}

الإضراب بين الواقع والأدب

سوسن جميل حسن 16 يناير 2024
اجتماع الإضراب بين الواقع والأدب
لا بدّ من تذكّر الإضراب في فلسطين عام 1936

 

شأن الأدب الحفر في العمق، الحفر في الواقع، في النفس الإنسانية، في التاريخ، في المفاهيم، في الهوية، في كل ما يتعلق بالحياة والغوص إلى أعماق أسرارها، في سباق مع دفق سيل الأسئلة التي ترافق الإنسان منذ نشأته الأولى، فالأدب، بقدر أهمية الجانب الجمالي فيه والمتعة المرجوّة منه في كتابته وقراءته، هو تجربة إنسانية يخلق فيها الأديب أشكالًا أخرى، أو يهندس الواقع بتصاميم تبدو أحيانًا غير منطقية وفق معاييرنا المعروفة والمألوفة الخاضعة لمنطق منحتنا منجزاته الأمان في تحققها، فيجعلنا نفكّر بتغيير واقعنا بما يمنح من احتمالية الممكن، حتى لو كان في بعض حالاته ضربًا من الجنون قياسًا بما اعتدنا عليه، وهو في الوقت ذاته، واستنادًا إلى نزعة الحفر التي تلازمه، يبسط أمامنا الواقع بما خفي علينا، وبما لم ننتبه إلى خطورته حينًا، وإلى جدواه حينًا آخر.

يحضرني سؤال الأدب واشتغالاته في موضوع الإضراب، في الوقت الذي تمارسه شعوب عديدة في الأرض وسيلة في النضال من أجل العدالة ودفاعًا عن حقوقها أو قضاياها، بعدما شاع في أواخر القرن التاسع عشر، بعد مسيرة انطلقت من رحم الثورة الصناعية، عندما اكتسبت مجموعات العمال أهمية أكبر في ظل ازدياد المصانع والمناجم، فشكّلت نقلة نوعية في حياة البشرية التي شهدت تحولات في الطريقة التي يعيش بها البشر وينتجون فيها السلع والخدمات. وصار الإضراب من أهم طرائق المقاومة السلمية، أو اللاعنفية لدى الشعوب، يشهد التاريخ الحديث إضرابات كانت نقطة انعطاف وتغيير جذري في مناطق عدّة في العالم، باتت أسماء قادتها رموزًا لهذا النوع من النضال، منهم المهاتما غاندي الذي يعدّ من أكبر رموز النضال السلمي، وكان أحد أشكال نضاله الإضراب عن الطعام، بالإضافة إلى المقاطعة التي حشدت الملايين من الشعب الهندي في سبيل تحرير بلاهم، وتعدّ قضية الملح من أشهر وسائل المقاومة السلمية ضد سياسات الاحتلال البريطاني، فلفت الإضراب الانتباه الدولي إلى قضية الهند وزاد من الضغط على الاستعمار البريطاني، وشكّل نقطة تحول في الصراع من أجل الاستقلال. أمّا نيلسون مانديلا فقد استخدم الإضراب وسيلة في النضال والوصول إلى الهدف المنشود فيما يسمى إضراب الحقوق المدنية في جنوب أفريقيا، 1952-1994، واجه به نظام الفصل العنصري وطالب بالمساواة، بقيادته وحركة المؤتمر الوطني الأفريقي، استمرّ هذا النشاط لفترة طويلة إلى أن بدأ التفاوض بين الطرفين في أواخر الثمانينيات، وفي عام 1994، جرت أول انتخابات ديمقراطية متعددة الأعراق وفاز نيلسون مانديلا برئاسة البلاد، وانتهى نظام الأبارتهايد، وها هي اليوم دولة جنوب أفريقيا ترفع دعوى أمام المحاكم الدولية ضدّ إسرائيل، احترامًا لإرثها النضالي الذي رسّخ قيم الحياة في وعي شعبها وحكامها...

ولا بدّ من تذكّر الإضراب في فلسطين عام 1936 الذي استمر لستة أشهر، من أجل تلبية مطالب الفلسطينيين حينها ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية غير الشرعية إلى الأراضي الفلسطينية. وهذا الإضراب سَبق الثورة التي استمرت من عام 1936 إلى عام 1939، ضدّ الإدارة البريطانية للمطالبة بالاستقلال.

أمّا اليوم، في ظلّ الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني كان موعد الإضراب الثاني، بعد الدعوة الأولى في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أطلقها نشطاء ومثقفون وحقوقيون ومؤثرون نصرة لغزة ولوقف الحرب على الشعب الفلسطيني، ولفت نظر العالم إلى هذا الشعب الباحث عن العدالة وحق العيش فوق أرضه.

تعيدني الإضرابات، السابقة والحالية في أكثر من مكان في العالم إلى سؤال الأدب مرة أخرى، فعلى الرغم من غياب الإضراب عن التداول لدى العامّة، فعلًا وقولًا، في معظم بلدان المنطقة العربية، إلّا أنه حاضر في وعي النخبة الثقافية، منهم من كان ناشطًا في الجماعات والأحزاب المعارضة للسلطة، ومنهم من كان لديه مشروع أدبي أو ثقافي، ومن بعض النصوص الأدبية التي تطرّقت للإضراب في متنها يعرّج هذا المقال على أربعة كتب.

في أدب السجون

كتاب "ماذا وراء هذه الجدران" للكاتب السوري راتب شعبو، يسرد فيه تجربته في سجون النظام السوري بصفته معتقلًا سياسيًّا لمدة تفوق الستة عشر عامًا، إذ قام المعتقلون في "الجماعية" في سجن الشيخ حسن في دمشق بإضراب، يقول: بعد أيام قليلة من نقل سجناء القلعة إلى الكركون، جاء ضابط من الفرع يتفقد الوضع... سأل عن الوضع فتقدم الدكتور فايز "أبو محمد" وقال بلهجة انفعالية: بالله لو عندك بقر بترضى تحطن بهيك وضع؟ فرد عليه الضابط: مين قالّك أنكن أحسن من البقر؟ كان الدكتور فايز يتمتع بقيمة اعتبارية عند غالبية السجناء فهو طبيب قديم وقيادي في الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) وذو شخصية مؤثرة، ولما شعر السجناء أن السكوت على هذا الموقف يعني مصيبة، يعني الهوان، كان لا بد من الردّ بالنسبة إليهم، فقرروا الإضراب، واتفقت الكتل الرئيسية في السجن على تنفيذه (المكتب السياسي، العمل الشيوعي، الشعب الديمقراطي). وجعلوا المطلب الرئيس من وراء الإضراب النقل من سجن الشيخ حسن إلى سجن دمشق المركزي في (عدرا)، وإلى حين يتم النقل هناك مطالب فرعية معيشية كتحسن الطعام والطبابة والكتب والأقلام والزيارات وغيرها، وبعد التشاور مع بقية الكتل، ومنها الإسلاميون الذين لم يلتزم منهم إلا واحد، تم تحديد الموعد وعينت كل كتلة ممثلًا يتكلم باسمها. استدعى الضابط الذي وجّه الإهانة إلى الدكتور فايز الممثلين، كلًّا بمفرده، وكان قد وضع أمام باب الغرفة التي استدعاهم إليها دولابًا وخيزرانة، يقول له الضابط باعتباره ممثلًا عن كتلة: إضراب السجين هو تمرّد، والتمرّد له عقوبة أوّلًا، وثانيًا يسوّد صفحة السجين في الفرع ويعيق قرار الإفراج عنه. ولأن الضابط الذي كان يقوم بالتفاوض معهم حول جدوى الإضراب وضرورة فكّه، كان أقل عنفًا من غيره، وربما أكثر دهاءً، فهو بوضع الدولاب والخيزرانة قريبًا من باب الغرفة ما هو إلّا تذكير بما ينتظرهم فيما لو بقوا على موقفهم، استطاع بحنكته أن يجعلهم يفكون الإضراب، وتحسنت شروط سجنهم قليلًا لناحية الطعام والزيارات والكتب والأقلام، ثم تم النقل إلى سجن عدرا بعد شهور قليلة، ما يعني بالنسبة إليهم أن الإضراب كان ناجحًا، لم يكونوا يعرفون ما ينتظرهم، وسوف يجعل من سجن الشيخ حسن جنة قياسًا به، إنه سجن تدمر.

هذه الكتب الأربعة كان الإضراب فيها صورة عن واقع شعوبنا المحكومة بالطغيان، تارة من المستعمر الخارجي، وتارة من أنظمة قمعية


كذلك كتاب "سجن صيدنايا – الإضراب الكبير – رواية معتقل علوي" يقدّم الكاتب السوري المعتقل سابقًا فراس سعد شهادة عمّا عايش في ذلك الإضراب في سجن صيدنايا عام 2008م. حيث كان معتقلًا فيه. كان السجن يحوي كثيرًا من الشباب المعتقلين الذين ذهبوا للجهاد في العراق. وبعض ضباط عراقيين وبعض من القاعدة… وكثير من الشباب العاديين. هذا الخليط التقى به فراس في سجن صيدنايا في أقسامه كلها تقريبًا عبر أربع سنوات. يتحدث السرد عن المعتقلين الإسلاميين الذي قاموا بـ "الاستعصاء" الأول والثاني والثالث. كانت الاحتجاجات مطلبية وكان عنف النظام وردود أفعاله القاسية مبررًا للتصعيد وحصول الإضراب الكبير.

إذا كان الكتابان ينتميان إلى أدب السجن، ويمكن وصفهما بأدب السيرة أيضًا، أو اليوميات، حتى لو كان السرد يقوم على استدعاء الذاكرة، إلّا أنه يصف أحداثًا وقعت بالفعل، وليس عملًا تخييليًّا، إنما قدّم الكاتبان للقارئ تجربة صيغت بأسلوب أدبي كشفا من خلاله ما هو مسكوت عنه، أو كان مسكوتًا عنه ولم يعد كذلك، بل أصبحت ممارسات الطغيان مادة غنية للأدب في جميع أجناسه، فكيف بمن يدوّن تجربته في سجونه؟

في الرواية

"دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد" لإبراهيم نصر الله، هي الجزء الثالث في "ثلاثية الأجراس"، بعد "ظلال المفاتيح" و"سيرة عين". تتناول الرواية بشكل رئيسي بلدة بيت ساحور قرب القدس، وما تعرّض له الأهالي من تهجير وتنكيل وتعذيب وتضييق وإرهاب واعتقال وقتل، وكل أصناف الوحشية الصهيونية، كما باقي الأراضي الفلسطينية، فأعلنت بيت ساحور الإضراب العام ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وامتنعت عن تسديد الالتزامات المالية كالضرائب ورسوم السيارات وغيرها، فقوبل هذا الإجراء بالعنف بما تفتقت عنه المخيلة الإسرائيلية من أدوات وأشكال وما نراه اليوم أيضًا من التنكيل والتفتيش والمصادرة والاعتقال والقتل أيضًا. ولتحقيق المقاطعة، قام الأهالي بزراعة حدائق بيوتهم وأحواشها بكل ما يوفر الاستغناء عن المنتجات الإسرائيلية، ومنها تربية الأبقار من أجل توفير الحليب للأطفال، مستبقين استخدام الاحتلال الحليب كوسيلة للضغط وذلك بمنعه عن أطفالهم. يقول إسكندر في الرواية، وهو أحد وجهاء بيت ساحور: "هل تريدون أن تقنعوا أنفسكم أن أطفالنا الرضع، وأطفالنا الذين يرجمون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم كل صباح، أو في آخر كل نهار أن ينتظروا سيارات شركة تنوفا الإسرائيلية لكي تزوّدهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم وننتظر حليبهم؟"، وصاروا يجبرون سيارات تنوفا على الرجوع بحمولتها من دون أن يشتروا الحليب منها، ومن دون إلقاء حجر واحد عليها "مقاطعة"، ما أثار غيظ الضابط الإسرائيلي داوود، وولّد لديه نزعة الانتقام. بطريقة هزلية نظم العناصر ملفات وصورًا لثماني عشرة بقرة، طلب التخلص منها خلال يومين، وعندما اختفت البقرات لكن الحليب بقي حاضرًا، شدّد الضابط إجراءاته الأمنية، وصار الحليب مكلفًا أمنيًّا، وفي إحدى جولاته في شوارع بيت ساحور وبين بيوتها لاحظ الضابط أن الحليب ما زال متوفّرًا، فجنّ جنونه، معتبرًا أن الأهالي يسخرون منه ويتحدّونه ما دام أنهم قادرون على إيصال الحليب لمن يحتاجه على الرغم من الدوريات في الشوارع والتشديد الأمني، فانطلق الجنود يحطمون العبوات حتى تفشت رائحة الحليب في الأجواء، الرائحة التي يمقتها وتشكّل انعكاسًا لفشله، مع هذا نجح سكان بيت ساحور في إخفاء بقراتهم وحمايتها، وفشل الضابط الإسرائيلي في كسر إرادتهم وإفشال خطتهم بالمقاطعة الاقتصادية التي أثبتت أنها شكل من أشكال المقاومة.

أمّا رواية "الدقلة في عراجينها" للكاتب التونسي بشير خريف، التي كتبت في ستينيات القرن الماضي، وعدّت في حينها من أفضل مئة رواية عربية، فهي تلفت إلى ضرورة تمكين العمّال وتوعيتهم بواقعهم وظروفهم، ومحو أمّيتهم قبل كل شيء، حتى يعرفوا كيف يدافعون عن حقوقهم ويقاومون استغلالهم.

تغطي أحداثًا دارت في الفترة بين الحربين العالميتين، في منطقة الجنوب التونسي، إذ يذكر الراوي تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفات في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلًا: وقع الاضراب في نوفمبر/ تشرين الثاني 1928.

بعد الصراع على الأرض وسنوات الجفاف وبيع الأراضي تحت ضغط الحاجة إلى الملّاك عبد الحفيظ، يتسرّب المزارعون إلى صفاقص وبلدة المتلوي ليعملوا في معمل الفوسفات، حيث كان المكي والدبنجق يقضيان الليالي في السهر مع العمال، أما الدبنجق فاقترح بعد تعلّم العمال القراءة والكتابة على يد عبد الناصر، أن يؤسسوا حزبًا مثل الحزب الدستوري في العاصمة تونس.

عندما وعى العمال أوضاعهم تولّدت لديهم الرغبة في تغييرها، فاقترحوا الإضراب ونفذوه لمدة أسبوع، ما جرّ عليهم الويلات، من اعتقالات ومواجهات شرسة وعنيفة خلفت كثيرًا من الضحايا، عدا حملات التفتيش التي قام بها العساكر وما نجم عن ذلك من انتهاك الحرمات وهتك الأعراض، مما أدى إلى وقف الإضراب، وقامت السلطات بسجن عدد كبير من العمال، ومثولهم أمام المحاكم العسكرية الفرنسية، وعلى رأسهم الدبنجق المحرّض على الإضراب.

هذه الكتب الأربعة كان الإضراب فيها صورة عن واقع شعوبنا المحكومة بالطغيان، تارة من المستعمر الخارجي، وتارة من أنظمة قمعية، وفي الحالتين فإن الإضراب ممنوع نظريًّا وعمليًّا، وإلّا فاستخدام القوة مباح ومشروع لأنظمة الطغيان، وهي يمكن أن تذهب باستخدامها إلى أقاصي الممكن لديها.

هل تتمكن فاعلية التضامن المأمولة من الإضراب، إن كان في عديد من مدن العالم، أو في قلّة من الدول العربية، من التأثير في السياسات العامة للدول أو للمنظمات الكبرى؛ في وقت ينحاز فيه صنّاع السياسة لإسرائيل، ويقيدون بدرجات متفاوتة مناهضتها؟ وهل ستتمكن الشعوب المقموعة، المستباحة حياتها وحقوقها، من ممارسة هذا النشاط؟ وهل سيخبرنا الأدب ما خفي عن وعينا أو أعيننا، بينما هو منشغل في الحفر والتقاط المعاني الخبيئة؟ إنها مسؤولية الأدب والأدباء، بما أنهم شهود على عصر فاقت فيه وحشية العالم حدود التصوّر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.