}

سبعينياتُ بغداد وتناقضاتُها... صفحات من مُذكّرات (1970 – 1980)

لطفية الدليمي 6 مارس 2024
يوميات سبعينياتُ بغداد وتناقضاتُها... صفحات من مُذكّرات (1970 – 1980)
(نزيهة سليم)

السبل متقاطعة إلى حلم الخلاص،

وحدُهُ النصُّ يأخذنا إليه بلا خرائط أو ضمانات

قررت أن أكون (نفسي) في صيف عام 1970، أعوام تبددت وأنا أتقصّى كينونتي المشتهاة بين متاهة العيش وأحلامي، أبحث عنها في حقيقة الحياة اليومية وإلزاماتها والظلال الثقيلة لأزماتنا العربية وانكساراتنا، أبحث عني في ساعات تدريسي للغة العربية فأتبدد في الشعر الجاهلي بين أمرؤ القيس وسَعْيه لاسترداد ملكه الضائع وهو يناجي ليله الذي أثقل روحه بهموم ينوء بأحمالها:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ    بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ

وبين النابغة الذبياني الذي أورث كثرة من شعراء العصور اللاحقة وبعض المعاصرين توظيف الشعر في المديح المنافق المذموم طمعًا في نيل العطايا كقوله وهو يمدح النعمان ابن المنذر:

فإنك شمسٌ والملوك كواكبُ    إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ

الطموح الفردي المحاصر في ازمنتنا المأزومة لم يكن أكثر من أن نزدهر بأنفسنا، ونكون بجهدنا ونتصدى لفهم معضلة الوجود والمعنى والغاية لنلامس بهجة حريتنا.

كنت أدرك تمام الإدراك أن كينونتي تتحدد بالانصراف الكلّي للكتابة؛ لكن كلما تقدمت خطوة أعاقتني الأعباء الدنيوية التي تكبل النساء، فأتراجع عن بلوغ تلك الكينونة المرتجاة. لم أستسلم، لبثت أدور في المتاهة تساندني شهوةُ البحث الدؤوب وأحلامي؛ لكنها للأسف كانت تعزز انغلاق المتاهة، فلا علامات إرشادية توجّهُ الخطى. لا شيء سوى الانغمار في القراءة دونما توقف أو مهادنة، وأنا أواجه مجتمع السبعينيات بالتزاماته وتطلعاته الفوضوية وهو يتفتح لاجتناء ثمار الحياة المدنية بعد تأميم النفط. النفط أخونا وغريمنا، راعينا ومُشْعِلُ حروبنا. في تلك الفسحة من الزمن الرخي - في ظاهره - بدت الحياة أسلس قيادًا والطموحات ممكنة التحقق.

كان بيتنا مفتوحًا لاجتماع أسَرٍ من أصدقاء وأقارب، رسامون وزوجاتهم وزميلات عمل، فنانو مسرح وزوجاتهم ومخرجون يناقشون أعمالهم في أمسياتنا. كانت فرصة للتمتع بعرض أفلام أورسون ويلز وفلليني وأيزنشتاين؛ غير أن معظم السيدات كن يضجرن من النقاشات الجادة وينصرفن لممارسة النميمة، وحدي ألوذ بالصمت وأقوم - مثل المنوّمة مغناطيسيًا - بدور المضيفة الكريمة بلا كلل ولا نقصان وفي صمتي أتشبث بالأمل الغامض الذي سيقودني إلى كينونتي الحرة.

لم أستسلم، أمسكت رسن الحياة بقوة وأعلنتها على نحو مفاجئ: لا يمكنني أن أواصل نمط الحياة هذا: أن أرتضي الاكتفاء بدور مضيفة تجيد الترحاب فضلًا عن كوني طباخة كريمة وزوجة وأمًا وكاتبة، أنتظر من عائلتي أن تتفهم أسبابي في اتخاذ قراري، أعلم أنه خيار صعب ضمن تقاليد مجتمعنا، قررت أن أختار العائلة والكتابة فحسب وأتخلّص من جميع الزوائد الأخرى والامتدادات الاجتماعية، وسأتوقف – أو بالأحرى نتوقف نحن - عن استقبال الأسر الصديقة والأقارب إلا في مناسبات متباعدة نتفق على تحديدها، أعلم أنني سأضعكم في عزلة لا ترتضونها، وأعلم أن ذلك سيكون مدعاة لغضب الجميع واستياء آخرين سيعدّون هذا بترًا لأواصر الصداقة والقربى. أنا لا أملك غير حياة واحدة أحقق فيها ما عزمت عليه وما هيأت نفسي له. حلّت برهة صمت مكتنفة بالحيرة، ثم جرى نقاش عقلاني أدّى إلى موافقة ملزمة. لقد نجوت. نبتت لي لحظتها عشراتُ الأجنحة السحرية التي منحتني قدرة التحليق بعيدًا عن كل ما يعيق انتمائي للكتابة.

القراءة الملهمة والتأسيس للكتابة

سُحِرْتُ طويلًا بقراءة الفلاسفة الوجوديين مثل كلّ شباب جيلي، ثم اخترتُ أن أقرأ التراث العرفاني والمعتزلي، انتشلتني أصداءُ النصوص الصوفية ومناجيات المعتزلة من تبددي، ثم انتشيتُ بالعقد الدرامية في (المسرحيات العالمية) التي كنت مولعة بقراءة ترجماتها المصرية، أذهلني غموض سيناريوهات أفلام الموجة الفرنسية الجديدة المنشورة في (مجلة السينما المصرية)، وألهمتني معارض الرسم الأوروبي المعاصر التي كانت تقام في المتحف الوطني للفن الحديث فكرة التحرر من القوالب وتحطيم المثال في اللوحة والنص والعيش. كانت عونًا لي لتحطيم المرجعيات القارّة ومغادرة الانماط التقليدية في الفن والأدب. كان التمرد على تلك الأسس مرهقًا إلى حد كبير؛ فقد اضطرب المرأى واستدعى الأمر بعض التوازن والتوقف برهة لتلمس معالم الطريق.

كنا نرتاد أسابيع الأفلام الأوروبية والروسية التي كانت تتوالى عروضها في بغداد السبعينيات: فيلم (ديرسو أوزولا 1975) الروسي الذي أخرجه المخرج الياباني الساحر (أكيرا كوروساوا) منحني فرصة ثمينة للتأمل والاستغراق في مزاج عرفاني صافٍ، ثمة في الفيلم علاقة حميمة بين الإنسان والطبيعة تحقق التكامل بينهما وتكشف جماليات الطبيعة وحمايتها عبر التعاضد البشري الذي أفسدته المدنية الحديثة بعجرفتها وأنانيتها ونهمها اللامحدود للقتل والاستهلاك. خفّف المزاج الشعري لكوروساوا وجمال الطبيعة ووحشتها وحكمة الصياد العجوز ومعارفه الثمينة من غلواء موقفي المتطرف إزاء حرية الفن والأدب، وأعادني إلى رشدي واختبار علاقتي العريقة بالطبيعة، وفي الوقت ذاته أعادني فيلم المخرج كلود ليلوش (رجل وإمرأة) إلى استحقاقات الشجن العاطفي ووعي شفافية العلاقة الإنسانية ومغادرة التشبث الصبياني المهووس بالنزعات العدمية السائدة.

بين حين وحين كنت أدع نفسي تغرق في المتون السحرية لأبي حيان التوحيدي وابن حزم الاندلسي والمتون العقلانية لابن رشد وتنعشني السخرية اللاذعة لدى الجاحظ، كنت أترنح بين متعة البلاغة والكنايات والابتسار المكثف لمقولات المتصوفة، حتى أثقلتني فيوض اللغة وانهماراتها، وعندما أدركت أنني غدوت محض كائن لغوي مهووس بجماليات لغته توقفت لألتقط أنفاسي، واخترت أن أغتذي بالإلهام الذي أغرتني به أبيقورية الملاحم الرافدينية ورواقية المعتزلة. احتكمتْ لغتي إلى الموسيقى الجوانية في التراث العرفاني، وفي الآونة ذاتها كان يطاردني في مديات الواقع وتناقضاته نحيبُ الأمهات المحزونات وهنّ يبحثن عن أبنائهن المفقودين أمام بوابات المعتقلات ويسابق نحيبَهُنّ صراخُ الفتيات المقتولات غسلًا للعار في مجتمع الذكورة العنيفة.

كتبت القصص الغريبة وأنا بعدُ في الصف الرابع الابتدائي، كانت قصصًا تحكي عن غيلان وحيوانات وطيور ناطقة وجدران تسير وأبواب تضحك ونخيل يتنقل، كنت أدوّنُ أحلام صباي تلك في الدفاتر المدرسية وأرسم وقائعها في الصفحات المقابلة لأنال عقوبات معلماتي وتوبيخ الأهل لانصرافي إلى عبث لا جدوى منه كما كانوا يرددون.


اتّسم التشكل المضطرب في مرحلة الشباب المتوثبة بتيهِ المقاصد بين أهواء الوجود الملحّة والانصياع إلى حلم الإبداع، في حيرتي تلك عمدت إلى منح نفسي فرصة للتأمل، وشرعت أدرُسُ الرسم لدى الفنانة الراحلة نزيهة سليم، شقيقة الفنان جواد سليم، مبدع جدارية نصب الحرية في قلب بغداد، رسمت ورسمت، وتمحورت أعمالي على تشوّقات النساء وعذاباتهن الموروثة وأحلامهن؛ ولكن، يا للخيبة!! لم أجدني فيما رسمت. أعترف - بلا تردد - بأنني ضللت الطريق إلى ذاتي. قررت: لا كينونة لي بين الفرشاة ورائحة الزيت والتربنتاين.

كنت ألوذ من تصارع أهوائي بين شغف الفن وكتابة القصة بالقراءة النهمة وسماع الموسيقى الخالصة. كنا نشتري مجموعات من الأسطوانات بتسجيلات مختلفة لعباقرة الموسيقى: بيتهوفن وشوبان وموتزارت وكورساكوف وشوستاكوفيتش وموسوريجسكي وسترافنسكي خلال سفراتنا إلى لندن وموسكو وبرلين، أو نقتنيها من محلات (أوروزدي باك) أول نموذج للسوق المركزية (المول) تأسس في العراق في مطلع عشرينيات القرن العشرين، وفي 1929 تأسست له فروع في البصرة وكركوك. كنا بين فترات متباعدة نعقد في منزلنا جلسات سماع للموسيقى الكلاسيكية تحضرها بعض زميلاتي في (مدرسة الموسيقى والباليه)، وأصدقاء وصديقات من زملاء العمل في معهد الفنون الجميلة حيث كان زوجي الراحل يترأس قسم السينما ويقوم بتدريس علم الاجتماع والتذوق الموسيقي (كان قد درس في المعهد العالي للموسيقى في القاهرة). يختلف إلى جلسات الموسيقى رسامون وخزافات ونحاتون تعقبها نقاشات لتحليل العمل الموسيقي والمفاضلة بين تسجيل لأوركسترا لندن فيلهارموني أو أوركسترا موسكو أو فيينا فيلهارموني. تعلمت من تلك الأمسيات تبجيل السماع وغطست في نشوات الموسيقى التي صرت أفهمها وأعشقها؛ فأنت لن تحب فنّا تجهله. تعلمت مبادئ العزف على البيانو لدى الأستاذة بياتريس أوهانيسيان لكني لم أطور مهاراتي، وحصدت مزيدًا من التشظي النفسي وتعددت كينوناتي الملفقة حتى شرعت بكتابة نصوص غاضبة محتدمة تشبهني في تلك الرحلة الصعبة.

أول كتاب قصصي: "ممر إلى أحزان الرجال"

في خريف 1970 صدر أول كتاب قصصي لي بعنوان (ممر إلى أحزان الرجال) وقد مزّقتُ قبله مجموعة قصصية بحكم نقدي شخصي. كان الكتاب محظوظًا باجتماع أسماء ثقافية وفنية بارزة من أصدقائنا ومعارفنا لمنحه فرصة أن يولد؛ فقد نشرت الصديقة الراحلة الدكتورة سعاد محمد خضر أول قصة لي في مجلة (الثقافة) التي تدير تحريرها إلى جانب تخصصها في الأدب الفرنسي وعلم الجمال، ومنحتني خبرتَها في النشر وصحبتني إلى حيث تُطْبَعُ مجلة (الثقافة) في مطبعة الجاحظ في شارع المتنبي وقدمتني للناشر المحامي رسمي العامل شقيق الشاعر الراحل رشدي العامل، واتفقنا معه على ثمن النشر بمبلغ (165) دينار عراقي يوم كان الدينار يعادل 3,35 دولارًا وكان هذا أوّل وآخر مبلغ أدفعه لنشر كتاب؛ إذ صدرت كتبي اللاحقة عن مؤسسات ثقافية تابعة لوزارة الثقافة، وفي دور مصرية وتونسية ثم في دار المدى بعد 2010. صمّم غلافَ الكتاب الفنان ضياء العزاوي وزيّنه بلوحة مستوحاة من إحدى القصص، وشارك الفنان والخطاط والكاتب محمد سعيد الصكار بخط عناوين القصص. عندما حصلت على النسخ الأولى من مطبعة (الجاحظ) سرت مزهوة في شارع المتنبي وكانت لحظات محتدمة بالبهجة والسطوع والإحساس باكتمال مخيف، منحني كتابي الأول علامة الطريق إلى كينونتي التي طال بحثي عنها.

احتفت الصحافة بكتابي (ممر إلى أحزان الرجال) وكتب عنه بعض القصاصين والنقاد نقدًا إيجابيًا، ممّا حفزني على المضي في كتابة قصص جديدة ليضمها كتابي الثاني (البشارة)، وتوالت إصداراتي القصصية فصدر كتابي الثالث (التمثال) في 1975 والرابع (إذا كنت تحب) في 1980.

مثقفون مصريون منفيون في بغداد

نجحت حقبة سبعينيات القرن الماضي المضطربة في إخفاء تناقضاتها المحلية بين المثقفين العراقيين اليساريين والمستقلين والسلطة تحت ستار هدنة قلقة وبتأثير أوضاع عربية متأزمة بعد زيارة السادات إلى فلسطين المحتلة. طفت على المشهد أحداث ثقافية وسياسية فرضت واقعًا مختلفًا عندما لجأ إلى بغداد مثقفون مصريون بارزون من كُتّاب وفناني مسرح وسينما بعد تحولات السادات العنيفة في الاقتصاد والسياسة الخارجية مما أثار سخط وغضب معظم المثقفين المصريين، يشير إلى ذلك المفكر المصري جلال أمين في مقالة له بعنوان (ماذا فعل السادات بالمثقفين المصريين؟)، يقول أمين: (... اتسم تعامل السادات مع كل من هذه الطوائف من المثقفين - سواء كانوا يؤمنون بالاشتراكية أو القومية العربية أو رافضين للصلح مع إسرائيل أو للتبعية للولايات المتحدة - بمزيج من العنف والخبث والدهاء، كما استخدم فى تصريحاته الرسمية عن المثقفين كثيرًا من التعبيرات غير اللائقة التي لم يستخدم مثلها قطُّ لا عبد الناصر ولا مبارك؛ فوصف مثلًا واحدًا من أكبر أدبائنا بالشيخ المخرف، وقال إنه رمى واحدًا منهم في السجن "مثل الكلب"، ووصف المثقفين المعارضين عمومًا بـ"الرزالة" وهددهم جميعًا بأن ديمقراطيته "ذات أنياب" وأنه سوف "يفرمهم"). عندها اتجه المثقفون نجاة بأنفسهم إلى المنافي الاختيارية مثل بغداد وبعض عواصم الخليج ولندن وباريس. وصل إلى بغداد حينها الكاتب أحمد عباس صالح والشاعر أحمد عفيفي مطر الذي عمل هو وزوجته كمحررين في مجلة "الأقلام"، كما وفد إليها مخرجون مثل توفيق صالح وهاشم النحاس وكرم مطاوع وسهير المرشدي وكاتب السيناريو علي الزرقاني وآخرون. حاضر معظم هؤلاء في أكاديمية الفنون الجميلة، وكتبوا في الصحف والمجلات الثقافية. تصدى هاشم النحاس، مخرج الأفلام الوثائقية، وعلي الزرقاني لإقامة دورة في كتابة السيناريو درسْتُ فيها شخصيًا على مدى شهرين.

أضفت الأمزجة المتناقضة والمواقف المتباينة بين الاتجاهات السياسية على بغداد أضواء متقاطعة مثل أعمدة نور (السبوت لايت Spot light) التي تضيء زوايا محددة وحسب، لم تكن إضاءة فيضية عادلة كضوء الشمس ونور القمر تشمل كل الأماكن والزوايا المهملة؛ لذا نشأت صراعات ثقافية معلنة وخفية سرعان ما جرى تدجينها بالقوة وصاحبتها اندفاعات اجتماعية حافلة بالتحديات والتناقضات التي فرضتها السياسة المتحزبة والأوضاع العربية، ولبثت الصراعات المؤجلة تغلي تحت تسميات توفيقية يغلفها الأمل الساذج والسياسة المنتشية بالشعارات الفضفاضة التي تحرس أقانيم السلطة؛ لكن غليانها الخفي وتفاعلها التاريخي أفرز منتجًا ثقافيًا غزيرًا تفاوتت طبيعته ونواتجه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.