}

هندسة الهيمنة على النساء في حضارتَي العراق ومصر

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 31 أغسطس 2023
إناسة هندسة الهيمنة على النساء في حضارتَي العراق ومصر
ميادة كيالي

(1)
لم يُكتشَف العالَم القديم كليًا بعد. وما لا نعرفه هو الغاطس في الأرض، وفي بديهية البحث والتنقيب عن حطام وبقايا القرون الماضية، لم يزل كثير منه غائبًا عن واقع الدراسات النظرية والميدانية. وما يزال كثير من الحضارات الإنسانية ومعطياتها في باطن الأرض، ولم تُكتشف بتمامها وكمالها. وما تم اكتشافه حتى اليوم بُنيت حوله النظريات والبحوث والدراسات والحلقات البحثية والعلمية. ومع أهميته التي أباحت للدارسين والباحثين أن يروا العالَم القديم، بأكثر من وسيلة وطريقة، في قراءات الألواح الطينية، وتحليل الرسوم الكهفية، وقراءات الآثار الموضعية، واستخراج المدوّنات الحجرية والفخارية، إلا أن اكتشاف المخفي في ما بعد؛ سيغيّر كثيرًا من الثوابت القارّة حتى الآن في قراءة الحضارات الإنسانية، ولعل من أهمها حضارات العراق ومصر المتعاقبة عبر آلاف السنوات، التي أعطت صورًا عظيمة لملامح الحياة القديمة فيها، وما جاورها من حضارات أخرى، وطّدت الصلة بها لأسباب اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية ساهمت في بزوغها ونبوغها العمراني والفني والاجتماعي والسياسي.

(2)
موضوع المرأة الرافدينية والمصرية القديمة أخضع للنقاشات الدائمة، والبحوث الأكاديمية والمعرفية، والدراسات المختصة في الشأن القديم من الحضارات، لما لها من أدوار متباينة في صناعة الحضارة الإنسانية منذ عصر الزراعة، وإلى وقت متأخر منه، قبل أن يتسيد النظام البطريركي الأبوي على مقاليد الحياة السياسية والدينية في تلكم الحضارات، باعتبار ان المرأة قد شكلت عنصرًا "يثير الرهبة فيه كما الطبيعة"، وربما هي أول من أدرك "العالم الما ورائي"، بحسب المعتقدات الدينية والأسطورية السائدة في العالم القديم.

(3)
كتاب الباحثة السورية د. ميادة كيالي(*) يستفيض في استقدام هذه الموضوعة المهمة، ويكشف أستار العلاقات الجنسية والزوجية في العالم القديم، قانونيًا واجتماعيًا ونفسيًا وأسطوريًا في الحضارات العراقية والمصرية القديمة؛ وإنْ طغتِ الرافدينية على المصرية بسبب اتساع المباحث؛ مما يتطلب البحث الأكاديمي الدقيق، عبر محاور ومطالِب أن تكون توثيقية، تدرس فيها إنسان ما قبل الزواج وظروفه المعيشية وعلاقاته مع الطبيعة والمرأة، ومن ثم العلاقة بين الزواج والنشأة الدينية والاقتصادية له، ما قبل العصر التاريخي القديم، وهذا يحيلها إلى موضوعة الدين والزواج والبغاء المقدسين، كما هو دارج في التسميات البحثية العلمية التاريخية، وبالتالي مكانة الزواج وأهميته وغاياته والعلاقة بين الزواج والاقتصاد والنظام الأبوي. أما المظاهر الحضارية والاجتماعية للزواج في حضارات وادي الرافدين ومصر القديمة، فهو يبحث في الجوانب الدينية للزواج المقدس، ومراسيمه وشرائعه الدينية، ومكانة المرأة في الحضارات الشرقية القديمة.

(4)
يمكن القول بأن عموم الكتاب يدور في حلقة دائرية تكاد تتشابه، بل تتشابه في كثير من أوجهها. فالعصور القديمة لم تبقَ قارّة في مستوياتها الحياتية، الآخذة بالوعي والربط الاجتماعي عبر الزواج والإنجاب. ومثل هذه الدراسات المصدرية لا بد أن يكون وعاء التاريخ فيها ممتلئًا، لتكون النتائج في مكانها الصحيح، والمعطيات في تمامها، لكن المقصود في هذه الإشارة هو استنباط ما هو مُتاح من المعرفة القديمة وتقييمها، فلن يكون الوعاء مكتملًا حتى وقت من التاريخ المستقبلي، أو قد لا يكون.




لذلك فإن الباحثة استقدمت كثيرًا من مراجع ومصادر المعرفة المعنية بدراسة القديم في موضوعات المرأة والجنس والإباحية والزواج في المجتمعات البطريركية والأمومية على حد سواء، منذ عصور التاريخ الأولى، منذ عصر النيوليتي، الذي دُجّنت فيه الحيوانات، واكتشفت فيه الزراعة، حتى استتباب وتشكيل الأسرة المحلية بظهور الزواج بشكله البدائي، لتتشكل العائلة، بعد انتقال الإنسان من المشاعية الجنسية في المجتمعات، واستبدال الزواج المتعدد، ثم الأحادي في المجتمعات.

(5)
نلاحظ في مساهمات المرأة في التدرج التاريخي أنها دجنت الحيوانات، وطحنت الحبوب، وهيأت الخبز والطعام، وصنعت الملابس من الأصواف، وغيرها، من التي ذكرها العلامة طه باقر، لذلك لا يختلف كثير من الباحثين على أن "التجمع الإنساني الأول لم يكن بقيادة الرجل" بل تبلور حول الأم بكتلتها الكاملة من العواطف في العائلة الأمومية بسبب "خصائصها الإنسانية، وقواها الروحية، وإيقاع جسدها المتناغم مع الطبيعة"، فهي التي "أوقدت شعلة النار... وأسست نظام العدل والمساواة بحكم نفورها السيكولوجي من العنف...". ويمكن إيجاد هذه العلاقات، تاليًا، في الحياة الاجتماعية في بلاد وادي الرافدين، إذ كانت "المرأة فيها صاحبة المكانة العالية"، و"ترأست مؤسسته الدينية كاهنة عظمى"، وهذا المجتمع الأمومي "تماهى مع دين عُبدت فيه الإلهة الأنثى"، لتكون أمام الباحثين بوجهٍ عام صورة من صور التسيد الأمومي القديم، كمظهر من مظاهر المكانة المتقدمة التي كانت المرأة عليها آنذاك.

(6)
وبقدر ما في هذا الكتاب من اتساع شامل لتلك الحضارات العظيمة، في ما أسمته الكاتبة بهندسة الهيمنة على النساء (وهو عنوان شاعري أكثر من كونه عنوانًا بحثيًا) إلا أنه ظل يدور في زوايا محددة أوجبتها طبيعة البحث الأكاديمي في مفارقات الجنس: الدعارة ـ البغاء ـ الزواج ـ السلطة الأمومية ـ السلطة الأبوية ـ التشريعات... مع تفريعات اقتصادية واجتماعية وسلوكية وكهنوتية، بوجود الدين كأحد محدّدات العلاقة بين الذكر والأنثى. وبالتالي فالإنسان القديم امتثل إلى التشريعات الدينية والسلطوية، التي أمْلتها ظروف الحياة في الاستقرار النسبي، وإيجاد حواضن مدينية، تُشرعن العلاقات الزوجية.

(7)

باخوفن كان أول مَن طرح نظرية المجتمع الأمومي،"حيث أقامت النساء مجتمعاتهن من دون الرجال


ومن الطبيعي أن تنقسم المراحل الاجتماعية في العائلة القديمة، طبقًا لعلاقاتها الجنسية والزواجية، فقد مرت بمرحلة أمومية، حتى مع العلاقات الجنسية، لا سيما في العصر الزراعي، إذ ذهب الرجل إلى الصيد. وبقيت المرأة حارسة وباذرة للأرض ومُنجبة للأجيال، في موازنة مطلوبة مع الطبيعة، تمهيدًا للنظام الأبوي الذي هو (الشكل الأوحد الذي تستمر معه الحضارة في رقيها وتطورها)، ومع نظرية باخوفن، الذي كان أول مَن طرح نظرية المجتمع الأمومي "حيث أقامت النساء مجتمعاتهن من دون الرجال"، على اعتبار أن البدايات البشرية "حُكمت من قبل النساء" حتى تطوير النظريات التالية عند ماك ليان، ومورغان، اللذين تبنيا نظام القبيلة بوصفها أول (خلية اجتماعية)، وصولًا إلى عالم الآثار البريطاني سميث، الذي عثر على الأصل البابلي لسفر التكوين في بلاد وادي الرافدين، بينما يرفض ويستر مارك الاعتقاد بوجود مرحلة عامة من الإباحية، بما فيها من مشاعية قديمة. ويذهب أنجلز إلى إمكانية "وجود مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة في الأزمنة البدائية".

(8)
هذا التباين في وجهات النظر البحثية والعلمية هو تكهنات علماء ودارسين وباحثين. فحتى المتروكات الكتابية لا نعدم القول من أنها قد تكون غير متكاملة، بالرغم من اكتمالها النظري، كشريعة حمورابي، وقوانين أور نمو، والملك الفرعوني بوكوخوريس في ما بعد. لذلك، في القراءة العامة، والمتخصصة، ستوصلنا، مع تطور الوعي البشري إلى موضوعة الدين وعلاقته المباشرة بقصة الزواج القديم، وارتباط الكهنة من ذكور وإناث في المقدس الأرضي والسماوي، وعلاقة الجميع بالقوانين الأولية التي حاولت تنظيم العلاقات الزواجية بأسس مدينية وليست قروية، باعتبار أن للمدينة نظامًا دينيًا وطقسيًا يرتبط بالآلهة، وبقدر ما فيه من ارتباط روحي، على أساس أن الزواج القانوني "هو وليد المجتمع الأبوي"، وفي العالمين القدسي والدنيوي، لا بد للطقوسي الديني أن يجعل العلاقة بين الذكر والأنثى قائمة على التمثلات الدينية بسيادتها المقدسة وأسطوريتها التي رافقتها أزمانًا غير قليلة، لظهور طقس الزواج المقدس "في حضارة حسونة ـ على سبيل المثال ـ بوصف هذا النوع من الزواج يرتبط بفكرة الإله السماوي، "وهو المحرك للكون"، وربما وجد بعض الباحثين الغربيين بأنه "بغاء مقدس" لعلاقته بالمعبد، بينما يمكن ترجمته الفعلية بأنه (طقس مقدس يجري بين أعظم الكاهنات والإله الممثل بالملك)، لكن مفهوم "الدعارة المقدسة" بشقيها التجاري، أو المقدس، كانت "بسبب نشوء النظام الأبوي"، وإشارة من العالِم إيفان بلوخ إلى أنّ الدعارة "تطورت في المجتمعات بوصفها منتجًا فرعيًا لتنظيم الجنسانية".

(9)
أما كيف تحولت المجتمعات الأمومية إلى بطريركية ذكورية، فهذا ناشئ من أن المرأة ارتبطت بالحمل والولادة، مما "منح الرجل حرية التنقل"، مثلما يرى ويل ديورانت، فانتزع الرجل من المرأة زعامتها الاقتصادية، وسيطر عليها جنسيًا (لينقل نظام التوريث إليه). ومع هذه الصيغة، نشأ الزواج الأحادي للمرأة من (تمركز الثروات في يد الرجل). على أن التشريعات التي ظهرت في المدينة انتظمت بالقوانين والتعليمات، قبل أن تنتقل إلى القرية العذراء.

(10)

كانت قوانين حمورابي في شريعته الشهيرة أول مجموعة شاملة من النصوص القانونية




في الثورة المدينية، تكونت أولى المدن في وادي الرافدين (اكتشاف الأدوات الحجرية من العصر الحجري القديم برهن على أن شمال العراق شهد حضور الإنسان فيه من زهاء 100000 ق. م)، ومع هذه المدينية انحرف طقس الزواج المقدس عن غاياته الأولية، بوصفه طقسًا "يراد منه التشبه بدورة الإخصاب والنمو"، وربما بات عادة اجتماعية أكثر من كونه إباحية فطرية مُشاعة، وتلك العادة لها "قوانينها وأصولها وأسسها وتوابعها".

(11)
تاريخيًا، يمكن عدّ الزواج المُشرعن منذ إصلاحات الحاكم السومري أوركاجينا آخر أمراء سلالة لجش، كونه أول مُصلح في التاريخ في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، إذ وضع أقدم مدونة حقوقية حصل عليها الإنسان، واشتملت على:
ــ تثبيت حقوق المرأة والأيتام.
ــ الحفاظ على ممتلكات النساء من جشع المتنفذين والأقوياء.
ــ تحريم عادة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة.
ــ وضع عقوبة الرجم بالحجارة على من يثبت زواجها بأكثر من رجل واحد.
ــ أصبح للرجل حق في المرأة.

(12)
كانت قوانين حمورابي في شريعته الشهيرة أول مجموعة شاملة من النصوص القانونية، فيما كانت عقوبة قتل الرجل في حال إنشاء علاقة محرمة مع المرأة عند أور نمو. وحتى في الحضارة المصرية كان الملك الفرعوني بوكخوريس (719 ـ 712 ق.م) قد سنّ قانونًا في أشهر مدونة مصرية قديمة، منح فيها المرأة المساواة والحرية الفردية، وساواها في حقل الإرث، وحق التملك، متضمنًا التقاليد المصرية القديمة التي كانت سائدة قبل عهد هذا الملك، بعد أن أدخل عليها كثيرًا من التعديلات. واستمرت المدونة سارية المفعول في مصر الفرعونية لتسعة قرون متتالية، باعتبارها قانونًا مصريًا فرعونيًا خالصًا. وأوجد الباحثون كثيرًا من الشبه مع مدونة حمورابي في شريعته، كون الصلات التجارية التي تربط مصر بوادي الرافدين كانت قائمة في تلك الحقبة الزمنية وما تلاها.

هوامش ومصادر:
(*) هندسة الهيمنة على النساء: الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة، د. ميادة كيالي، المركز الثقافي للكتاب ـ الدار البيضاء 2018.
ــ العصر النيوليتي: هو العصر الحجري الحديث (9000 ـ 4500) قبل الميلاد، والمرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ (عصور ما قبل الكتابة) عرف الإنسان فيه الاستقرار الدائم في الزراعة وتدجين الحيوانات، وتطور الفكر الديني وصناعة الفخار واستخدامه في الحياة اليومية للتخزين والطبخ، وغيرها من الاستعمالات.
ــ طه باقر (1912 ـ 1984): عالمَ آثارٍ ومؤلف ومسماري ولغوي، ويُعد من أبرز علماء الآثار في العراق. ترجم من الأكادية إلى العربية ملحمة جلجامش، وفك رموز الألواح الرياضية البابلية، واكتشف قانون إشنونا. يتقن اللغات العراقية التاريخية الأربع (العربية، والآرامية، والأكدية، والسومرية)، وكذلك الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية.
ــ هنري ساكيز: عالم آثار بريطاني. درّس الآثار والتاريخ القديم واللغات الساميّة في عدد من الجامعات العراقية والبريطانية. وله كتاب بعنوان "بابل".
ــ جورج سميث: عالم آثار وآشوريات إنكليزي. ينسب له اكتشاف ملحمة جلجامش في مكتبة نينوى. توفي في حلب في 19 آب/ أغسطس 1876، وكان يبلغ من العمر 36 سنة فقط.
ــ ياكوب باخوفن: مؤرخ سويسري للقانون والدين. ويعد كتابه «حق الأمومة» (1861) عملًا رائدًا في دراسة تاريخ الأسرة الأمومية. كان أول من تحدى الاعتقاد السائد والقائل بأن أصل المجتمع هو العائلة الأبوية متعددة الزوجات.
ــ ويل ديورانت: مؤرخ وكاتب أميركي. من أشهر مؤلفاته كتاب "قصة الحضارة".
ــ ويستر مارك: عالم اجتماع فنلندي. نفى بأن البشر الأوائل كانوا يعيشون في حالة من الاختلاط، وعدّ الزواج البدائي الوحدة الأساسية في المجتمع (من الكتاب).
ــ شريعة حمورابي: مجموعة قوانين بابلية يبلغ عددها 282 مادة قانونية سجلها الملك حمورابي، سادس ملوك بابل، على مسلة كبيرة أسطوانية الشكل. وحمورابي هو سادِس مُلوك السُلالة البابلية الأولى، وأول مُلوك الإمبراطورية البابلية.
ــ قانون أور نمو: أقدم قانون مكتشف حتى الآن، وقد سبق قانون حمورابي بثلاثة قرون. عثر على قسم من الألواح التي تضمنت هذا القانون في مدينة نفر، والقسم الآخر منها في مدينة أور، وقد كتب باللغة السومرية. وأور نمو هو مؤسس سلالة أور الثالثة في بلاد الرافدين، ومؤسس أول شريعة قانونية في التاريخ.
ــ أوركاجينا: أحد ملوك سلالة لكش الأولى، وصاحب أكبر إصلاح اقتصادي واجتماعي حتى الآن، حيث يرجع تاريخ تلك الإصلاحات إلى عام 2355 قبل الميلاد. وقد اكتشفت تلك الإصلاحات في مدينة لكش عام 1878م. وترجمها لأول مرة العالم الفرنسي تورو دانجان.
ــ قانون بوكخوريس: قانون مدني بعيد عن الصيغة الدينية، سواء في مجال الأحوال الشخصية، أو في نظام المعاملات المدنية. ومن جزئياته أصبح فيه عقد الزواج مبنيًا على التراضي واعتراف للزوجين في حقهم بالطلاق. وأصبح الميراث من حق الأولاد من دون تفرقة بين الذكور والإناث.
ــ ويكيبيديا (العربية، والإنكليزية).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.