. يمكنُ في أقلّ تقديرٍ القولُ إنّ تأريخ تطوّر فكرة الجامعة إنما يمثلُ قراءة تاريخ التغيرات التي طرأت على الفكر السياسي والمجتمعي فيما يخصُّ صناعة الدولة ومؤسساتها، وليس أدلّ على هذا – كمثال واحد فحسب - من المناقشات العميقة التي طاولت كافة النخب وصانعي السياسات الأميركية، والتعليمية منها بخاصة، عقب نجاح الاتحاد السوفياتي السابق في إطلاق أول قمر إصطناعي إلى الفضاء، وتركزت المناقشات في حينها على التغيرات البنيوية العميقة التي يجب أن تحصل في ميدان تعليم العلوم والرياضيات في كافة مراحل التعليم.

لي مع معهد ماساتشوستس التقني MIT حكاية مثيرة؛ فقد قرأتُ وسمعتُ الكثير عن نخبويته وكونه مطمح طلبة أميركا والعالم الطموحين ذوي الإمكانيات العالية. قادني شغفي إلى التساؤل: كيف لمعهدٍ تقني أن يحوز تلك البصمة المميزة على صعيد التعليم الجامعي بحيث باتت المرتبة الأولى – أو القريبة من الأولى – هي ترتيبه المتوقع بين الجامعات العالمية منذ عقود بعيدة؟  كان هذا السؤال محفزًا لي للبحث في تاريخ نشأة هذا المعهد، واهتديتُ بعد وقت إلى كتاب رائع عنوانه: عقلٌ ويدٌ: ولادةُ MIT
 
Mind and Hand: The Birth of MIT، وقد ألّفه في منتصف ستينيات القرن الماضي البروفسور جوليوس آدم ستراتون، وهو أحد الذين شغلوا موقع رئيس هذا المعهد لمدة جاوزت عشر سنوات، وقد نشرت مطبعة المعهد نسخة محدثة من هذا الكتاب عام 2005. الكتاب ضخم (يتجاوز الثمانمائة صفحة)، وهو رائع بكلّ المقاييس، ويلقي أضواء على موضوعات واسعة منها: الأصول الأوروبية في التعليم الجامعي الأميركي، نشأة التعليم التقني في أميركا، علاقة المعهد بجامعة هارفرد، رؤية الآباء المؤسسين للمعهد، مسألة التمويل، الإنسانيات في التعليم التقني، المناهج الدراسية وطرق التدريس... إلخ.

أسبابٌ عديدة جعلتني أتابعُ نشاطات هذا المعهد منها:

أولًا: يوصفُ المعهد في العادة بأنه المطبخ التقني النخبوي الذي تُطبَخُ فيه أغلبُ البرامج البحثية الريادية في حقول العلم والتقنية.

ثانيًا: برامجه الدراسية الواسعة والمتنوعة، وسياسته التعليمية التي تؤكد على جعل نصف طلبته من الدراسات العليا، والنصف الآخر من طلبة الدراسات الجامعية الأولية.

ثالثًا: إصداراته الرائعة التي تمثلُ ختم الجودة في كلّ فروعها البحثية، ومنها مثلًا سلسلته الرائعة المسماة (Essential Knowledge Series) التي تتناول موضوعات شتى تخاطب القارئ الشغوف غير المتحصل على دراسة تخصصية.

رابعًا: إنّ بعض أكفأ علمائنا العرب حصلوا على شهاداتهم العليا من هذا المعهد، وهم وإن كانوا قليلي العدد لكنّ مآثرهم لم تزل مشهودة.

خامسًا: لطالما لعب رؤساء هذا المعهد وأساتذته أدوارًا عظيمة في تاريخ العلم الأميركي والتقنية الأميركية والسياسة الأميركية، أذكر من هؤلاء البروفيسور فانيفار بوش Vannevar Bush الذي عُهِدَت إليه مسؤولية تنظيم الجهد العلمي والتقني الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، كما كان مسؤولًا عن تنظيم هذا الجهد بعد نهاية الحرب عبر عمله مستشارًا علميًا للرئيس ترومان.

عمل جواهر لال نهرو على تأسيس مؤسسة تعليمية نخبوية هي معهد التقنية الهندي IIT ليكون نظيرًا لمعهد MIT


الهند: مثالُ النخبوية على مستوى الأمة

لن نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ الأيديولوجيات العربية التي تمثّلت في عناوين حزبية عريضة فشلت فشلًا ذريعًا في التعامل مع مخرجات العلم والتقنية مثلما فشلت في صناعة نخبة متقدّمة على كافة الصُعُد؛ لذا بات في عداد الأمور المسلّم بها أن نبحث عن مخرج مناسب من عنق هذه الزجاجة (الحزبية) والإنطلاق الحرّ نحو فضاء التجارب الناجحة، ولا بأس من تمثّل بعض التجارب التي سبقتنا وأثبتت بالدليل الملموس رياديتها وتأثيرها في خلق إنعطافات مؤثرة في حياة شعوبها والعالم أجمع.

أمسى وادي السليكون في كاليفورنيا علامة فارقة في عصرنا هذا على الصعيدين التقني والأيديولوجي: أما التقني فهو لكون وادي السليكون تطوّر من مرفق تقني بسيط إلى مطبخ تقني هائل يجري فيه تجريب كلّ التقنيات الثورية الجديدة وبخاصة في ميدان الإتصالات والمعلوماتية، وأما الجانب الأيديولوجي فيعود لكون وادي السليكون صار مثالًا للكيفية التي تتعشق بها الأفكار العلمية المستحدثة مع التطبيقات غير المسبوقة بطريقة مؤثرة على الصعد كافة - السياسية والإقتصادية والمالية - بحيث لم يعُد ثمة إمكانية لتخليق أيديولوجيات بعيدة عن الفضاء العلمي والتقني كما كان الأمر في العقود الماضية من القرن العشرين.  

تجربة الهند مثالٌ يمكن توظيفه: هذه المئات من ملايين البشر الذين وُصفوا بأنهم (أمة من العباقرة) بحسب عنوان كتاب صدر عن سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية يحكي عن التجربة الهندية في كيفية وضع بصماتها المميزة على معظم مفاصل سوق المعلوماتية العالمية، وقد بلغ الأمر أن تصبح معظم الشخصيات القيادية في المفاصل التقنية العالمية هنودًا ذوي إمكانات إدارية وتقنية عالية.  

كيف حصل الأمر؟ بالرؤية القيادية المستقبلية المتقدمة للراحل نهرو الذي عرف الأهمية الاستراتيجية لصناعة النخبة الأكاديمية والتقنية؛ فعمل على تأسيس مؤسسة تعليمية نخبوية هي معهد التقنية الهندي IIT ليكون نظيرًا لمعهد MIT، كما ساهم في تأسيس مركز تقني في مدينة بنغالور شبيه بوادي  السليكون الأميركي في ولاية كاليفورنيا، وقد ساهم المركز الهندي في تدريب الآلاف من الكفاءات العالية التي شاركت في إطلاق مارد الإقتصاد الهندي ونقله إلى مصاف الإقتصادات العالمية العملاقة.

الخلاصة: يُصلِح العلم والتقنية ما خرّبته الأيديولوجيا

ثمّة فسحة من الوقت دومًا لمن يسعى للفرادة والتميّز بوسائل حقيقية بعيدًا عن الزعيق الأيديولوجي. يمكننا تخليق قاعدة نخبوية على صعيد التعليم وبخاصة في ميدان التقنية الرقمية حيث يمكن للنخبة الرقمية Digitocracy إحداثُ فارق نوعي سريع ومشهود على الأرض في طبيعة الحياة اليومية. كل ما تحتاجه النخبة الرقمية هو الشغف الذي يعزّز إرادة التغيير وقلب موازين القوى في وقت قصير.

أظنُّ أنّ منطقة الخليج العربي باتت تمثل، في الوقت الحالي، الجهة الريادية التي يمكنها أن تكون ميدان اختبار حقيقيًا لمفاعيل تأثير صناعة النخبة في الارتقاء بالحياة العربية وجعلها فاعلًا حقيقيًا في الخريطة العالمية خلال السنوات القليلة المقبلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.