}

رَفَح: مساحةٌ من الأفقِ والخيامِ والّلائذين

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 13 يناير 2024
أمكنة رَفَح: مساحةٌ من الأفقِ والخيامِ والّلائذين
ميناء رفح البري
تتجلّى مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزّة، في حاضرها المتعيّن من عمر الموت المُعْلن على الهواء مباشرة، بوصفِها مساحةً من الأفق المُطلِّ على صعيدِها المصريّ الغافي عن يقظة استحقاقات العُرْوة الوُثقى، ومساحةً من خيام الّلائذين بها هروبًا من لعنة القصف الهمجيّ لا يفرّق بين بشرٍ، أو حجرٍ، أو شجر، أو أي دابّة من دوابِّ الأرض النّاهضة من تاريخٍ ملوّنٍ بالدّم، مُزركش بِالبطولات، متأهّب لاحتمالاتِ القارّات، متمسكٍ بإطلالةٍ غير بعيدة على بحرٍ يرى الناسُ، كلُّ الناس، في هدوئِهِ تحفّز، وفي وداعتِهِ توعّد.
ستة آلاف عام من الحضور والتجدّد والذّود عن الثغور. جولات من الحِقب الكنعانية التي صمدت في وجهِ الريحِ والغَزوات والاسْتهدافات.

رافيا الكنعانيّة...
مختلف تحويراتِ اسم المدينة التي شطرتْها السياسة إلى شطريْن؛ شطرٌ فلسطينيٌّ وآخرُ مصريّ، جاءت من اسمها الكنعانيّ الأصليّ: رافيا. اليونانيون كانوا أكثر واقعية فَأبقوا على اسمها الذي، على ما يبدو، لم يشكّل عائقًا أمام مخارجِ حروفِهم، فَبقيت على أزمانِهم، وربّما أزْمان الرومانيين، تحمل اسمها الكنعانيّ: رافيا. الفراعنةُ المصريون عدّلوا في الاسم قليلًا، أو، ربما، كثيرًا، فصار اسمها أيامَهم: روبيهوي. التّحوير الأشوريّ كان، لعلّه، الأقرب، بعد اليوناني، المُطابق، لِاسمها الكنعانيّ، فصار اسمها في الزمن الأشوريّ: روفيحو. أمّا رفح فهو التخريجة العربية مع قرونٍ من التّحوير والتّقريب والتّعديل، فإذا بِرافيا الكنعانية، هي نفسها، رفح العربية الفلسطينية اليوم، تأوي آلاف الخيام المسكونة بالصبرِ والرّضى، ولكن، أيضًا، وأيضًا: بالغضبِ الذي لن يُبقي، على ما يبدو، ولن يَذَر.

رمل الغواية
لِرملها رفح، بملمسِهِ وألوانِهِ واستواءِ سهله، طعم الغواية الفاتنة؛ أغوى رملُها الكنعانيين فشيّدوا عليها، داخلَ أفياءِ الألفِ الرّابع قبل الميلاد، بعض مَداميك وجودِهم المُمتد فوقَ كلِّ أرض فلسطين.
أما ماؤها العذب الطالع، على غير توقّعٍ، من ينابيع السهل الساحليّ الجنوبيّ لِفلسطين الذي ترصّعه تلالُ الفرحِ الزّلال، فقد شكّل سببًا آخر لتفضيلِها عن غيرها، وحفّز استثمار لحظةِ العطاءِ القُصوى المُنبثقة من رملٍ وَماء.
سهلٌ ممتنعٌ فوق أرضٍ مُنْبسطةٍ في عمومِها، هو العنوان الأخّاذ الذي صار يحمله تلّ رفح، وبما يقترب من لغزٍ لا حلّ له، فلا موانع طبيعية كالجبالِ، أو الودْيان، يُمكن أن تحميها من جهة، ما شكّل خلال سيرورتِها محنةً، ولكنّها، من جهةٍ ثانية، منحةً، فلا عوائق بين الناس وبين أرض زراعتِهم وفلاحتِهم وعمرانِهم آخرَ أفقٍ من آفاقِ فلسطينِهم.
اتصالٌ مستمرٌ داخلَ، وحولَ، أرضٍ مفتوحة، أهّلها لأنْ تولدَ من المستحيل، وتنْمو بعزمِ أصحابِها، وتجْعل الغُزاة يتساءلون، في جنون، ما الذي يمنعْنا من غزوهِا، واكتشافِ أسرارِها؟ ولأنَّ لكلّ سؤالٍ جواب، فقد جاء الجوابُ من رملِها الذي يتحوّل، بمجرّد اقترابِ الطّامعين منها، إلى رمال متحركة تُغرق داخل أنفاقِها، وأطْواقِها، وأشْواقِها، كلَّ من تسوّل له نفسه التطاولَ على فرادةِ استقلالِها، وخصوصيةِ أَنَفَتها، ورقصاتِ حريّتها المتواصلةِ من أوّلِ الزّمان حتى آخرِ الزّمان.
رملُ رفح/ رافيا/ رفيّا  تميّز منذ أزمان النشوءِ بخصبهِ، صحيحٌ أنه لا يُعد من أتربةِ الأرض السَّمرا، إلا أن خصبَه أتى، بدايةً، من بكورتِه، ومن جمعهِ، ثانيًا، سِمات قارّتين: آسيا وأفْريقيا، ولأن الكنعانيين هُم، أوّلًا وآخرًا، فلاحون بِالوراثة، فقد شقّوا لرملهِم حبيبَ وجودهِم قنواتِ الحياة، وَزرعوا السَّهل الذي خلْف قلاعٍ أعيانهِم وحصونٍ بنتْها سواعد عمّالهم بقليلٍ من الحجارة وكثيرٍ من الطّوب الّلبن؛ زرعوهُ بالقمحِ نشيدَ أنشادِ الكنعانيين، والعنبِ صلاةَ أرواحِهم، والزيتونِ هويّة وجودهِم الباقية ما بقيَ الزّمان. وأمّا الشعير فلعيونِ دوابّهم؛ خيولُ الزّهو، حميرُ الفقراء، ثيرانُ الحِراثة، وماشيةُ الكِساء والغِذاء. وأمّا التّين فِلكي تواصل نومَها أمّي تحت تينتِها العجوز، لا تخشى عابرَ سبيل، ولا تكْتَرِثُ بِغمْزةٍ هُنا، أو لمْزةٍ هُناك. تنامُ مِلْأَ طمأنينةِ الصبيّة الصغيرِة التي زوّجوها وهي في الثالثة عشرة من عمرها، فلا يعود يفرِق معها هل تنام تحت تينةٍ في قريتها وقريتِنا بئرِ ماعين (بعضُهم يكْتبها بيرامّاعين) جنوب شرق الرملة، أو تنام تحت تينةٍ شقيقة لتينةِ البلدةِ هناك عند أقصى فلسطين، حيث رفح لا يزال رملها يتلوّن بألوان السّما السبعة، لا مثيلَ لزهوهِ، وَلا حدودُ لعنفوانهِ، وَلا سبيلَ لقهرِه.
مُناخٌ خاص، لمصرَ فيه نصيب، وللبحرِ نصيب، وأما الجباه فَما انحنَت يومًا لغاصِب، وأمّا الشعار فهو الصبر والرضى، على أنْ لا تُستفزّ مجسّات غضبِها رفح.

روح المدينة
في رفح عبقُ مدينيةٍ طالعةٍ من جموح أهلهِا أن يكونوا، وأن ينهضوا بالأفقِ الذي يلوّنه رمل أجدادهِم. فيها أسواق مسقوفة كما كثير من أسواق دمشق ونابلس وعكا والخليل، وأُخرى سقفُها السماء. لأسواقِها بعضٌ من روحِ أمكنةٍ كثيرة... من دون أن ينسى روّاد أسواقِها (شاورْما) بلادُ الشّام.
يجلس فتحي قِشطة (أبو أيمن) رئيس الغرفة التجارية في رفح، في حاكورةِ بيته الظّليلة، ليس بعيدًا عنه معصرة الزيتون التي يملِكها، الناس يجدّون الزيتون، ثم يؤمّون معصرته، فإذا بالزيتونِ زيتًا، وإذا بدولابِ المدينة يدور، والخير يعمّ، والذّاكرة تحتفظ بالصورةِ الأولى لشجرةِ الزيتون الأولى، في مدينةٍ، حتى العَدَس، وجد له من خيرِها نصيب.




ليست القِشطة وحدها الحمولةُ التي تشكّل المكوّن المجتمعيّ في المدينة العريقة، هناك أيضًا حمائلَ أخرى وعائلاتٍ وعشائر: ضْهير والنحّال والشّاعر والزعْرب البَراهمة وَماضي وَفوجو ودهْليز، وغيرُها.
الحاجة غاليَة النحّال (أُم تحْسين) من "خرْبة العدس" إحدى نواحي رفح، تجلس أمام بيتها، كما تفعل منذ عشرات السنين، تتذكّر حين كانت وهي صغيرة (تحشّ) العشب كي يُطعموا الدّواب. هي الآن تسكنُ في بيتٍ معقودٍ بِالحجر، وتتنفّس أنفاسَ مدينةِ البحرِ والبرّ الرّابضة قربَ قارّة أُخرى.
في رفح: تلّ السلطان... مستشفى أبو يوسف النجار... المستشفى الكويتي... مستشفى رفح المركزيّ... مخيم رفح... النّصر... الشّوكة... وأماكن أخرى كثيرة: المَواصي، وسط البلد، رفح الغربية، الحْشاش، حي النّخلة، خرْبة العدس، حيّ السلام، الجِنينة، وأحياءٌ وشوارعُ أُخرى كثيرة.
من معالِمها التاريخيّة السياحية: تل رفح: وفيه أنقاضٌ وجدرانُ مبنى من الطّوب وقطعٌ فخّارية؛ لأنّ رافيا الرّومانية كانت تقوم على هذا التل. خرْبة العدس: تقع في الجنوب الشرقي من رفح وتحتوي على سقفِ فخّار فوق موقعٍ أثريٍّ متّسع. تل المصْبح: ويقعُ في الجنوب الغربيّ من رفح وفيهِ قطعٌ من الفخّار. أُم مْديد: يوجد فيها تلالٌ من الأنقاضِ والحجارةِ، وقطعٌ رخامية ٌوفسيسفاءُ وشُقَف الفخّار.
تبلغ مساحة رفح المحافَظة 55 كيلومترًا مربعًا، ويصل عدد سكّانها هذه الأيام مضافًا إليهم سكّان مخيمها زهاء 340 ألف نسمة.
في روحِ المدينة، وفي مخيّمها، شعراءُ، وفيها أدباءُ وفنانون، جلّهم لا يستطيع المشاركة حتى في تكريمٍ له خارجَ السجنِ الكبيرِ المسيّجِ بِالكراهية (القطاع المُحاصر)، ومن كتّاب رفح ومخيّمِها: أحمد العيلة، جهاد درويش، خالد جمعة، شريفة سالمة، عودة أبو مريفة، عثمان حسين، عدنان أبو شرخ، عطا أبو السّبح، محمد صُبح، نجوى شمْعون، وغيرهم. وَمن شعراءِ رفح المصرية عبد القادر عيّاد.

خيامُ التوعّد
"وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزًا لِلمنام".
على امتداد السهل الذي تمثّله رفح المدينة، وَرفح المُحافَظة، تمتد، هذه الأيام، آلاف الخيام. إنها خيامٌ رُفعت على عجلٍ وكيفَما اتّفق، فَالعودة السريعة، هذه المرّة، حقيقة، وليستْ أكذوبةً من أكاذيبِ النّكبة الكبرى في عام 1948.
لن يقع شعب فلسطين بِالخطأ التاريخيّ القديم: الهروب من وجه الموت، علمًا أن هروب المدنيين العزّل ضِعاف الحيلةِ من وجه الموت لا خطأ فيه، حين يكتشفون أنهم وحدهم في تلك الطامّة الكبرى التي أصابت، بمقتلٍ، وجودَهم، وتاريخَهم، وحقوقَهم، وأحلامَهم، وأرضَ أجدادِهم، وينابيعَ عنبهِم وقمحهِم، ولمْ يجدوا من يضمّد جراحَهم، أو يمدّهم بعونٍ، أو سلاح، إلّا، للحقيقةِ، سلاح يُطلق للخلف، ولا خطأ فيه حين يُبتلون بعصاباتٍ مجرمةٍ جاءتهم من أَقاصي الغرب الاستعماريّ الهمجيّ اللعين، مدجّجين بأسوأِ خرافاتِ التاريخ، وأكذبِ ادّعاءات التّلفيق.
الخيام من كلِّ شكلٍ ولونٍ وحجمٍ وتصميمٍ ومكوّنات إقامة؛ خيامٌ نسيجيّة، صوفيّة، شبهُ حجريّة، معدنيّة، صفيحيّة، شاطئيّة، مربّعة، دائريّة، صغيرةٌ وكبيرةٌ، تضمّ جميعُها أُسرًا وعائلات شرّدها القصف المتواصل منذُ السابع من أكتوبر 2023، على مختلفِ مدنِ القِطاع ومحافظاتِهِ ومخيماتِهِ وأحيائِهِ وشوارعِهِ وَنواحيه، وتحتضنُ جميعُها المتّفق عليه بين هذه الأُسر والعوائلِ: لن نقطع المعبر (معبر رفح) نحو أيّ بلادٍ أُخرى، حتى لو كان فيها بعضُ أهلِنا، فحتّى الشقيق لا يرتاح لِلمبيت في بيت شقيقِه.

عنب رفح صلاة روحها 

أما المُضحك المُبكي فهُو أن أعلام (بلاد العُرْب أوطاني) جميعَها، ومعها أعلامَ بعض الدول الإسلامية، منقوشةٌ فوق خيام الهروب من الموت، فأيّ مجدٍ حقّقه أصحاب هذه الأعلام: نحن لا نستطيع إنقاذكم من الموت، ولا نستطيع منع النوايا الصهيونية المبيّتة لِتهجيركم من جديد، وكل ما نستطيع فعله لكم هو تسهيل (أكلِكم) لكلِّ هذه (الخوازيق)؛ إن احتجتم أكفانًا فسوف نرسل لكم منها أشكالًا وألوانًا، وأمّا الخيام فها نحن نضع أعلام بلادنا عليها لِنفاخر بأنّنا أرسلناها لكم، فَلِمَ الخجل وقد جُدنا عليكم ببعض ما ييسّر حزنَكم، ويسهّل (بلعَكم) لأوجاعِكم!!

أسلاكٌ وَرفحان
منذ الاتفاقيةِ التي وُقّعت في عام 1906، بين بريطانيا الاستعمارية التي كانت تحتل أيامها مصر، وبين الدولة العثمانية التي كانت تحكم غزّة، وبالتالي رفح، والقاضيةِ بتقسيمٍ إداريٍّ ما، لِحساباتٍ استعماريةٍ ما، باتت رفح رفحيْن؛ واحدةٌ فلسطينيةٌ، وأُخرى مِصرية، فالخطّ الإداريّ أصبح، مع الوقت، حدًّا سياسيًا، لكن والحقّ يقال، إن هذا التقسيم لم يؤثّر فعليًّا على أهل رفح وعائلاتِها ووجودِها إلا بعد اتفاقيةِ "كامب ديفيد" بأربعِ سنوات، الاتفاقيةُ وقِّعت في عام 1978، ووُضعِت أوّل أسلاك شائكة بين الرفحيْن في عام 1982.
ازداد التشدّد الإسرائيليّ الذي تبعه تشدّدٌ مصريّ في عام 1988، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى. وهو التشدّد الذي أدى إلى هدم المنازل القريبة من خط الشّق بين الرفحيْن إلى مسافة 50 مترًا. ومع كل تشدّدٍ كانت تتعقّد حياةُ الأُسرِ بين الرفحيْن، فالحاجةُ فاطمة برهوم، على سبيل المثال، تقيم في رفح الفلسطينية، وبناتُها المتزوّجات في رفح المصرية، وعندما توفّيت إحدى بناتها لم تستطعْ قطعَ المَعبر لتودّع ابنتَها، وتشاركَ في جنازتها، شيّعتها بعيونِها وآلامِها وشتاتِ رفحِها. والحاج محمد برهوم يقيم في رفح المصرية، وأولادُه في رفح الفلسطينية، وهلمّ جرًّا. وعندما يودّون أن يعلنوا عن وفاة أحدهم في الجهتيْن، يصعد متبرّع لمئذنةِ مسجد ويصرخُ بِعالي الصوت أنْ يا عائلة الشاعر، مثلًا، رحل لكم اليوم فُلان من دار الشّاعر، ليعلم بالأمر أقاربُه الأُصول، فيتوجّهون نحو السياجِ الشّائك، علّهم ينالون نظرةَ وداعٍ من خلْفِ الأسلاك!




صبحي أبو رضوان رئيس بلدية الشّطر الفلسطيني من رفح، يتحدّث عن معاناة زوجته التي يقيم أهلها في رفح المصرية، ثم تكمل عنه وتقول إنها لم تتخيّل أن تنجبَ أولادَها من دون أن تكون أمّها إلى جوارِها، وهذا ما حدث.
في الرفحيْن ألعاب الصغار نفسها، الملامح نفسها، وربّما الأحلام، هي أيضًا، نفسها. الملابس فوق حِبال الغسيل... أمنياتُ النّهار الجديد... عرباتُ البِغال... جباهُ الذَّهاب إلى يوم عملٍ شاقٍ آخر... بيوتُ الصفيح... عشوائياتُ التّحايل على شظفِ العيْش... عبد القادر الشاعر يقول: "قبل عام 1982، كانت رفح على الجانبيْن واحدة، لا حدود، وَلا موانعَ للتنقّل، وَلا أسلاك، وَلا ما يحزنون".
"سلكٌ شائكٌ صنع المأساةَ كلَّها" يقول الحاج محمد برهوم، فالأسلاك قسمتْ بيتَه نصفيْن! ماتت والدة الحاج وَلم يستطع توديعها وحضور جنازتِها، وَكذا الأمر مع والده. الإعلان عن الوفيات من الجانب المصري يجري عبر مكبّرات مسجد الشهداء الموجود على الحدِّ الفاصلِ بين الرفحيْن تمامًا، الذي حُرِم أبناء رفح الفلسطينية من الصلاة فيه.
العامل يوسف الأخرس ينادي، في فيلمٍ وثائقيٍّ يحمل عنوان "من أيّ رفحٍ أنت"، على أشقائِه من مسافةٍ تزيد على 100 متر، بصوت عالٍ يمكنُ أنْ يعبرَ أسلاكًا وجداريْن (قام الجانب المصري لاحقًا بِبناء جدارٍ أعلى من الجدار الإسرائيلي): (أحمد كيف أَبوي... كيف أمّي... سلّم على الجميع). فيما بعد وسّع الاحتلال المنطقة العازلة بين الشطريْن إلى 400 متر، هادمًا كل منزل يعترض هذا التوسّع في شقّ الشطريْن. وهذا ما فعله الجانب المصري بعد ذلك، هادمًا المنازل حتى مسافة 350 مترًا بين الرفحيْن، عفوًا أقصد بينَ الرّفحِ الواحدة!
تعقّد الأمر أكثر وأكْثر، بعد اندلاعِ انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث أقام الاحتلال جدارًا عاليًا وقاسيًا ونهائيًا (أرجو أن لا يكون نهائيًا).
الصيّاد رشاد فرحات يروي رحلة سمك البُوري بين شاطئيْن رفحييْن، عندما كانوا يلاحقونَه حتى الشيخ زويّد، ويتذكّر أيام السّردين قبلَ الشقّ الحزين... فرحات يسمّي الفصل بين الرفحين (فصل السادات بيغن)، ويؤكّد أنه ليس فصلًا بريًّا فقط، بل أيضًا فصلًا بحريًّا ووجدانيًّا عميقًا، فالطّرّاد يتأهّب عند حدود رفح المصرية، ويأمر الصيادةَ أن يعودوا من حيث أتوا. الصياد أيمن جْبور مشتتٌ بين هُنا وهُناك... منذ أن أصبح هنا يُبعد مسافة احتلال وجداريْن عن هُناك.
هُدِم الجدار في 22 كانون الثاني/ يناير 2008، ولكن ذلك لم يدُم طويلًا، فقد أعاد المصريون بناء جدار أعلى من السابق، وعادت الأمور إلى عهد الفصل القسريّ الجائر! ما اضطر أهل رفح الفلسطينية إلى حلِّ الأنفاق، وكانت الهدف منها في الدرجة الأولى، اجتماعيًا واقتصاديًا. فَتْحُ هذا الأفق لم يكن سهلًا، ولم يتحقق بيسرٍ، وَمن دون تضحيات، فَالأنفاق بين الرفحيْن تحقّقت (كُل شِبِر بِنذر)، وَراح ضحية تسهيلِ استخدامِها عشرات الشبّان شهداء لِتلك الأنفاق التي يقال عنها في مختلف وسائل الإعلام ما يقال... علاوةً على استهدافِها من غيرِ جهةٍ إقليميّة، هدمًا، وتحطيمًا لكل جهد بُذِل من أجل إنجازها! (205 شهداء رفح الفلسطينية، وَلا إحصائيات موثّقة تخص رفح المصرية).
بعد ثورة يَناير المصرية، أصبح المجال أوسع وأجْدى بالنسبةِ للصيادينَ الفلسطينيين، من دون حلولٍ جديّة بريًّا.

أنفاس الحياة في رفح رغم القصف والدمار 

أما اليوم، فقد أصبح الشقّ شقاقًا، وقوافل إغاثةٍ واقفةٌ بِلا حيلة تنتظر السّماح لها العُبور إلى رفح الفلسطينية كي تنقذ الناس من الموت جوعًا، آلاف الشاحنات وَملايين الأنّات. مئات الأطراف بُتِرت لأنّ مستلزماتٍ طبيّةً بسيطةً غيرُ متوفّرة في غزّة، إنها هناك في الجزء المصريّ من رفح تنامُ تقصيرَها الطويل. مئات الجرحى استشهدوا لأن أحدًا لم يستطع فرض مرورهم عبر المعبرِ نحوَ فرصِ الشّفاء والإجراءاتِ الطبيّة الأكْثر كَفاءة.
معاناةُ رفح، كجزءٍ من معاناة غزّة، وكلّ فلسطين، كانت في وجدان الشاعر المصري جمال مُرسي المنحدرِ من محافظات جنوب مصر (من مواليد دار السلام التّابعة لِمحافظة سوهاج)، حين كتب قصيدة "رفح" المتأمّلة أوجاعَ مدينةٍ ترتبطُ في مصر، وترتبطُ فيها مصر:
"عاشت رَفَحْ
سَلِمَتْ رَفَحْ
وعلى الآذانِ نشيطةً
تصحو مُهللةً رفح
وعلى الجراحِ أبيَّةً
ترقى مآذنها رفح
لتصِخَّ آذانَ العِدا
وتُذيقهم طعم الردى
بحجارةٍ
سوداءَ يحسبها اللئيمُ
إذا تَلَقّاها رُطَبْ
وهِيَ التحدِّي والتشَظِّي
والمنايا واللهبْ
في كلِّ باسِقَةٍ طَرَحْ

***

عاشت رفحْ
عاش الأُباةُ الرافضينَ الضيمَ
في ثوبِ الشهادةِ والفَرَحْ
مُستبشرينَ بجنَّةِ الخُلدِ التي
وُعِدَ الشهيدْ
أو بانتصارٍ ساحقٍ
يُودي بأذنابِ اليهودْ
ويُقرِّب الفجرَ البعيدْ
عاشت رفحْ
عاشت برغمِ جيوشهمْ
وعتادِهِمْ
وبرغمِ آهات الثكالى
والضحايا
والقُرَحْ

***

عاشت رفحْ
عاشت، وما زلنا نغوصُ
ببحرِ أحلامٍ عميقْ
وطعامُنا شهدُ الكلامِ نلوكُهُ
لوْكًا
ونرتشفُ الرحيقْ
عاشت، وَما زلْنا نشيدُ
بسحرِ خارطةِ الطريقْ
يا للطريقْ
ضاعت، وَما زلْنا نُندِّدُ
بالمذابِحِ يا رفحْ
جنينُ تشهدُ
والعراقُ
وتكْتوي ديْرُ البَلَحْ
ونظلُّ طولَ العمرِ نشجبُ
يا رفحْ
حتى استجارَ الشجْبُ
والتنديدُ
والصمتُ انشَرَحْ

***

أوّاهُ يا رفحَ الإباءْ
يا أختَ جنينَ الصمود
لا تأبهي بخنوعِنا
إنّا غُثاءْ
(ذالٌ وَراءْ)
أعجازُ نخلٍ خاويهْ
في كلِّ يومٍ ننْتحي
دربًا لقاعِ الهاويهْ
ما عاد في مقدورِنا غيرُ البكاءْ
غيرُ الصياحْ
فإليكِ يا رَفَحُ الحبيبةُ
فاصلانِ من الصياحْ
(عاشت رَفَحْ)
(سَلِمَتْ رَفَحْ)".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.