}

لماذا نحن قمريون؟ نحن والزمن

فريد الزاهي 5 يناير 2024
اجتماع لماذا نحن قمريون؟ نحن والزمن
(Getty)
إننا لا نكتفي بالاحتفال بأعيادنا الدينية والوطنية. فنحن نحتفل بجميع الأعياد، الإسلامية والأمازيغية، ومعها المسيحية. وكان أسلافنا في المدن والبوادي يشاطرون اليهود أعيادهم. بل إن عددًا من الأولياء اليهود والمسلمين صاروا منذ زمن بعيد محجًا لليهود والمسلمين معًا. والدولة المغربية تخصص ليوم السنة الميلادية (المسيحية) يومًا للعطلة، وسوف يصبح يوم 14 يناير/ كانون الثاني قريبًا يوم عطلة لرأس السنة الأمازيغية، سيحتفل به المغاربة من أصول أمازيغية كما من أصول أخرى.
وما دامت بلدان حوض البحر المتوسط عرفت تداخلًا كبيرًا للثقافات منذ ما قبل التاريخ، جاء الاستعمار ليمنحها نكهة أخرى، فإن بلدان جنوب المتوسط أصبحت ذاكرة زاخرة بالديانات والثقافات والأعراق، لا تحملها في ذاكرتها التاريخية فقط، بل تعود للظهور والاستمرار بأشكال أخرى. صحيح أن العولمة وتطوراتها التقنية المتسارعة ساهمت في خلق ثقافة بصرية وعوائد كونية موحَّدة، لكنها في المقابل، وبفضل تلك التقنيات نفسها، ساهمت في إذكاء جذوة تلك الذاكرة، واستعادة التفكير فيها.

أزمنة في زمن واحد
ظل حلم عبد الله العروي (ومعه، بشكل أو بآخر، عدد من المثقفين العرب في الفترة نفسها)، منذ كتاباته الأولى، يتمثل في التفكير في التاريخ العربي باعتباره تاريخًا ينتج التخلف، لأنه في الأساس تاريخ يعج بالمتناقضات المتعايشة، ويحجز أسس التنوير والعقل والحداثة والتقدم. والتصور نفسه لا نعدمه في صيغة أزلية لدى ابن خلدون، حين يتحدث عن العصبية، وعن عوائد الأمصار التي يتحدث عنها. بيد أن مفكرين آخرين أدركوا (بشكل أو بآخر مرة أخرى) أن تاريخ بلدان جنوب المتوسط تتحكم فيه زمنيات متعددة. ومن ثم قدمت أطروحة بول باسكون، عالم الاجتماع المغربي، ذي الأصول الفرنسية، الذي ولد في المغرب، وحاز على الجنسية، وتوفي فيه، مفهوم المجتمع المركب الذي ينطبق على المجتمع المغربي (والمغاربي والعربي)، والذي يفصح عن تكوين هجين تتعايش فيه زمنيات متعددة بتوازنات غريبة وهشة. وهو يقول بهذا الصدد: "في المجتمعات المركّبة، يتم بالعكس تفادي تحديد المشروع المجتمعي، ويتم التعايش مع التقاليد (وأنا لا أعني بها الفولكلور) والمحافظة على علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية المنتمية إلى عصر سابق وتعزيزها وتحملها، لأن الناس لا يريدون منح أنفسهم وسائل تغييرها".
هذا الازدواج، أو بالأحرى هذه السكيزوفرينيا، المنفصمة بدورها أحيانًا، هي ما يجعل الإنسان في العالم العربي متشبثًا بزمنية أصلية يتمازج فيها الدين والتقاليد والترسبات الذهنية والسلوكية، وفي الآن نفسه منساقًا مع الحداثة التكنولوجية والرقمية كما يعيشها الإنسان الغربي. إن هذه الوضعية تخلق متخيلًا غريبًا، تزداد غرابته كلما تقدمنا في الزمن. فالعودة للتدين وانتشار الأصوليات الدينية ووصولها للسلطة في بعض البلدان جنوب المتوسط، لا يوازيها غير عودة الوطنيات والخصوصيات التي تتغذى من الحدود القطرية (ظاهرة تمغربيت بالمغرب مثلًا).
ثمة علاقة بالزمن والتقدم لدينا ذات إيقاع يرقص على رجل واحدة. في المغرب، مثلًا، حتى لا آخذ مثالًا آخر، ثمة تحديث كبير للبنيات التحتية بإيقاع متسارع يبهر العديدين. بيد أن نظاميْ التعليم والصحة (وهما أساسا كل تقدم حقّ) لا يزالان يشهدان على البلاد كبلد متخلف، بالرغم من الإصلاحات المتوالية التي أهدرت فيها ميزانيات كبرى. فكيف لبلد سيحتضن كأس العالم، وسيفتح أبوابه لجماهير العالم، أن يعيش هذه المفارقة التي جعلت أساتذة التعليم الابتدائي والثانوي يخرجون إلى الشوارع ليعبروا لأول مرة، وبهذا الحجم، عن عددهم الباهر، وعن قوتهم وموقعهم في النسيج الاجتماعي؟ هل كانت "النية" (كمفهوم ديني ميتافيزيقي أسطوري) كافية لتحقيق منجزات المونديال الأخير بقطر؟ ولماذا أضحى هذا المفهوم الملتبس حصان طروادة الذي يتحكم في الإشهار والمعاملات منذ ذلك الحين؟




بعيدًا عن جدلية الضرورة والصدفة، يمكن القول بنوع من المماحكة بأن الإنسان في العالم العربي يفشل فشلًا ذريعًا حين يخطط، وينجح بالنية والصدفة في تحقيق المفاجأة. فمنجزات المغرب في المونديال الأخير، ونجاحه في الحصول على تنظيم المونديال المقبل مع البرتغال وإسبانيا، أمور سرعت من وتيرة تخطيطاته، وقلبت رأسًا على عقب توقعاته الاستراتيجية، وإن عززت بعضها. وها هي البلاد تجد نفسها مضطرة لتحديث بنياتها، وفي الآن نفسه في مواجهة المعضلات التي ظلت تجرها وراءها منذ الاستقلال. قد يستخف المرء بتواتر الزمن، غير أن الزمن يلحق به. فكل المعضلات التي نستهين بها (أفرادًا وحكومات) تلاحقنا وتنفجر في أوجهنا حين نكون قد نسينا أمرها.

الأعياد والمواسم... إيقاع للزمن
إنها في حقيقة الأمر معضلة علاقتنا بالزمن التي تلاحقنا منذ الجاهلية وصدر الإسلام. الزمن باعتباره زمنًا ووقتًا ودهرًا. إننا نعيش منذ طفولتنا على إيقاع ثنائي: إيقاع الأعياد الدينية القمرية، وإيقاع الدراسة والعمل والأجرة الشهرية التي تتبع التقويم الميلادي. والحقيقة أن هذه الثنائية تتبدى في البوادي منذ زمن. فلقد حافظ الفلاحون على هذا الإيقاع المزدوَج حفاظًا على مردودية زراعاتهم. فالفلاح يتحدث لك عن السنة الفلاحية التي تتبع إيقاع الفصول وتتقارب بشكل كبير من السنة الأمازيغية وشهورها، ومن السنة الميلادية وإيقاعها؛ من غير أن يتخلى في إيقاعه الاجتماعي والديني عن السنة الهجرية ذات الطابع القمري. في المقابل، ثمة إيقاع زمني آخر لا يزال، لحد أيامنا هذه، ينظم لقاءات الناس والعمال بمشغليهم، خاصة في المدن الصغيرة والقرى والبوادي. تطلب موعدًا مع العامل، أو الصانع، فيجيبك: بعد صلاة الظهر، أو العصر، أو المغرب، اعتبارًا بأن الصلوات الخمس تشكل إيقاعًا للوقت اليومي. إنها الساعة التي لا تتطلب ساعة ميكانيكية.
في المدينة القديمة لمدينة فاس، كان ثمة ساعة شمسية قرب مدرسة عتيقة تعود للقرن الحادي عشر الميلادي. لكن لا أحد كان يعرف قراءة تواقيتها. وما عدا ذلك لم يكن ثمة في طفولتنا أثر للساعة. وكان ثمة فقهاء متخصصون في التوقيت، أي في تحديد مواقيت الصلاة، وحلول شهر رمضان. ومن أشهرهم عبد الله بن المؤقت صاحب الرحلة المراكشية. ولأن الساعة كانت من علامات الحداثة، فقد كان إسكافي الحي، الرجل المتمدن الذي يرطن بالفرنسية، يضع في واجهة محله ساعة حمراء كانت هي التي أتعرف بها على الوقت لارتياد المدرسة بالأخص. لم أكن حينها قد زرت المدينة الجديدة. ففيها، لم يكن من الغريب أن تكون أغلب المؤسسات الكولونيالية وبناياتها المعمارية، من محل البريد إلى القطار، يشهر ساعة كبيرة تشير إلى الوقت. بل إن برجًا صغيرًا بالدار البيضاء قرب المدينة العتيقة كان قد بني أصلًا كي يحتوي كل ضلع من منارته ساعة كبيرة! فهل كان الاستعمار يشير بذلك إلى أن زمنه أفضل من زماننا؟
وقد لاحظ ذلك إدمون دوطي، منذ أكثر من قرن: "لقد ذكرنا بأن عاشوراء هو أول يوم من السنة الإسلامية، لكن أن يقول المرء إنه اليوم الأول من السنة لدى أهالي شمال أفريقيا سيكون صحيحًا جزئيًا فقط، لأنهم يستعملون تقويمين زمنيين. فهم لهم في الواقع يوميْ أول السنة. وإذا كانت عاشوراء، أول يوم في السنة الإسلامية، موسومة ببقايا عوائد قديمة متصلة بالتجدد، ارتبطت بها خلال التقويم الزمني القمري، علينا أن نتوقع أن تكون بداية السنة اليوليوسية حاملة أيضًا لآثار أعياد عتيقة مشابهة. فالطقوس الممارسة بهذه المناسبة لم تنتقل كلها لعاشوراء، فقد حدث تشتت لها، وبقيت منها أنقاض عديدة في بداية السنة الشمسية، وذلك حال العيد المسمى "إيناير" في بلاد المغرب العربي. وهو اسم ينطق بأشكال مختلفة حسب المناطق، غير أننا ندرك فيه الاسم اللاتيني لشهر "يناير"".

من الاحتفال إلى نمط الوجود في الزمن
هل هذا الطابع المزدوج والمركب سمة ثقافية لنا، لأننا قمريون في علاقتنا بالزمن؟ وهل له علاقة إذًا بتخلفنا، أم هو نتيجة له؟ وهل إن التخلف طبيعة فينا أم أن التقدم يمكنه أن يتخذ وجهة أخرى غير الوجهة العقلانية الرأسمالية التقنية الغربية؟ أي أن يكون مركبًا بدوره، كما هي حال اليابان مثلًا؟
لقد أثبت العرب أنهم قادرون على تقبل العقلانية. بيد أن عقلانية ابن رشد مركبة أيضًا. ويمكننا أن نجد فيها تفسيرًا لطبيعة أنظمة الحكم التي تمارس العقلانية في التحضر، وتمارس غير ذلك في المعتقدات والتشريعات المجتمعية والعوائد والعلاقة بالنساء. من ناحية أخرى، تثبت هذه التركيبة العلاقة التي نقيمها مع الزمنيات المحيطة بنا: فنحن تقدميون ورجعيون في الآن نفسه، متحررون في أمور، ومحافظون في أخرى، ليبراليون في الاقتصاد، ومتشددون في العلاقات الأسرية... والفجوات القليلة التي حدثت هنا وهناك في بلدان العالم العربي أتت متأخرة بوقت طويل، أو جاءت مبتسرة. فهجنة مجتمعاتنا مبنية على التوفيق بين ما يشدنا للحاضر والمستقبل، وما ننشد إليه من الماضي.
لهذا يتطور الكائن والمجتمع في العالم العربي بإيقاعات متعددة، وحسب زمنيات متنافرة. ففي الفضاء نفسه، ناطحات السحاب تواجه مدن الصفيح، والقطار الفائق السرعة لم يقض على العربة المجرورة بالدواب، والهاتف الذكي صار شكلًا من الشفهية الجماعية الصاخبة... وبالشكل نفسه، يتم الاحتفال بعيد المولد النبوي كما بمولد المسيح... إنها زمنية قد تكون مستعصية، غير أنها تقارع الزمن...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.