}

ديرُ البَلَح: مدينةُ الصيدِ والزّراعةِ والجباهِ العالية

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 27 يناير 2024
أمكنة ديرُ البَلَح: مدينةُ الصيدِ والزّراعةِ والجباهِ العالية
إيقاع الحياة في دير البلح
في دير البلح تمرّس الناس النظر نحو شموخِ النّخيل، فصارت جباهُهم عالية.
عند مطالع الوادي تستريح دير البلح... بعد غزّة المدينة بحوالي 16 كيلومترًا، في قلب القطاع، أو ما اصطُلح على تسميتهِ محافظة الوسط، شرقها شارع صلاح الدين، وبعدَه سكّة الحديد التي كانت تواصل طريقها نحو رفح قادمةً من حيفا، المغازي المدينةُ والمخيمُ شرقها أيضًا، وقربَ المغازي الزوايْدة وجامعة القدس المفتوحة، وإلى الجنوب قليلًا من شرقها القَرارة. غربها البحر. جنوبها خان يونس حين تصبح حارةُ أم ظْهير النقطةَ الفاصلة بين الدير والخان. تستريح بِوصفها واحدةً من مدائن قطاع غزّة وعموم فلسطين.
الكنعانيون كانوا يرون فيها نسيم الجنوب، فأسموْها داروم التي تعني بالكنعانيةِ الجنوب. مرّ بها عمرو بن العاص في طريقه لِفتح مصر. ينام أهلها باكرًا كي يستيقظوا مبكرًا، فهي مدينة المزارعين والصيّادين والجباهِ العالية.
يعرفون نخيلها نخلةً... نخلة، وإنْ رغبت بالتحقق فقد يعُدُّ لك مزارع من مُزارعيها المعمّرين شجرات نخيل تمرِها البالغ عددها 20 ألف نخلة لا يتلعْثم وهو يعدّها منتقلًا من "بِنت العيش" إلى "الحيّاني" إلى "البْريحي" الصنف الذي جاءهم بلونهِ الأصفر من أريحا فأحسنوا وِفادته وكيّفوه على مزاج نخيلهم، فصار واحدًا منهم وَصاروا أهلَه.
للخضرِ فيها مَقام، وللمدفعِ دوّار، وللبحرِ حكاية، ولِموسم قِطاف الزيتون روايةٌ وتعاليلٌ ويرغولٌ و"عونِة"، ولِسوق الثّلاثاء نكهةٌ خاصة، وللفُخّار تاريخٌ، وللفَخَار كذلك.

هجْعة البحر
كما لو أن لبحرِ دير البلح هجْعة تمتصّ عنفوان بحر رفح. هادئ، يريد الحياة، كما أهله شرقه في بُقعةٍ ساكنة، على مهلها ومهلهِ ومهلِ معزوفةِ الأيام تسير وفقَ التّدابير، ترْنو لقبضٍ عنيدٍ على سبلِ العيش، وترسمُ فُسيفساء الحياة كما ينبغي لها أن تكون.
تكاد دير البلح، ويكادُ أهلها، يقولان للزمن تجاوز حدودنا، دعنا نمرّ على مهلِنا، على أقلّ من مهلِكَ خذ حصّتك منّا نحو مقبرةٍ عاديّةٍ متباعدةِ الّلحود، لا مزدحمةِ الشّواهد، ولا مغزارةِ التوريدِ إلى المأوى الأخير.




وفقَ هذه الفلسفة المتصالحة مع ذاتها، اختارت دير البلح لنفسِها مكانًا وسيطًا في قطاعٍ يضجّ بكل أسباب الثورةِ والغضبِ وفورانِ الوجود وانْدفاعات الاشتباكِ المرير. هذا لا يعني أنها حبيسةُ العواطف الباردة، بل يعني أنها تملك مهارة توجيه التأجّج نحو ما ينبغي، وأنّها تُجيد تحديدَ ساعة الانفجار.
بحرُها درسُها ودِراسُها وجرْنُ قمحِها وجرحِها وَليالي سامرِها ودحيّتها ومواسمُ حقولها.
في هجعتِهِ ما يعجبُ أهْلُها، وَما نقشوا مِنه على امتداد السنين لوحةَ انسجامِهِم مع مفردات وعيهِم البهيّ البليغ.
لكن هدوء بحرها قد يكون خادعًا في بعض الأحيان، فتحْتَ موجِهِ الوديع ظلّ البحر المُحاذي لِدير البلح يخفي داخلَ أحشائهِ سفينتيْن حربيتيْن بريطانيتيْن مليئتيْن بِالقذائف والمواد المتفجّرة هما (سفينة HMS M15، والمُدمّرة HMS Staunch)، أغرقتْهما غوّاصة يو سي ـ 38 الألمانية في معركة غزّة الثالثة في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 قُبالة سواحلِ دير البلح. اِكتشفت المقاومة الفلسطينيّة السفينتيْن، وأعادت كتائب الشهيد عز الدين القسام استخدام قذائِفهما في التصنيع العسكري في غزّة. ألم أقل لكم إن هجْعة بحرِها وَوداعة ناسِها ليسا قدرًا، وحين تَحين العاصفة، أو يندفعُ الطوفان، فإن دير البلح على الموعد دائمًا، ومن كان في شكٍّ من أمرِه فليجرّب إغْضاب بحرها.
وَعلى قصّة نفائسِ البحر، فإن المدفع المنصوب وسط دوّار المدفع، هو كذلك من مكتشفات أهل دير البلح في بحر دير البلح.

تاريخ مسروق
حتى عام 1971، كانت دير البلح تحتفظ بأوابدِ تاريخها القديم الذي يعود لِعصورٍ برونزيةٍ معتّقة، إلى أن جاء لصٌّ محترفٌ اسمه موشيه دايان (وزير حرب العدو الصهيونيّ إبّان حرب أكتوبر في عام 1973)، فسرق معظم آثارها ولُقاها ومُقتنياتها وفخّارياتها، وأَخَذها لنفسهِ كجزءٍ من مقتنيات بيته المسروق بدورِه من أحد أبناء فلسطين، لتتحوّل كل مسروقاته بعد موتهِ إلى متحفيْن من متاحف الاحتلال في دولة الاحتلال!
من مقتنياتٍ مسروقةٍ معروضةٍ في بيتٍ مسروق، صنع العدوُّ دولةً/ أُكذوبة.
أمّا الفخّار فكان أكثر صنعة أتقنها الكنعانيون في ديرِهم الذي نُسِبَ بعدَهم لِلبلح. وحتّى يومنا هذا، هناك منطقة قرب دير العزايْزة اسمها "الفاخُورة" نسبة إلى أقدم صنعة عرفتها دير البلح. وأمّا الأرضية الفسيفسائية في تلة أمّ عامر فهي بيزنطيّة. الفينيقيون الكنعانيون كان لهم في تل الرقيش مدينة عريقة. عموري ملك القدس الصليبي بنى فيها ذات زمن قلعة. الراهب المسيحيّ هيلاريوس بنى فيها عند حدود القرن الرابع الميلاديّ ديرًا (وقد تفسّر هذه المعلومة المقطع الأول من اسمها: دير، وهُو ما يرجّحه معظم الباحثين)، ويقال إنه نفسه ما يسمّى هذه الأيام مقام الخضر، والله أعلم. على طريق بريدِ المماليك نَمَت دير البلح وكبُرت وازْدهرت.
ممّا سرقه دايان تابوت مصريّ قديم يعود إلى العصر البرونزي المُتأخِّر. كما سرق مجوهراتٍ ومُتعلّقاتٍ شخصيّة أُخرى وُجدت في مقابر مصرية.

صورة علوية لمخيم دير البلح 

عمارة دير البلح
في عمارتِهم جمْعٌ لمختلفِ العصور التي مرّت على دير البلح، مصريّة وقبرصيّة وفينيقيّة وموكانيّة ومينوسيّة، وهو ما تعكسه، على سبيل المثال، عمارة الحصن القديم هناك.
لاحقًا ظهرت بعض ملامح العمارة الإسلاميّة التقليدية، كما يمكن ملاحظة بعض سمات عمارة بلاد الشام، خصوصًا في فلسطين والأردنّ التي تحتفي بالواجهات الحجر (حجر معان وحجر نابلس وحجر قباطية). كما أن بعض أعمدة الرّخام المرفوعة في بيوتها القديمة الشّبيهة ببعض أعمدة الحرم القدسيّ الشريف، تمثّل مرجعيةً معماريةً وجدت لها مساحاتها داخل تفاصيل المدينة في العصور الوسطى.

مخيمات اللجوء
بشكلٍ أساسيّ، فإن مخيم دير البلح (أصغر مخيمات قطاع غزّة) هو المخيم المرتبطُ عضويًّا بالمدينة، المُشكِّلُ جزءًا من موزاييكِها بموقعهِ في أقصى غربها الشّماليّ ناحية البحر. وهو ورغم مساحته الصغيرة إلا أنه يشكّل موئلَ لجوءٍ لفلسطينيينَ استقروا فيه قادمين من مدن وقرى فلسطينية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: جولِس، عاقِر، روبين، السوافير، والقْبيبة، وغيرها.
صغِر حجم مخيم دير البلح، وعدد لاجئيهِ الأقل من عدد لاجئي باقي مخيمات القطاع، قلّل من حجم التفات الهيئات الدوليّة له، رغم أن تجمعات لجوءٍ صغيرة نبتت حوله مثل: حِكر الجامع، البصّة والبِرْكة. شوارعه أوسع قليلًا من شوارع مخيمات أخرى وأزقّتها. وحينَ يجنّ الشوق داخل جوارح لاجئيهِ القادمين من يافا، فما عليهم إلا أن يُجالسوا البحر أمامهم ويبثّونه السلام لِيافا، ولِمن تبقّى من أهلها فيها.
في سياق متّصل، فإن النسّابين ينْسبون مخيمات: المغازي وَالنصيرات والبريج إلى دير بَلح الكبرى (المحافظة)، رغم عدم دقّة هذا النسب بشكلٍ، أو بآخر، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بمخيّم البريج الأقرب إلى بئر السبع منه إلى دير البلح، كما أن حدود البريج الغربية لا تتصل بدير البلح، بل بمخيّم النصيرات، وحدوده الجنوبية تتصل بمخيم المغازي، ويحدّه خط الهدنة من الغرب. يبقى، والحال كذلك، مخيم المغازي هو المخيم الذي يعدُّ نسبَه إلى دير البلح أكثر منطقية من المخيميْن الآخريْن. فالزوايْدة ودير البلح غربه مباشرة، وهو الأقرب للمدينة من النصيرات والبريج، والنقطة المشتركة الوحيدة بين هذه المخيمات الثلاثة ودير البلح أنهم جميعهم في وادي غزّة الذي يبدأ من جنوب غزّة البلد ويمتدّ حتى رفح جنوبًا.




على سيرة المَغازي فقد كان المخيّم قبل أيام قليلة مسرح ضربةٍ قاصمةٍ تلقّاها جنود العدوّ وضباطُه، وهي الضّربة التي كشفت، وما تزال تكشف، زيفَ الإعلام الغربيّ هذه الأيام، فَمراسلة قناة "فرنسا 24" تتباكى على الهواء مباشرةً على (ضَحاياهم الغلْبانين)، تقول إن الحَزانى (يَدوب) كانوا يزنّرون المباني بِالحشْوات الملغّمة تمهيدًا لِتفْجيرها، حين باغتتْهم قذيفةٌ جائِرة، وعند هذه التفصيلة طَفَحت عيونها بالدّموع!!

سماتٌ مدينيّة
في دير البلح أسواق كثيرة، أشهرها سوق الثلاثاء، علمًا أن بعض مخيماتهِا لها أسواق تُقام في أيامٍ أُخَر؛ مثل سوق الإثنين وسط مخيم النصيرات، وسوق الخميس وسط مخيم البريج. وَفي دير البلح سوق مركزيٌّة كبيرٌة لِلخضار والفواكه، تقع وسط المدينة مقابل مركز الشرطة، وتُباع فيها الخضار والفواكه بشكلٍ يومي، بالإضافة إلى الأسماك واللحوم والطيور الحيّة، ويرْتادها أبناء المدينة والمخيم.
في المدينة مستشفيات لعلّ أشهرها مستشفى شهداء الأقصى الذي بِتنا نسمع اسمه بشكلٍ شبهِ يوميٍّ بعد طوفان الأقصى. وَفيها مدارس ومصانعَ ومجمّعات وَشاليهات واسْتراحات تغازلُ الشاطئ. وَفيها جامعة القدس المفتوحة (فرع الوُسطى)، وكليّة تقنيّة، وبنوك (بنك فلسطين، على سبيل المثال في حي أبو عْريف)، ومتنزّهات وَملاعب كرة قدم وشوارع (عكّيلة، والبِركة، والأقصى، وغيرها) وأحياء (الثّعابين، وَالسلام، وَقاعود، والعزايْزة، وخبّيزة، والشّيخ داود، وَغيرها). وَفيها وادي السّلْقا، وَمكتبة الخضر لِلأطفال وَالعوائِل المُقامة داخل مبنى المَقام.
أقلّ قليلًا من 400 ألف نسمة مجموع تعدادِ سكّان دير البلح ومخيّماتها، يجّددون، بعدَ كلّ حربٍ، البيعةَ على ترميمِ روح المدينة، ومدّ عروقِها بِالأمل.

فلاحون وصيّادون
في الأصل، فإن معظم أهل دير البلح هم فلاحون وصيادون، إلا أن تحولات المدينة أبعدت بعض فلاحيها عن فِلاحتهم، وتسبّبت مضايقات الاحتلال في ترْكِ كثير من صيّاديها مهنتهَم. تقول بعض الأرقام إن صيّادي دير البلح لا يتعدّون هذه الأيام 600 صيّاد.

سوق الثلاثاء 

وإضافةً إلى نخيل التمر، يعدّ الزيتون ثاني أهم محصول في دير البلح، ولموسِمه عبق خاص. كما أن للجزرِ في دير البلح مساحات، وللبطّيخ كذلك، وقديمًا كان يؤمّ المدينة عمّال وفلاحون من خارجها في المواسم (عربُ الأخارِسة، والعْتيم، وغيرُهم)، مثل موسم البطيخ (يسمّونها ليالي البطيخ)، وموسم حصاد القمح. ولِخصب مراعيها، كان يأتي رعاةٌ من خارج دير البلح، وَيرعون دوابّهم هناك.
في مخيّم دير البَلَح، وُلِد الشاعر يحيى عاشور، الذي كتبَ كثيرًا عن الوحش الذي يتربّص بمخيّمه وديرِ بلحِه.
وَليس بعيدًا عن دير البلح، وُلِد الشاعر خميس لطفي (توفي عام 2010) في مخيم النصيرات. كان لطفي، حتى رحيله في العاصمة الأردنية عمّان، عضوًا في الجمعيّة الدوليّة لِلمترجمين واللغوّيين العرب. لهُ ثلاث مجموعات شعريّة هي: "وطني معي"، "عُد غدًا أيها الملاك" و"فوق خطّ التّماس".
في قصيدتِهِ "زمن الكفاح" ما يًشْبِهُ الاستشرافَ لِما يجترحهُ، هذه الأيام، أبطالُ فلسطين من بطولةٍ مُستحيلة:
"يُبَشِّرني أصدقائي وأهلي
وأسمعُ تكبيرةَ الناس حولي.
فأهتف من فرحتي، لا أصدِّق
أن على الأرض فرحانَ مثلي:
سَلِمتَ لنا، يا مُعلِّمَهم
أنَّ للفعل عندك ردةَ فعلِ.
سلمتَ لنا، يا مُفجِّرهم
ومثخنَ أجسادَهم بِالجراحْ.
صياحٌ، وعمَّ المكانَ صياحْ!".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.