}

عن مفهوم "الإنسانية العابرة": ملامسة العلم في حافاته المتقدّمة

لطفية الدليمي 16 فبراير 2024
تغطيات عن مفهوم "الإنسانية العابرة": ملامسة العلم في حافاته المتقدّمة
الثورة المعلوماتية هي الثورة الصناعية الثالثة
يُلاحَظُ في أوساطنا الثقافية العربية، والإعلامية منها بخاصة، خفوتٌ واضح في تناول الموضوعات العلمية لصالح الإفراط في نمط محدّد من الكتابات الأدبية العامّة البعيدة عن نبض العصر والموضوعات الإشكالية السائدة فيه، وتتفاقم هذه الصورة الثقافية "الكئيبة" إذا ما أجرينا مسحًا سريعًا للموضوعات الترجمية الشائعة في بيئتنا العربية. لم نزل نؤكّدُ ونعاودُ التأكيد على مدارس فكرية جرى الإعلان عن انتهاء صلاحيتها في مواطنها الأصلية. لستُ هنا بالطبع في معرض تقديم تفاصيل معمّقة لهذا الخريطة الترجمية السائدة في عالمنا العربي، فضلًا عن حجم المادة العلمية (الخجولة) والمواد المرتبطة بها (السياسات العلمية والتقنية، سوسيولوجيا العلم وتاريخه، الأخلاقيات العلمية... إلخ)؛ لكنّي سأكتفي بالتعريف بمفهوم علمي ـ استراتيجي ـ تقني مركّب له مفاعيله المؤثرة في تحديد شكل الوجود البشري المستقبلي، وأعني بهذا المفهوم (الإنسانية العابرة للكائن البشري الكلاسيكي/ Transhumanism) ـ ويُسمّى أحيانًا الأنسنة الانتقالية ـ؛ ذلك المفهوم الذي صار منذ عقود ليست بالقليلة مفهومًا مركزيًا في الأدبيات الخاصة بمبحث المستقبليات والفروع المعرفية المتّصلة به.

*  *  *

قد يحيلنا هذا العنوان- "الإنسانية العابرة للكائن البشري الكلاسيكي"- إلى أطروحة فوكوياما ذائعة الصيت بشأن "نهاية التأريخ"؛ لكنّ هذه الأطروحة هي أطروحة أيديولوجية بالكامل وثبتت هشاشتها ـ كما اعترف بذلك فوكوياما ذاته ـ عندما تأكّد لنا بأنّ الليبرالية والأسواق الحرّة ليست الاكتشاف الأخير في حلبة المبتدعات الفكرية البشرية. أما فكرة "ما بعد الإنسانيةPosthumanism" فليست أطروحة أيديولوجية (برغم مفاعيلها المؤثرة على الصعيد الأيديولوجي) بقدر ما هي بعض النتائج المترتّبة على صعود تطبيقات الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته العامّة والتي باتت تشكّل المعلم المميز لحياتنا في عصر الثورة التقنية الرابعة التي أصبحنا نعيش على أعتابها في يومنا هذا.

ما بعد الإنسانية؟ 
يرتبط مصطلح "ما بعد الإنسانية/ Posthumanism" ارتباطًا وثيقًا مع الإنسان المعزّز رقميًا بصورة مكثفة، ويشيرُ إلى حالة وصفها العالم البحّاثة الذائع الصيت راي كيرزويل/ Ray Kurzweil، في كتابه الأشهر "المرحلة التفرّدية قريبة/ The Singularity is Near"، ثمّ أكمل رؤيته في كتاب آخر بعنوان "عصر الآلات الروحية/ The Age of Spiritual Machines".  
مفردة "التفرّدية/ Singularity" الواردة في عنوان كتاب كيرزويل مفردة عظيمة الأهمية، وذات مدلول دقيق ومؤثر في عصر "ما بعد الإنسانيّة"، وهي تعني بشكل عام حالة تختلف نوعيًا ـ وعلى نحو جذري ـ بين ما هو سابق لها وما هو لاحق عليها.




وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي تعني تحديدًا تلك الحالة التي لا يمكن فيها للإنسان متابعة استمرارية وجوده من غير دعمٍ (جزئي أو كلي) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية (مثل الذاكرات الحافظة للبيانات، الهواتف النقالة، قارئات الكتب والنصوص... إلخ) لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي (الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري، أجهزة تدعيم السمع أو الرؤية، الوسائط التي تسمح بخلق بيئات إفتراضية ذات سمات محددة ولأغراض محدّدة هي الأخرى... إلخ)، وما يدعو للدهشة أن كيرزويل وضع تأريخًا هو 2029 رأى فيه أن الكائن البشري لا بدّ أن يستعين بعده بشكل من أشكال المؤازرة الرقمية الجزئية؛ أما لحظة التحوّل التفرّدي الثوري العميق والشامل فستحصل مع عام 2045!!؛ إذ حينها لن يعود بمستطاع الكائن البشري التعامل مع بيئته من غير قدرات احتسابية ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية مهما توفّر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوقة. 

ما بعد الإنسانية: تجاوز المحدوديات البشرية
إنّ التوق البشري لاكتساب قدرات جديدة غير مسبوقة هو توقٌ قديم بمثل قِدَم نوعنا البشري ذاته؛ إذ لطالما جاهدنا في توسيع حدود وجودنا البشري في المستويات الاجتماعية والجغرافية والعقلية كافة، وثمة ميلٌ طاغٍ ومستديم لدى بعض الأفراد ـ في أقلّ تقدير ـ للبحث عن انعطافة يمكننا من خلالها تجاوز أية معضلة وجودية أو محدودية يمكن أن تطاول الحياة البشرية، أو السعادة البشرية أيضًا.
تعدُّ ملحمة كلكامش ذائعة الصيت الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود من جهة، ويقينه بأنّ هذا الخلود لن يتحصّل بطريقة الاستمرارية الجسدية، بل باستمرارية الأثر الطيّب والفعل الصالح، وهنا نلمح هذا الإسقاط الفلسفي الذي ينطوي على ثنائية متضادة؛ إذ لطالما تمّ تصوير المسعى البشري لتجاوز المحدوديات الطبيعية الحاكمة له بكونه مسعى ينطوي على ازدواجية يدفعها ما يمكن توصيفه بِـمفهوم (الغطرسة)، ثمّ يندفع هؤلاء الذين يرون في هذا السعي البشري غطرسة خالصة بالدفاع عمّا يرونه من وجهة نظر بالقول إنّ بعض طموحات هذا المسعى ستندفع خارج سقف المحددات الطبيعية الضرورية لإدامة الحياة البشرية، وبالتالي ستكون مجلبة لبعض النتائج السلبية العكسية إذا ما تحقّقت بالفعل على أرض الواقع. يمكننا أن نلحظ شيئًا من هذه الثنائية في الميثولوجيا الإغريقية: سرق (بروميثيوس) النار من زيوس ـ كبير الآلهة الإغريقية ـ وأعطاها للبشر الفانين؛ الأمر الذي ترتّب عليه تحسين دائم من حيث مفاعيله وتأثيره في الوضع البشري؛ لكن بروميثيوس تلقّى عقابًا صارمًا من زيوس بسبب فعلته تلك.
تمثل "ما بعد الإنسانية" تتويجًا للحلم اليوتوبي البشري في الانعتاق من أسر المحدوديات البيولوجية الحاكمة للوجود البشري (المرض، الوهن، الشيخوخة، الخرف، الموت...)، ويمثل السعي للخلود الوجه الآخر لما بعد الإنسانية، وهنا يمكننا القول إنّ الوسائل التقنية وتداخلاتها العميقة صارت هي المرتكز الذي يُراد منه تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأحلام اليوتوبية.
لا بدّ من التأكيد هنا على أنّ "ما بعد الإنسانية" هي أبعد من محض تطويرات تقنية تحصل للكائن البشري بكيفية تجعله يغادر مرتبة الكينونة البشرية البيولوجية الكلاسيكية؛ بل إنّ المدلول الفلسفي (الأنتولوجي "الوجودي") للكينونة البشرية ذاتها سيعادُ صياغة مفهومها بعد مغادرة مفهوم (مركزية الكائن البشري) في محيطه البيولوجي، كما هو حاصل اليوم، حيث سنشهد إعادة صياغة كلّ الأنساق البيولوجية والمعرفية التي تميّز الوجود البشري الحالي؛ ومن هنا جاء مفهوم (نهاية الكائن البشري الكلاسيكي) ليكون خصيصة مميزة لعالم ما بعد الإنسانية.

الإنسانية العابرة للكائن البشري؟
ثمة مصطلح آخر شائع أيضًا في هذا الميدان الفكري، وأعني به مفهوم "الإنسانية العابرة/ Transhumanism الذي قد يستطيب بعضنا أن يسمّيه "الأنسنة الانتقالية".

أشار الباحث راي كيرزويل إلى مصطلح ما بعد الإنسانية بكتابه "المرحلة التفردية قريبة" (Getty)

تمثّل الإنسانية العابرة جسرًا ما بين الكائن البشري الكلاسيكي الذي نعرف وبين عصر ما بعد الإنسانية، وتتحدّد بالتعزيز التقني للقدرات البشرية من غير مجاوزة مركزية الوجود البشري؛ وعليه فإنّ ما وصفه كيرزويل في الكائن البشري المعزز تقنيًا إنما يمثّل ملمحًا فقط في عالم (الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنيًا)، ولا تمتدّ برؤيتها نحو الكائن البشري في عالم ما بعد الإنسانية. ولعلّ بعض ملامح رؤية كيرزويل باتت قريبة من عتبة التطبيق واسع النطاق، وأظنّ أنّ معظم صغارنا الذين لم يتجاوزوا العقد الأول من أعمارهم سيكونون الكائنات البشرية الأولى التي ستشهد تطبيق التعزيز التقني عليها في العقود القليلة المقبلة.
يمكن تصوير الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي غير المعزّز تقنيًا بأنها توسِعةٌ وامتداد لفكرة الإنسانية/ humanism ذاتها، والتي يبدو واضحًا أنّ الإنسانية العابرة مشتقّة جزئيًا منها. يعتقد الإنسانيون أنّ الكائنات البشرية كينونات مهمّة، وأنّ الماهية الفردية للأفراد البشريين موضوع جوهري عظيم الأهمية كذلك. ويتشارك المنافحون عن فكرة الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنيًا الإيمان مع الإنسانيين بالقيم الإنسانية المتفق عليها في عالم اليوم؛ لكنهم إلى جانب هذا لا ينفكّون يؤكّدون دومًا على القدرات الفائقة التي يمكن أن يحوزها الكائن البشري، وهي خليقة في الوقت ذاته بأن تجعله يتمايز جوهريًا عن الكيفية التي يبدو بها في وقتنا الحاضر.
كانت عناصر القوة الاستراتيجية للإمبراطوريات الآفلة في عصور الثورات الصناعية السابقة تنشأ من امتلاك كينونات مادية يمكن وصفها بأنها "صلبة"، ويمكن تعداد بعض هذه الكينونات الصلبة: إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية ـ وبخاصة محاصيل الحبوب ـ بكميات تؤهلها للتحكم في سوق الحبوب العالمية، امتلاك وسائل الإنتاج الصناعي المادي ـ المدني والعسكري ـ واسع النطاق، تطوير منظومات تعليم راقية ومتعددة المخرجات... إلخ. ثمة خصيصة جوهرية لا يمكن إغفالها في مسيرة التطور الإنساني تكمن في صعود شأن القيمة الاستراتيجية لمنظومة التفكير الرمزي التي باتت توصف بِـ"الرأسماليات الرمزية/Symbolic  Capitals"، وقد واصلت هذه المنظومة الرمزية الارتقاء في كلّ ثورة صناعية حتى تفوقت في أهميتها على منظومات القوة الاستراتيجية التي تتكون من عناصر صلبة. ويمكن معاينة بعض آثار هذا التفوق الضارب في الثورة الصناعية الثالثة التي نحياها اليوم (وهي الثورة المعلوماتية)، حيث غدت منظومات "السوفتويرSoftware" هي عماد هذه الثورة في كلّ جوانبها، ومن المؤكّد أن يستمرّ الارتقاء في المنظومات الرمزية في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد تراجعًا شاملًا في كلّ أشكال الاستراتيجية الصلبة.




إنّ موضوعاتٍ مثل "ما بعد الإنسانية"، و"الإنسانية العابرة للكائن البشري البيولوجي المعروف كلاسيكيًا"، لهي موضوعات استراتيجية في عالم الرأسماليات الرمزية، وقد باتت أبعد ما يكون عن التصوّرات اليوتوبية لبعض المفكّرين والفلاسفة الذين قرأنا عنهم في عصر التنوير الأوروبي، أو عصر الثورات التقنية (بكلّ أطوارها)، وليس أمامنا سوى التفكّر الجاد والمعمّق في هذه الموضوعات، وبخاصة أننا صرنا نشهد بواكيرها، وحيث سيترتّب عليها استقطابات حادة (إلى جانب الاستقطابات العالمية الخطيرة السائدة في يومنا هذا) ـ تلك الاستقطابات التي ستعيد تشكيل المشهد العالمي بطريقة درامية لم نعهدها أبدًا. نكون أو لا نكون سيكون عنوان هذه المرحلة المشحونة بالثورات الرمزية والتقنية المستحدثة.

*  *  *

ثمّة خصيصة مميزة تتّسم بها المباحث الخاصة بموضوعات "ما بعد الإنسانية"، و"الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي"، وهذه الخصيصة هي "الطبيعة المتداخلة والمشتبكة/Interdisciplinary " للمقاربة النسقية اللازمة للتعامل مع هذه الموضوعات، ومن المهمّ التذكير بأنّ هذا التفكير النسقي سيكون هو النمط السائد في دراسة العلوم ـ وكلّ المباحث المعرفية ـ، وهذا أمرٌ مركزي لصنّاع السياسات التعليمية والسياسية والاستراتيجيات المؤثرة في تشكيل حياة الشعوب.

*  *  *

التركيز المفاهيمي على مثل هذه الأفكار المؤثرة "ما بعد الإنسانية"، و"الإنسانية العابرة"...، وسواها من المفاهيم المتصلة عضويًا بها، ليس سوى دعوة للتفكّر في هذا العالم، وموقعنا فيه، وبخاصة وهو ـ أي العالم ـ على عتبات تغيّرات ثورية ستعيد تشكيل صورة الكائن البشري وعلاقته بسواه من الكائنات البشرية، فضلًا عن شكل الحياة بأكملها على هذه الأرض.
نحن في نهاية الأمر جزء من هذا العالم، ولسنا جزيرة منعزلة فيه، ويتوجّبُ أن نتحسّب لكلّ المؤثرات ـ المادية والفكرية ـ الفاعلة فيه من أجل أن يكون لنا دورٌ فاعل بدلًا من أن نظلّ رقمًا سلبيًا ماكثًا في الهوامش المنسية.
 

اقتراحات لقراءات إضافية

أولًا: قراءات باللغة العربية:
1 ــ راي كيرزويل: عصر الآلات الروحية: عندما تتخطى الكومبيوترات الذكاء البشري ـ 2010.
2 ــ روزي بريدوتّي: ما بعد  الإنسان، سلسلة عالم المعرفة الكويتية ـ 2021.

ثانيًا:  قراءات باللغة الإنكليزية: 

 1.  N. Katherine Hayles ,  How We Became Posthuman: Virtual Bodies in Cybernetics, Literature, and Informatics ; University of Chicago Press , 1999.
2. Max More and Natasha Vita-More , The Transhumanist Reader: Classical and Contemporary Essays on the Science, Technology, and Philosophy of the Human Future ; Wiley - Blackwell , 2013.
3. .  Robert Ranisch and Stefan Lorenz Sorgner Post- and Transhumanism: An Introduction Peter Lang GmbH , 2014.
4.  James Barrat , Our Final Invention: Artificial Intelligence and the End of the Human Era ; St. Martin’s Griffin , 2015.
5.  Andrew Pilsch , Transhumanism: Evolutionary Futurism and the Human Technologies of Utopia ; Univ. of Minnesota Press , 2017.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.