}

الإنتروبيا: عن الحب والحرب والخلود والفناء

لطفية الدليمي 16 يناير 2024
آراء الإنتروبيا: عن الحب والحرب والخلود والفناء
(Getty)

 

الإنتروبيا Entropy - كما وصفها إسحق عظيموف في كتابه "أفكار العلم العظيمة" - هي الحصيلة الكونية من الطاقة المبددة عشوائيًا وغير القابلة للاستغلال أو الاسترجاع. تقوم جميع العمليات النافعة في الحياة على فكرة تحويل الطاقة، وعادة ما تكون الطاقة المنتجة أقل مما استخدم في انتاجها كما يحدث في الآلات الحرارية إذ تتبدد فيها الطاقة بالتسرب الحراري وتآكل الأجزاء والاهتزازات والأصوات فيكون الناتج أقل من الطاقة المستخدمة.

كل ما حولنا عرضة للزوال وعرضة للتبدّد، وكل ما فينا متّجهٌ إلى احتمالات الفناء.

التبدد هو شكل من أشكال النهايات المؤجلة، نهايات بطيئة لكنها متواصلة؛ فالمواد التي تتكون منها الأشياء، والعناصر التي تشكّل الأنظمة، والأفكار التي تكوّن المفهومات، تتوهج وتعمل في مداها الزمني وتتجه بحتمية فيزيائية صوب الفناء والتبدد على نحو تلقائي وبوتائر مختلفة. يخبرنا العلم أن وتيرة التبدد تزداد على نحو عشوائي خلال الزمن؛ فإذا علمنا أنّ جميع نظم الحياة تخضع لفكرة الإنتروبيا - ومن بينها النظم البيولوجية التي تميل إلى التشتت والتلاشي بشكل طبيعي وكذلك نظم المعلومات التي تمتلك ميلًا للتبدد والتلاشي والعشوائية - فإن الإنتروبيا هي السلطة الخفية التي تسيّر الوجود.

نتحدث عن فكرة التبدد في سياقات مختلفة افتراضية ومفهومية ونكتشف خلال التأمل في فكرة (الإنتروبيا) أنّ الكون والموجودات حصرًا تتجه من هيولي التكون الأول إلى التشكل المتعدد الأنواع لتمضي من جديد إلى التبدد والتشتت في عشوائية هيولية مبددة. كلُّ فعل أو حركة أو فكرة أو شعور يتطلب وجود طاقة تقوم بإنتاجه، طاقة بدئية أولية أو تركيبية ليجري تبديد قسم منها ويكون الناتج أقل من الطاقة المبذولة؛ فالمروحة التي تعمل على بطارية تشحن بالكهرباء تحتاج إلى أربع وعشرين ساعة من الشحن لتشتغل المروحة نحو ست ساعات بالطاقة المخزونة، والفرق بين الطاقتين المستهلكة والناتجة هو (الإنتروبيا)؛ إذًا كل فعل وحركة وفكرة وعاطفة ندفع ثمنها من طاقة كونية أو معنوية مبددة تقودنا خطوة نحو النهاية.

يقول علماء الفيزياء أنّ احتمال العشوائية في الأشياء أكبر دائمًا من احتمال النظام، وأنّ الميل إلى التبدد والفناء أكبر من الميل إلى النظام والبقاء؛ لذا تنفلت الأفعال المدمرة ما أن تجد لها ثغرة في نظام الكون أو النظم السياسية أو العلاقات الإنسانية.

الإنتروبيا هي المضاد الأبدي للخلود

كابد الإنسان منذ أول ظهوره على الأرض من فكرة الفناء والموت، ولطالما أتعبه مسعاه إلى الخلود والبقاء، ودفعه إلى اجتراح المآثر وابتكار الأعمال الأدبية والفنية وإنهاض القوى الناظمة المؤسِّسة للحضارات؛ ولأجل إدامة وجوده وثمار جهوده نجده يتشبث بتعلّقات تنتشله من فوضى الحياة اليومية وتحدياتها، وتبدو مسألة اعتناق (الحب) في هذا السياق كأنها المضاد الحقيقي لـ (الإنتروبيا)، كلُّ ذلك ليخفف من وتيرة التبدد العشوائي في عالمه الذي يرجو له البقاء؛ لكنه يرى الموت يتربص به والفناء يسري من جنباته كل آونة فينغمر في تعلقات إضافية تشغله عن التبدّد الإنتروبي.

لنراقبْ بعض حركيات الوجود سواء الحركيات المؤدية في جوهرها إلى استمرار الحياة - كالحب وعملية الإنبات - أو تلك الحركيات المؤدية إلى تدمير الوجود - كالحروب والكوارث الطبيعية-: تبدو لنا صورة العالم في حضوره الحي وكأنها تبذل أقصى جهودها لتتشكل وتتطور أو تبلغ مستوى من التناسق والجمال؛ ولكن ثمة شيء ما خفي في أعماقها يدفعها نحو (العشوائية)، فيسارع الإنسان المتحضر وإنسان الكهف على حد سواء لابتكار (امتدادات) أو زوائد أو توصيلات لإطالة أمد (الوجود) المتناسق الجميل. تتجلى هذه الامتدادات في (الحب) وفكرة (الأمل) و(الحلم)، وعلى مستوى آخر في (الإبداع) والمواقف الجليلة التي تضاعف افتراضًا مدى الزمان وتكثّفه؛ فكأنها تطيل عمر الإنسان وتمنحه أبعادًا ممتدة في الزمان والمكان.

تبدو قصص الحب العظمى وحكايات العشق الأسطورية وحالات الإبداع الموسيقي والكشوف الرؤيوية والفكرية والمجازفات والمغامرات والأحلام أخدوعات بشرية لإطالة أمد الوجود قبل أن يحدث التبدد والفناء النهائي ثم التلاشي في العدم.

الإنتروبيا: فخّ العدم

العاشق الذي يتوقف عن العيش في فكرة الشغف والتعلق والشوق يتحول إلى إنسان بخطى ثقيلة وأحلام منكسرة، ولا يعود يتشبث بالخدع العجائبية التي يجترحها الحب لخداع (الإنتروبيا)؛ ولكن كلما اتسعت أو نشطت أو تضاعفت هذه التوازيات أو حلقاتها تنشط مقابلَها المضاداتُ التي تعاكس فكرة التوسع الوجودي وتبدأ العمل متضافرة من مواقعها لإسناد فعل (الإنتروبيا)؛ فتكوّن صدوعًا وتقاطعات وقطيعة وتختلق أطرًا وحواجز وأدوات تحجيم للحب والفكرة والإبداع، ولا بد أن تؤدي هذه الاجراءات - التي نفسرها على الصعيدين السياسي والاجتماعي بأنها (أفعالٌ محافظة) أو سلوكيات متزمتة - إلى إعاقة ازدهار التوازيات (الإبداع، الحب، الأفكار، العواطف، المجازفات) أو تسبب إبطاءً أو توقفًا فيها. حالات إنسانية باهرة مثل (الحب) وأفعال بشرية شنيعة مثل (الحروب) ومفهومات مثل (الثقافة والأفكار) ومسميات فيزيائية مثل (الزمان) تتعرض جميعها لإنتروبيا التبدد وتعجز في مرحلة معينة عن إيجاد وسيلة تتجنب بها تسارع الإنتروبيا والوصول إلى النهايات القصوى التي نختلف جميعًا بشأنها؛ فنهايات الحب لدى الصوفية هي (الفناء) في (المحبوب) وهو أقصى حالات (الإنتروبيا)، ونهايات الحرب لدى الفاشيين والقتلة هي (النصر) أمام مشهد مروع من الجماجم والجثث وأنهار الدماء، وهو مشهد بالغ السواد لفوز (الإنتروبيا) على الحياة وكل محاولات الإنسان لتجنّب الفناء.

الإنتروبيا Entropy كما وصفها إسحق عظيموف في كتابه "أفكار العلم العظيمة" هي الحصيلة الكونية من الطاقة المبددة عشوائيًا وغير القابلة للاستغلال أو الاسترجاع


الحياة: محاولة دائبة للإفلات من الإنتروبيا

لو تقصينا في هذا السياق أنسب وأقرب المعاني والتوصيفات لمفردة (الحياة) لعثرنا على معنى بسيط ومباشر وله قوة النفاذ والتأثير يعرّفُ (الحياة) بأنها (عملية استمرار الوجود والتجدد)، بمعنى أنها نشاط تطوري يتقدم بمحمولاته المختلفة نحو (المستقبل) مخترقًا مستويات الزمن وتبدلات الأمكنة. مُضادُ هذا المعنى المباشر لمفردة (الحياة) هو (استمرار الفناء) الذي يقوم على التحلل والتلاشي والتوقف ثم مغادرة الزمان والتحلل في المكان. يمتاز فعل (الحياة) بأنه هو بذاته (ناتج) استمرارها فكأن فعلها هو ماهية نشاطها وناتج هذا النشاط لأنه يتم بحركية مستديمة دائبة وجوهرية تمتد خطوطها ومجساتها في الاتجاهات كلها.

تحمل كل حالة تجدد وديمومة في ثناياها (إنتروبيا) تبددها الخاصة التي تتجلى لنا باندثار ملايين الخلايا في الدقيقة الواحدة داخل الجسم الحي وهذا هو الفعل الإنتروبي المتواتر: هدر مؤبد لصيغ البقاء ونفي قاطع لفكرة الخلود. وعلى هذا تحاول بعض الكائنات استخدام قدرة البقاء في جوهرها فتعمد إلى التحوط والدفاع أو تقاوم الموت بالتمويه أو تغيير الشكل أو التنقل بين الأمكنة، ويبدو هنا أن ثمن النجاة المبذول في المحاولة أكبر وأغلى من الناتج الذي هو (مدى زمني) معين للبقاء في مكان محدد، إنما ستعاود نتائج الإنتروبيا ظهورها بعد زوال حالة الذهول التي تسببها لحظة النجاة في مواجهة الموت المحتم، وخلال هذه الصحوة تنشط دفاعات الوعي لاعادة صياغة وبناء وتشكيل (أوساط) تقاوم (المدّ الإنتروبي) المتزايد ولن تتوقف المحاولات قط ما دامت الحياة قادرة على الاستمرار برغم انطوائها على بذرة فنائها.

الإنتروبيا في مقطع من نص روائي افتراضي

بوسعنا تطبيق مفهوم الإنتروبيا على مقطع من نص روائي. للبحث عن نقاط بدء سأقوم بترحيل هذا المقطع إلى فضاء مستقل ومنفصل عن نمطية الكتابة وأسلوب السرد. تحفل كل رواية بأحداث (إنتروبية) وأبطال يتبددون بمعنى (التبدد العشوائي) الذي تمثله سلطات القمع الخفية ونواتج الحروب السامة وهم يماثلون في دلالات شخصياتهم عربات قطار محملة بأنواع من المفهومات وردود الأفعال والآلام والحالات العاطفية والفصام والإحباط والنجاح والتحدي والتألق وتجليات العشق، وتمثل هذه التحميلات (التحام) فكرة النص بمفهوم الإنتروبيا المروع. تقول إحدى شخصيات الرواية:

- الحرب تنطق مرة واحدة، وتحيا خرساء إلى الأبد لأنها تبتلع لسانها مع أول الضحايا.

لهذا المقطع تشكيل شعري ضمن منظومة السرد الروائي وهو يلجأ إلى (المجاز) لبناء فكرة النص ومضمونه ويبوح بالفعل الإنتروبي للحرب والذي يتردد مثل لحن دال في الفصول كلها ويفصح عن فكرة الإنتروبيا التي تمارسها الحرب، وأوّلها التآكل الداخلي الذي يجعلها تبتلع أدواتها؛ فإعلامُ الحرب أخرس بكل بلاغته الفارغة وباطل بكل أكاذيبه، ولا لسان لأيةِ حرب مهما امتلكت من وسائل إعلام كاسحة. (الحرب خرساء لانها تبتلع لسانها مع أول الضحايا)؛ فبأي لسان ينطق الموت؟

إذا افترضنا مجازًا أن الحرب هي نوع من كائن حي، وتوصف دومًا في لغتنا العربية بأنها كائن مؤنث (كل مصيبة وجائحة وكارثة تحال في توصيفات متحيزة إلى الأنوثة!!)؛ فقد يتساءل بعضنا: كيف يتفق وصف الكوارث بالأنوثة كما توصف الحرب وهي مفضية إلى العقم والخراب؛ بينما تمدُّنا فكرة الأنوثة بالتجدّد والولادات التي تديم الوجود؟

من أجل أن نستبدل هذا الاستخدام التقليدي لتأنيث الكارثة نجعلُ الحرب تظهرُ في الرواية على لسان إحدى الشخصيات كائنًا (خنثيًّا) لا جنس له، عقيمًا وشرهًا وهو يتهدد الجنس البشري الذي لا يماثله ويتربص به وبمصيره كل آنٍ، ويبتلع هذا الكائن الخنثي المتوحش لسانه عند أول إجراء فعلي لأداء (فعل الموت) - أي مع أول ضحية تسقط في ساحة القتال. يسقط المنطق والقول واللغة وقدرة الإبلاغ وقدرة التعبير والصوت والمعاني والأفكار، يسقط الإنسان ميتًا في حضرة (الكائن الخنثي): الحرب خلال فوضى انتشار أنشطة الإرهاب المدمرة.

يمتلك هذا التصور امتدادًا ميتافيزيقيًا ودلالة مفهومية تفصح عن الخلل في اتخاذ القرارات وعن مستحيلات أفعال هذه الكائن الخنثي وعجزه عن تبرير أفعاله بتعطيل (الكلام): أي إماتة اللغة والمعاني أمام الخرس الداهم للموت العشوائي.

تقول إحدى شخصيات الرواية:

- ما أن تولد الحرب حتى تكتسب ميزة الخلود من حشرجات الموتى.

نجد في هذه العبارة صدى رومانسيًا يشع من مفردة (الخلود) التي تمتلك سحرها الأسطوري في ذاكرات البشر وتشكّلُ جوهر مساعيهم لضمان البقاء أطول ما يمكنهم في الحياة وذاكرات الأجيال اللاحقة.

                     *****

تبدو فكرة الخلود هنا وكأنها وعاء لمضادات (البقاء)؛ فهو خلود زائف محتشد بالجثث والحشرجات، خلود الموت لا خلود الحياة، ويعمل قناع المفردة على منح إيحاءٍ موازٍ آخر هو مفارقة مفهوم الحياة عندما يصير فعل الموت (أبديًا) ومخلدًا؛ فكأننا بذلك نحصر الخلود في فعل الموت، وننفيه في اللحظة ذاتها، اذ لا خلود مع الفناء، وهنا تفقد المفردة دلالتها وتعمل في مستوى آخر من الخداع ــ تعمل اللغة غالبًا في ساحة التضليل والخداع، بخاصة إذا نشطت في استخدام تعابير بلاغية وصيغ مبالغة خلال الاحتراب واستمرار القتل، فتصبح سلاحًا فتاكًا يغيّرُ المعاني والمدلولات ويزيحها عن مستوياتها المألوفة.

تحفل هذه التداعيات بالتناقض؛ فهنا نعثر على (خلود الفناء) أو العدم المؤبد في الوجود المنفي. هل تكون الحروب هي الخلود الوحيد المستديم بعدميته وقدرته الإنتروبية؟

والحياة؟ أهي فناء مؤبد؟

ما هي حدود الإنتروبيا هنا؟ وإلى أي مدى تستطيع الحياة المضي قدمًا تحت طائلة هذا التهديد؟ وأين هي سلطتها في مواجهة الإنتروبيا؟ يبدو أنّ أحلام ونزعات الكتلة البشرية ونواتج إبداعها وكشوفها وحضارتها وقصص العشق والمجازفات والمغامرات وتجليات الفنون والثقافة الشعبية ما هي إلا تحديات متواصلة لسلطة الإنتروبيا التي تمتلك سيادتها الرهيبة، وتتحكّمُ بسياقات الوجود بفداحة ما تبدّدُهُ وليس بعظمة ما أنتجه الإنسان طوال عصوره التاريخية بالحب والأحلام والإنجازات الحضارية ومواثلها الشاخصة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.